مقالات

السياسات الإيرانية في المنطقة: الجذور والإشكاليات

سميرة رجب

ربما ألطف وأعمق مقولة جاءت بخصوص أهمية قراءة التاريخ هي مقولة خطيب روما المميز ماركوس سيسرو… المعروف بـ”شيشرون”، الذي عاش في القرن الأخير قبل الميلاد “من لا يقرأ التاريخ يبقى أبد الدهر طفلا صغيرا”، لذلك اهتمت الأمم بمراجعة التاريخ أثناء وضع خططها النهضوية أو التنموية، لتتعرف على الأخطار والمعوقات التي قد تعود وتكون سبباً في عدم الاستقرار والفشل.

فمن له معرفة بتاريخ العداء الفارسي ضد العرب، وبعض من تفاصيل ثقافة العدائية في الشخصية الإيرانية، يتأكد أن أحد أهم عوامل الضعف العربي اليوم أمام قوة النفوذ الإيراني المتصاعدة في بلادنا العربية هو لامبالاة العرب في كتابة وقراءة ومعرفة التاريخ الطويل والخطير لدور الجارة الأزلية في هذه المنطقة.وما يؤكد ذلك هو أنه رغم استمرار سلوك إيران العدائي المتصاعد، والذي بات مكشوفاً، ومتواصلاً في حلقات متسلسلة، منذ بدء نشوء الدولة العربية الحديثة في بداية القرن العشرين، إلا أن الوعي العربي حول عناصر هذه القوة لايزال قاصراً، وهذا ما تثبته نتائج الصراعات الإقليمية التي ما انفكت مستمرة في الساحات العربية.
لقد لعبت إيران عبر التاريخ أدواراً خطيرة ضد العرب، وتمكنت بدعم أوروبي عبر التاريخ الحديث من اقتطاع أجزاء شاسعة من الأرض العربية وضمها إلى بلاد فارس. فكانت الحروب الصفوية ضد العثمانيين أخطر من مجرد كونها حروباً دموية، إذ كانت تنتهي لصالح الفرس حتى في حالة هزيمتهم، لأن روسيا القيصرية والإنجليز، المشرفين الدائمين على مفاوضات الهدنة حينها، كانا يكافئان الفرس دوماً باقتطاع مساحات من أرض العراق وإهدائها إلى إيران بذرائع محبوكة، أهمها قبول وقف القتال (“الحدود الشرقية للوطن العربي… دراسة تاريخية”، د. نزار عبد اللطيف الحديثي، ومجموعة من المؤرخين العراقيين، صادر عام 1981).
لقد كان للصراع الصفوي- العثماني على الحدود الشرقية للوطن العربي آثاراً مدمرة لازالت مستمرة حتى يومنا هذا، إذ كان سبباً في خسارة العرب لأراض شاسعة وغنية بالثروات، وذات أهمية جيوسياسية كبرى للأمن القومي العربي.
ولم تتوقف تلك السياسات بعد سقوط الصفويين، بل استمرت بريطانيا العظمى بإهداء مملكة الأحواز إلى الشاه  رضا بهلوي على طبق من ذهب، في الربع الأول من القرن العشرين… وفي 1971، وقبل مغادرة بريطانيا مستعمراتها في الخليج، احتلت إيران الجزر الإماراتية الثلاث… ولازالت ادعاءات وأطماع إيران في هذا المنحى تشكل أكبر أزمة في المنطقة (المصدر السابق).
لقد فازت بلاد فارس باحتلال كل تلك المساحات، التي تحولت بفضلها إلى إيران الجديدة، ودولة من دول الخليج العربي، مطلة على أهم وأثرى البحار بعد أن كانت قابعة خلف جبال زاغروس… وهي اليوم مهيمنة على الحدود والبحار الشرقية للوطن العربي، بَعَدَ أن لم يكن لها قبل ذلك منفذا بحرياً واحداً.
فاستقوت إيران بسلطتها على بحر الخليج وشط العرب ومضيق هرمز، كما استقوت بثروة العرب النفطية والزراعية والمائية في الأحواز، وعادت اليوم لتصارع دول عربية على بعض من آبار النفط والغاز في مياه خليجنا العربي، ناهيك عن النفوذ العسكري الإيراني المنتشر على حدودنا البحرية الشرقية.
هذا بالنسبة للحدود، ولكن المسألة لم تقف عند ذلك الأمر… فإيران اليوم تحكم عبر أذرعها بلاد عربية كبرى، من العراق إلى لبنان وسوريا واليمن… وتمد نفوذها وأذرعها إلى مناطق أخرى.
