مقالات

التحالف العربي والملف اللبناني

وليد فارس

شاء القدر أن معارضة جديدة بدأت بالظهور في بيروت بمتظاهرين من المجتمع المدني، وتحرك بكركي باتجاه المطالبة بمؤتمر دولي و”الحياد”، وانطلاق جبهات سياسية تسمي “الاحتلال الإيراني” بالاسم وإذ يتقدم التحالف العربي ضد الحوثيين في اليمن، وتتحرك المملكة العربية السعودية دولياً لمواجهة الانفلاش الإيراني، وترفض حركات المقاومة في الشرق الأوسط الميليشيات المدعومة من طهران، من العراق، إلى اليمن، فسوريا، ولبنان، وإذ تتصاعد المواجهة المباشرة أو عبر أطراف ثالثة بين إسرائيل وإيران، يبدو العام 2022، وكأنه بداية، ولو محدودة لتعبئة إقليمية ضد التهديد الإيراني المتصاعد، وقد أشرنا في مقالات ومقابلات سابقة إلى ساحات المواجهة أكانت عبر المنطقة، أو في أروقة واشنطن. وعلى الرغم من أن إدارة جو بايدن لا تزال مصممة على إتمام عودتها إلى الاتفاق النووي، ولو بأوجه مختلفة، فالقوى الإقليمية التي استهدفتها إيران على مدى السنين والعقود، هي أيضاً مصممة على مواجهة طهران، مع أو من دون الولايات المتحدة، فالإقليم يعرف، عبر الخبرة التاريخية، أن واشنطن تغير مواقفها كل أربع أو ثماني سنوات، حسب من في البيت الابيض، ومن يتحرك في الشرق الأوسط وكيف.

لذا، فالتحالف العربي، وبموازاته “الجبهة الإبراهيمية”، ومعهم القوى المعارضة للمشروع الإيراني، باتوا يتحركون استراتيجياً على أساس أن أجندتهم الإقليمية هي ثابتة، بينما الأجندة الأميركية تتغير مع الحلقات الانتخابية، وكما كتبنا في المقال السابق، فالتحالف، ومعظم حلفاء أميركا في المنطقة، يعملون الآن على أساس التصدي لإيران من دون معاندة واشنطن في سعيها الحثيث لتوقيع الاتفاق. لذا يطرح السؤال حول ملفات المنطقة وما يمكن أو يجب التحالف أن يقوم به حيالها، في المرحلة الانتقالية بين موقف أميركي وموقف آخر. ومن الملفات المعقدة، الملف اللبناني. فماذا يمكن التوقع؟

لبنان والمبادرات العربية

إذا سألت اللبنانيين من مختلف الأجيال المتلاحقة، فهم يتذكرون ويذكرون المبادرات العربية تجاه بلادهم منذ نصف قرن إن لم يكن منذ ولادة الجمهورية اللبنانية، وقد يكون لبنان البلد الوحيد في الجامعة العربية الذي اختبر عقوداً من المبادرات، والتدخلات، والوساطات العربية، وهو أمر لم تختبره الدول العربية الكبرى كالسعودية، ومصر، والمغرب، والجزائر، وغيرها، بل فقط الدول التي تفجرت فيها حروب داخلية كسوريا، وليبيا، واليمن، والعراق، ولكن ليس بالنسبة العليا التي عصفت بلبنان. فمنذ استقلالها عن الانتداب الفرنسي في 1943 ومشاركتها في تأسيس جامعة الدول العربية، عرفت الجمهورية اللبنانية تداخلاً مع الحكومات العربية، منها ما كان سلبياً ومنها ما كانت محاولات لوقف التدهور، والمحطات الكبرى في التداخلات بدأت مع الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر منذ الخمسينيات إلى وفاته في 1970، ومع المنظمات الفلسطينية منذ نهاية الستينيات حتى حرب 1982.

إلا أن أكبر تدخل “عربي”، سياسي، وأمني، وعسكري، في لبنان كان مع اجتياح قوات نظام حافظ الأسد البقاع وبعض المناطق الأخرى ابتداء من 1976، وقد حاولت الجامعة العربية احتواء التدخل هذا عبر مؤتمر الرياض، وإرسال “قوات ردع عربية” لمساندة “حل عربي” لوقف الحرب. واستمرت المواجهة بين النظام السوري والمنظومة العربية بقيادة المملكة العربية السعودية حول لبنان حتى الاجتياح الإسرائيلي، ودخول الرياض، وبعدها التحالف الغربي على الخط، لدحر المحور السوري- الإيراني. إلا أن اغتيال الرئيس اللبناني بشير الجميل، والانسحاب الإسرائيلي الأحادي، والعمليات الإرهابية لـ “حزب الله” ضد القوات الغربية، والانهيار الداخلي التدريجي للمناطق المقاومة للاحتلال السوري بين 1983 و1986، أدى إلى تعطيل كامل للدور العربي الاعتدالي، وتقدم المحور السوري- الإيراني.

وقد بقيت للمناطق الحرة في لبنان فرصة واحدة بين 1986 و1990، لكي تعيد بناء علاقة استراتيجية بينها وبين حلف غربي – عربي يوازن المحور الإيراني، ويساعد على استرجاع سيادة لبنان، وتدخلت الجامعة العربية بقيادة السعودية والكويت لتفرض وقف إطلاق نار بعد ستة أشهر من القصف المتبادل بين الجيش اللبناني والجيش السوري وحلفائه داخل لبنان عام 1989، واستضافت المملكة مؤتمر الطائف ذلك الخريف لإنهاء الحرب، ووافق الغرب عليه، ولكن الانقسام السياسي العميق بين قيادات المسيحيين (انقسام عمل عليه النظام السوري)، الذي أدى إلى حرب داخلية طاحنة في المناطق الحرة وسقوط الحكومة العسكرية في 1990، أخلّ بالميزان الاستراتيجي في لبنان لعقود، ما حصر دور عرب الاعتدال في المسائل الاقتصادية فقط، بينما سيطر “المحور” على الأمن القومي والدفاع في لبنان منذ 1991، ما منع الدول العربية والغربية من مساندة مقاومة لبنانية ضد الاحتلالين السوري والإيراني في التسعينيات، لأن تلك المقاومة انهارت واختفت بمعظمها حتى العام 2000 حيث أطلق البطريرك الماروني الراحل نصر الله بطرس صفير معارضة شعبية واسعة للاحتلال، تبعتها حرب ضد الإرهاب شنتها إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش في المنطقة، بالتعاون مع الحلفاء العرب، ما فتح مجالاً أمام الجاليات اللبنانية لتطالب بإخراج قوات الأسد من لبنان. فصدر القرار 1559 من مجلس الأمن، بتأييد سعودي وعربي، وضغطت واشنطن وباريس، بدعم عربي، على نظام الأسد الذي خشي تدخلاً عسكرياً كما حدث في العراق، فانسحب. ولكنه أبقى جيشه الثاني وراءه، أي “حزب الله”.

الموقف العربي بعد “ثورة الأرز”

وكما حدث مع عرب الاعتدال في مناسبات سابقة في 1976، و1983، و1989، شكل الانهيار الداخلي لحلفائهم في لبنان، سبباً لعدم توازنهم مع إيران ومحورها في لبنان، ولكن انسحاب الأسد في أبريل (نيسان) 2005 بفضل الضغط الأميركي- الفرنسي، أعاد فتح الباب أمام مشاركة عربية في جهد غربي، ما دامت إدارة بوش ممسكة بالملف اللبناني بقوة، وحكومة “ثورة الأرز” مصممة على المواجهة مع “حزب الله”، وهنا أيضاً تكررت النكسة، إذ إن الشركاء اللبنانيين، أي قوى “14 آذار”، أخفقوا في إدارة المعركة، فتحالفوا مع “حزب الله” “انتخابياً”، ورفضوا المطالبة العلنية بالفصل السابع، وانتخاب رئيس سيادي بالنصف زائداً واحداً، وأخيراً، وليس آخر، في مايو (أيار)، 2008، تم إخماد المقاومة ضد هجمات الحزب من قبل السياسيين في ظرف أسبوع، فلا الأميركيين، ولا العرب سيركضون إلى الحرب، إذا كان اللبنانيون المعنيون بها يركضون إلى الدوحة للتفاوض، من هنا انكفأ الدور العربي مجدداً بعد أن أيّد، ولو بفتور، مقررات الدوحة التي أعادت السلطة للحزب في لبنان، واستمر الانكفاء العربي عن لبنان حتى تصاعد الهجمة الإيرانية في المنطقة مع الاتفاق النووي وتصدي التحالف العربي لها.

التحالف يقف مع من يقف

عندما انطلق التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية، مع شريكتيها الأساسيتين مصر والإمارات وغيرهما، على إثر تقدم الميليشيات الإيرانية والإسلاموية في المنطقة، لا سيما منذ 2011، كان لبنان لا يزال يرزح تحت “الاحتلال الإيراني” من خلال ميليشيات “حزب الله”، وكانت إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما لم ترسم سياسة غير “الستاتيكو” للبنان، بسبب الاتفاق النووي، ومرت السنون من دون هبّة شعبية لبنانية ضد هذا الاحتلال، ومع قدوم إدارة الرئيس دونالد ترمب، عادت الحفاوة إلى العلاقات العربية- الأميركية، لا سيما بعد قمة الرياض في مايو (أيار) 2017، وتجمعت الظروف أكثر وتلاقت القيادة السعودية مع البيت الأبيض على ضرورة تحجيم “حزب الله” في لبنان، ما كان ناقصاً كانت “المقاومة اللبنانية”، أو عودة “ثورة الأرز”، لفتح الباب أمام مبادرة عربية قوية ومدعومة أميركياً، الحراك الشعبي الهائل في لبنان لم ينفجر إلا في السنة الثالثة لرئاسة ترمب، ولم تركز قياداته على “نزع سلاح حزب الله”، والأسوأ أن “حزب الله” تمكن من التأثير على “أقصى يسار” الحراك، فامتنع العرب عن التدخل، ولم تعرف إدارة ترمب مع من تتشارك، وتفشى كورونا، وانتهت الموجة، وأقفلت النافذة مجدداً على دعم عربي بسبب انتفاء قاعدة لبنانية شعبية مستمرة، تلاقي التحالفات الخارجية، في الوقت المناسب، وبالشعار المناسب، وبحد أدنى من الوحدة الداخلية.

زمن جديد للمعارضة اللبنانية

شاء القدر أن معارضة جديدة، أكثر وضوحاً، وحزماً، وتركيزاً، بدأت في الظهور داخل لبنان، بدأت بمتظاهرين من المجتمع المدني يرفعون شعارات هادفة كتطبيق القرار 1559، وتحرك بكركي (البطريركية المارونية) باتجاه المطالبة بمؤتمر دولي و”الحياد”، وانطلاق جبهات سياسية جديدة تسمي “الاحتلال الإيراني” بالاسم، وصولاً إلى انفجار نقاط مقاومة ميدانية ضد الميليشيات في مناطق درزية، وسنية، ومسيحية، من شوّيا (جنوب لبنان)، إلى خلدة (جنوب بيروت)، فعين الرمانة (ضواحي بيروت)، إلى تعاظم أصوات الشيعة الليبراليين في مواجهة الميليشيات الخمينية لا سيما منذ اغتيال لقمان سليم، الناشط الديمقراطي الشيعي، وشاءت الظروف أن بزوغ المعارضة – المقاومة الجديدة في لبنان يتزامن مع أربع سنوات من إدارة الرئيس جو بايدن، المصممة على عودة الانخراط في الاتفاق النووي وبالتالي اتباع سياسة أوباما العاملة على فك أي اشتباك مع طهران، بالتالي الامتناع عن مساعدة المعارضات ضد إيران، ومنها المعارضة اللبنانية ضد “حزب الله”، فكأن اللبنانيين السياديين يخطون الآن خطوات باتجاه المواجهة، بينما واشنطن تمشي بعكس الخط، بالطبع وقعت أخطاء كثيرة في السنوات والعقود الماضية عندما كان الوقت ملائماً لمبادرة عربية جدية تجاه لبنان، وهي الآن من الماضي. ولكن الأكثرية في لبنان، والسياديين، بخاصة، باتوا في موقع تاريخي دراماتيكي، إذ البحر من ورائهم، و”حزب الله” من أمامهم، والخيارات باتت اثنين، إما الاندثار، وإما الانتصار، فليس لديهم مجال التموج، والاستشلاء، والتأني، من هنا، على الأطراف الإقليمية والدولية أن تنزل إلى ساحة لبنان وتقف مع شعبه.

خيارات التحالف في لبنان

الولايات المتحدة تحت إدارة بايدن تسير باتجاهين مختلفين متناقضين، الإدارة متمسكة بالعودة للاتفاق مهما كلّف الأمر، تقريباً، بالتالي ليس لديها مشروع لفتح جبهة سياسية أو ميدانية في لبنان، لأن ذلك سوف يكلفها الاتفاق، ولكن المعارضة، بقيادة الجمهوريين، وبدعم قاعدة ترمب، تعارض هذه السياسة، بالتالي تؤيد إجراءات ضد الوجود الإيراني في لبنان، والمنطقة عامة.

هذا السباق سيحسم في الانتخابات النصفية في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، فما هو مطلوب للبنان، هو جسر إقليمي يتلقف الملف اللبناني دولياً، حتى حسم هذا الموضوع أميركياً في الخريف، والتحالف العربي هو في أفضل موقع لاستلام الملف ودفعه إلى الأمام في الأشهر الآتية. فالسعودية، وحلفاؤها يتقدمون في اليمن، والتيارات المناهضة لإيران تتقدم في العراق، وشرق سوريا صامد، أضف إلى ذلك أن اسرائيل تضع ضغطاً تصاعدياً على منظومة الميليشيات الإيرانية في سوريا والعراق، لا تبقى إلا جبهة لبنان حيث المعارضة ظهرها إلى الجدار، إنها المعادلة الجيوسياسية الأفضل لعرب الاعتدال لعمل استراتيجي تجاه لبنان، بخاصة في هذه السنة “الانتظارية”.

عمل ماذا؟

هناك أمور كثيرة بإمكان التحالف أن يقوم بها، من الحلقة الأوسع دولياً، إلى الحلقة الأضيق محلياً. في الأمم المتحدة، بإمكان التحالف طرح الملف اللبناني بقوة مستنداً إلى القرارات الدولية، بخاصة 1559 و1701، والعمل مع الجاليات اللبنانية في العالم لتثقيف الحكومات والرأي العام حول الموضوع.

إقليمياً، عقد جلسات خاصة لبحث موضوع الميليشيات والإرهاب في لبنان، كما عقد مؤتمر مع الفعاليات اللبنانية المعنية في عواصم عربية، بما فيها الرياض.

أما محلياً في لبنان، فيجب دعم المجتمع المدني، والمؤسسات غير الحكومية، والمقاومة المدنية ضد الاحتلال والإرهاب، ومساعدة البلديات والمؤسسات الاجتماعية لتصمد في المرحلة الحالية.

موجبات السياديين

إذا أراد السياديون أن يتحرك التحالف باتجاههم، فعليهم أن يتحركوا لملاقاته في منتصف الطريق، فلا تردد، ولا تلكؤ، ولا تأجيل، ولا صفقات من وراء الظهر مع “حزب الله” و”إيران”. فعلى الموجة الإيجابية الصلبة الحالية أن تستمر وتركز أكثر فأكثر، وعلى السياديين ألا يقاربوا التحالف العربي الحديث، وهو يقوده زعماء أذكياء، إصلاحيون، استراتيجيون، بالعودة إلى نغمات الماضي في التغالي بالعروبة والشعر والنثر المدحي، فالتحالف العربي الحديث لا يطلب ولاء عاطفياً بل شراكة استراتيجية ذكية قائمة على خطط واضحة، لا قصائد وبكاء على الأطلال، على السياديين في لبنان أن يكونوا في المقدمة ويطلبوا الدعم، وليس في المؤخرة يلقون المحاضرات حول كيفية القيادة.

الملف اللبناني حرق كل من حاول أن يتحكم به من أصدقاء لبنان، إلا أن أفضل مدرسة في التاريخ هي مدرسة التجارب، فهل ينجح اللبنانيون، مقيمين ومهاجرين أن يقنعوا عرب الاعتدال، والعالم الحر أجمع، أن يعطوا بلد الأرز فرصة أخرى للحياة، وأن يثقوا بجيل لبناني جديد، يحاول تفادي أخطاء من سبقه؟

نقلا عن ” اندبندت عربية”

موضوعات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى