الجزر المحتلة وبناء الثقة في الخليج العربي
سالم الكتبي
تختلف الشخصيات التي تجلس على كرسي السلطة وتتولى المناصب في إيران ولكنها تتفق جميعها على ما تعتبره ثوابت في السياسة الخارجية، التي يرسمها ويحدد بوصلتها المرشد الأعلى، وفي مقدمة ذلك يأتي الموقف الخاص باحتلال الجزر الاماراتية الثلاث (طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبوموسى)، التي يتسم الموقف الايراني حيالها بالجمود ومجافاة العقل والمنطق والحقوق المشروعة للدول، والاصرار على مواصلة احتلال أراضي الغير رغم الادراك التام أن هذه السياسة تمثل أحد أهم العوائق التي تحول دون وجود علاقات طبيعية عبر ضفتي الخليج العربي.
تاريخياً، لا يختلف الخطاب السياسي الايراني تجاه الجزر الاماراتية الثلاث المحتلة سوى فى المفردات وطريقة التعبير عما يراه الملالي موقفاً ثابتاً لهم في هذه القضية التي تمس سيادة دولة جارة، حيث أكد المتحدث باسم الخارجية الايرانية سعيد خطيب زاده رداً على في بيان مجلس التعاون الخليجي بشأن الجزر الاماراتية المحتلة أن “الجزر الثلاث تعود ملكيتها الى ايران بصورة قطعية”، وأضاف أن “إصدار البيانات المكررة والمملة لن يغير واقع كونها إيرانية إلى الأبد”، وأن “على مجلس التعاون الخليجي أن يعرف بأن مطالباته غير المقبولة وكيل الاتهامات الواهية ضد إيران وتكرار أمور مر عليها الزمن ليست الحل للمشاكل الاقليمية ومشكلات هذه البلدان.. المنطقة بحاجة لتغيير النظرة من الاعتماد على الخارج نحو التعامل البناء بين دول المنطقة واعتماد النظرة الشمولية بدلا من النظرة الإقصائية”! يتحدث زاده هنا وكأن الممارسات الاحتلالية تترسخ بالتقادم بحيث يكتسب الاحتلال مشروعية، وهذه بطبيعة الحال نظرة قاصرة تجافي القانون الدولي، ناهيك عن وعي الشعوب وذاكرتها التي لا يمكن أن تغفل عن ذرة من ترابها يحتلها آخرين!
هذه اللهجة الايرانية في التعامل مع قضية الجزر الاماراتية الثلاث المحتلة أو مع المواقف الرسمية الصادرة عن مجلس التعاون لدول الخليج العربي تؤكد أنه لا شىء يتغير في طهران بغض النظر عن محاولات تحسين الصورة والادلاء ببيانات “علاقات عامة” تروج لأفكار مناقضة تماماً للسلوك الايراني على أرض الواقع على شاكلة الحديث عن “حسن الجوار” و”التعاون الاقليمي”، فللملالي تصورات ورؤى ذاتية لكل هذه المفاهيم والمفردات بما يتناقض تماماً مع المعنى والمغزى الحقيقي لها.
ببساطة شديدة، يرى ملالي إيران أن الحفاظ على الأمن الاقليمي يتحقق من خلال هيمنتهم على دول المنطقة وفرض نفوذهم وسيادتهم على توجهات دول الجوار وسياساتها الخارجية، التي يجب أن تمر عبر البوابة الايرانية، بكل ما يعنيه ذلك من انتقاص من سيادة هذه الدول وحقها في بناء شبكات العلاقات والتحالفات والشراكات الاستراتيجية بما يتوافق ويخدم مصالحها الاستراتيجية؛ حيث ينطلق الملالي في هذا الشأن من نظرة دونية لا تتماشى مع واقع الأمور ولا حتى توازنات القوى الاقليمية، ويختزلون نظرتهم لجوارهم الاقليمي في رؤية محدودة وضيقة للغاية لا تستوعب المتغيرات التي طرأت على المنطقة في العقود والسنوات الأخيرة في مختلف المجالات والأوجه ومظاهر القوة الشاملة للدول، بل لا تأخذ باعتبارها احترام القوانين والمواثيق الدولية التي تأسست على مبادىء راسخة يفترض احترامها والالتزام بها من جانب كل الدول، وفي مقدمتها حق السيادة وحسن الجوار وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى.
الغريب أن كل نظام حكم إيراني جديد، ورغم أنه لا ناقة له ولا جمل في رسم السياسة الخارجية، يستهل عهده بالحديث المتكرر عن رغبته في تعزيز العلاقات مع دول الجوار، وفي ذلك يقول المتحدث باسم الخارجية الايرانية “أن بعض دول منطقة الخليج التي تسعى لفرض نظرتها المعادية لإيران على باقي الدول وتحاول أن تتلقى الدعم من دول خارج المنطقة، أن تغير من نهجها وتركز على المحادثات الإقليمية وبناء الثقة لدعم الدبلوماسية في المنطقة”، وهذه التلميحات مفهومة بطبيعة الحال ومفهوم المقصود منها تحديداً، ولكن غير المفهوم هو تغاضي الساسة الايرانيين عن أسباب ما يعتبرونه عداء من جانب بعض دول مجلس التعاون لإيران، ويتجاهلون أن المسألة لا تتعلق بإيران الشعب والتاريخ، بل تتعلق بسياسات وتوجهات من يجلس على كرسي السلطة، فدول “التعاون” تدرك تماماً ضرورة احترام حسابات الجغرافيا وأهمية وجود علاقات طبيعية في المجال الجيوسياسي والجيو استراتيجي لهذه الدول، ولكن الحاصل أنه لا يمكن ترجمة هذه القناعات في ظل اعتداءات متكررة على سيادة هذه الدول بشكل مباشر أو غير مباشر، وبصراحة أكثر سواء باحتلال اراضيها كما هو حادث في حالة الجزر الاماراتية الثلاث والتدخل في شؤون هذه الدول كما حدث مسبقاً وبشكل متكرر في الحالة البحرينية، أو من خلال تسليح ميلشيات طائفية تقوم بالاعتداء على منشآت حيوية في دول الجوار كما حدث ويحدث من جانب نظام الملالي وذراعه الطائفي الحوثي في اليمن!
المؤكد أنه لا يمكن بناء الثقة على أشلاء الحقيقة، فالصراحة والوضوح والمكاشفة أسس رئيسية لتحسين الأجواء والبيئة الاقليمية وتهيئتها للحوار والتعاون وكل ما يلزم لتحقيق الأمن والاستقرار، ولا علاقة لذلك كله بالقوى الكبرى أو التحالفات القائمة بينها وبين دول المجلس، فالسلوك الايراني هو المحدد والبوصلة الرئيسية لغرس الثقة، وبالتالي فإن اجترار الحديث الايراني المعتاد حول الجزر الاماراتية المحتلة، ورفض أي بدائل أو حلول سياسية أو قانونية للتوصل إلى تسوية عادلة لها لا يعكس سوى تعنتاً غبر مبرر من نظام يمارس الاستعلاء والعنجهية على جواره الاقليمي وينتظر من الآخرين الخضوع لرؤيته دون نقاش أو جدال!
الخلاصة أن ضمان الاستقرار في منطقة الخليج العربي يبدأ بالتخلص من أسباب التوتر وعدم الاستقرار، وهنا لا يتعلق الأمر بفرض رؤى وقناعات أي من الطرفين، ولاسيما فيما يتعلق بقضية الجزر الاماراتية، فالامارات لم تطرح سوى حلول منطقية يقبلها العقل السوي، إما حوار مباشر دون شروط مسبقة ووفق جدول زمني محدد، أو إحالة القضية برمتها إلى التحكيم الدولي كي يقول كلمته، ويضع النقاط على الحروف، ولكن الحاصل أن إيران تتمترس وراء موقف لا سند قانوني له، وتسعى لفرض الأمر الواقع وهذه ليست سوى سمة من سمات التسلط وممارسة من ممارسات عهود استعمارية بائدة.
إيلاف