لقد كان الاحتلال الأنجلو-أمريكي للعراق سنة 2003 فرصة تاريخية لإيران، ومَن دَرَسَ وتَعَرّفَ على تاريخ بلاد فارس يعرف تماماً بأن إيران ما كانت ستترك فرصة كهذه تمر دون أن تحقق حلمها التاريخي في اجتثاث العراق من هويته وجذوره العربية وتاريخه الحضاري… وهذا ما تفعله إيران اليوم تحت الإشراف الغربي الأنجلو أمريكي والإسرائيلي… وهكذا يتحدث التاريخ لمن يفهم لغته.
في العراق تستثمر إيران اليوم فرصتها التاريخية التي أهداها لها العرب… بل الحلم الذي لم يتمكن الفرس من تحقيقه منذ قادسية سعد بن أبي وقاص، التي تحرر فيها العراق وأطيح بالساسانيين، ليعودوا بعد أربعة عشر قرناً على الدبابات الأمريكية.
وفي ظل التخاذل العربي الكامل في الشأن العراقي، والذي كان السبب المباشر والرئيسي في إلغاء إيران لمبدأ التقية السياسية والعقائدية، والإعلان عن وجهها الحقيقي، وعن أطماعها في اليمن وغيرها، وعن آلياتها النارية والدموية والعقائدية المدمرة، في ظل كل هذا لم يعد ممكناً التنبؤ بمستقبل المنطقة، أو إلى أين ستصل إيران مع منتصف هذا القرن.
فهل يستوعب العرب مدى الخطر الكامن على حدودنا الشرقية؟.
إن تطورات الأحداث التي مرت على منطقتنا منذ بداية حكم الملالي في إيران تؤكد إن ثورتهم أسقطت الشاه، ولكنها لم تُسقط معه المطامع الفارسية في بلاد العرب، ولا العداء والحقد الفارسي ضد الأمة العربية.
لذا يجب أن نعي أهمية قراءة وفهم هذا العدو الأزلي، الذي يبدّل جلده مع تبدل العصور والثقافات، ولديه القدرة الفائقة على تجديد سياساته وخطاباته بما يتناسب مع ظروف العصر ونوع القوى العالمية المهيمنة، في سبيل الوصول لأهدافه.
لقد اتخذ الصفويون من الحراك العقائدي مبدءً سياسياً لتعميق الخلاف بين المسلمين، وقاعدة لكسب الولاء العقائدي ضد العقائد السائدة في جزيرة العرب؛ واستثمروا التاريخ القديم لذلك الحراك الذي زرع الانشقاق حول الخلافة في صدر الإسلام، حول أهم عناصر دولة المسلمين… وطوروا الخلاف ليصبح في تفاصيل الدين والممارسات والعبادات، ثم لتصبح تلك التفاصيل بعدئذ موضوع خلاف جديد بين المسلمين… فأحلّوا الإنسان مكان القرآن والوحي وسيطاً بين المسلم وربه… وتطور إلى حد إضفاء العصمة عليه وإكسابه صلاحيات الألوهية، لتكون وراثة بينهم.
هذه هي نواة قوة إيران، إنه الفكر العقائدي الذي يزرع الخلاف لكسب الولاء. وبأدوات باطنية متقنة يتم استخدام ذلك الولاء العقائدي لصالح الولاء القومي الفارسي… هي أدوات البراجماتية، والاستعلاء، ومزاعم تفوق العنصر الفارسي ضد العرب، وعقيدة الحقد الأزلي ضد العرب، وسياسة التحالف مع الشيطان ضد العرب. هذا هو العمق العدائي الباطني الفارسي المشحون بطاقة كامنة ومدمرة، وتطفو على السطح في شكل ممارسات سياسية تمتهن الكذب، والخطف والمساومة، والترهيب والتعذيب، والاغتيال والدموية… ثم المفاوضة.
لربما يجد البعض أن في هذه الكلمات شيء من القسوة، لذلك أكرر بأنه من الأهمية البالغة الاطلاع على هذه الحقائق عبر دراسة وقراءة التاريخ الطويل للعلاقات الفارسية العربية، والبحث عن الأسباب العميقة للعداء الفارسي ضد العرب (إن وجدت)، ودراسة الشخصية الفارسية، والكشف عن أخطر ما تم إخفاؤه من ذلك الموروث التاريخي الدموي الطويل… وأن يكون ذلك من الأولويات في مراكز بحثية متخصصة.
لقد تمكن الفرس من إخفاء عمق شخصيتهم العدائية، التي تشكل أطرهم الفكرية والسياسية والاجتماعية والعقائدية، لتبقى شأناً باطنياً لا يعرف تفاصيلها الخطيرة إلا من يرثها، ومن يعيشها، ويمارسها، ومن يعاني من سطوتها… وأبدعوا عبر التاريخ أن يجعلوا التراث العقائدي والأخلاقي الفارسي منغلقاً على ذاته، وعلى لغته الفارسية، وعلى أبنائه، وعلى العِرق الفارسي.
إنها الثقافة الباطنية، التي لا تشبه غيرها من الثقافات، والتي يُبْطِنُ بها الفرد والمجتمع غير ما يُعْلِن، ويجيد إخفاء حقيقته ليظهر ذاته بصورة مغايرة تماماً، فيبدو في صورة المتحضر، المهذب، المسالم، المسكين، والذي يعاني من المظلومية على مدار التاريخ، للوصول إلى هدفه.
من هذه المقاربات علينا دراسة ومعرفة الأسباب التي مَكّنَت إيران من نشر نفوذها في صفوف العرب، واختراقها العمق الوطني والقومي العربي، ونجاحها في استيطاننا فكرياً، وكسب ولاء أبنائنا عقائدياً وقومياً.
بجانب كل ذلك لا يمكن إنكار الدور الخارجي الذي تمَكّنَ الفرس على مدار التاريخ من تسخيره لصالحهم، بينما لم يتمكن العرب حتى اليوم مجرد استيعاب حقيقة هذا الدور، أو معرفة تفاصيله الكثيرة والدقيقة، فما بالك ببناء مشروع عربي لمواجهة أخطاره.
عمل الفرس عبر التاريخ بهذه الممارسات، في استغلال الفرص التاريخية، حتى وصلوا إلى أهداف كان تحقيقها يعد حلماً بعيد المنال.
وهنا يجب التأكيد بأنه عبر التاريخ لم يردع إيران أمر غير فعل القوة، فهم يخافون من القوي ويهابونه… وأمامه تسقط أدواتهم وعدائيتهم… ويدخلون في حالة الكمون والتربص… بانتظار الفرص التاريخية التي لطالما كانت في خدمتهم.
أخيراً، علينا أن نعي بأن القوة الإيرانية الكاسحة التي نراها اليوم، هي قوة مدعومة داخلياً وخارجياً، وتعرف طريقها، وحلفائها، وتعرف جيداً بأن من ينازلها اليوم من العرب فاقد للقوة الصلبة والناعمة أمامها… فاقد لقوة المعرفة بتفاصيل تاريخ الدور الفارسي في بلاد العرب، هذه المعرفة التي صاغها خليفة المسلمين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قبل أربعة عشر قرناً في جملة واحدة “أيا ليت بيننا وبين الفرس جبل من نار لنتق شرهم”… المأثورة التي يبدو لنا اليوم أن العرب لم يفهموها بقدر ما فهم الفرس معانيها كلمة كلمة.
وفي ظل هذا الواقع العربي المؤسف تجد إيران اليوم فرصتها التاريخية للتقدم والاجتياح، بانتظار ساعة المفاوضات والحوار، حينها ستكون في موقع متقدم، وستفاوض بحكم الأمر الواقع، وسترفض التفاوض على ما اكتسبت وكسبت على الأرض التي تحارب عليها وتحكمها منذ سنوات، بل ستفاوض من موقع القوة، وستطالب بالمزيد أمام الموافقة على سِلمٍ آني، لن يطولَ أجله… ومن المؤسف جداً أن الواقع الدولي والإقليمي اليوم يبدو متهيأً لكل ذلك… وسنكون من الخاسرين.
لمن يسأل: ما الحل! في الوقت الذي بدأت دعوات الحوار والتفاوض تتصاعد، نقول بأن من يذهب للحوار مع إيران (أو أذرعها) عليه أن يحمل معه المعرفة التاريخية العميقة في الشأن الإيراني، ومعرفةٍ أعمق بأسلوب الحوار الإيراني الفريد من نوعه، ومعرفة أكثر عمقاً بمدى قدرة العناد والصبر الإيراني اللامتناهي على قاعدة “نعم للتفاوض ولا للتنازل”، ومبدأ “خذ وطالب”… وأخيراً، أن يلغي من حساباته مبدأ الاعتماد على الحلفاء والأصدقاء على الساحة الدولية… أو الإقليمية…
هذا ما يقوله التاريخ.

موضوعات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى