البيان في انتخابات لبنان
خالد اليماني
لم يتأخر “حزب الله” كثيراً ليفصح عن حنقه الشديد من نتائج الانتخابات البرلمانية ومن اللبنانيين، الذين رفضوا مشروع إيران لصالح مشروع “السياديين”، فخرجت يوم إعلان النتائج مسيرات أنصار الحزب في بيروت تلوح بالعصا الغليظة وبقدرته على عرض العضلات، فيما حذر رئيس كتلة ما يسمى “الوفاء للمقاومة” السيد محمد رعد كل من تسول له نفسه التفكير بأن لبنان يمكن أن يتحرر من الولاية الإيرانية.
ولوح رعد بالحرب الأهلية في وجه القوات اللبنانية، الفائز الأكبر في هذه الانتخابات والقوة التي ترفع شعارات السيادة ضد الإلحاق الإيراني، بالقول، “نتقبلكم خصوماً، ولكن لن نتقبلكم دروعاً للإسرائيلي ومن وراء الإسرائيلي”، وكأن لسان حاله يقول للقوات اللبنانية “لا نحول بين الناس وألسنتهم، ما لم يحولوا بيننا وبين حكمنا”.
وبنظر المراقبين، فإن لهجة “حزب الله” التصعيدية ستتواصل بما يوازي تحرك القوى السيادية في تعديل الخلل في المعادلة السياسية اللبنانية، التي نتجت عن اتفاق الدوحة 2008 الذي أنهى الأحداث الدامية التي شهدها لبنان في مثل هذا الشهر منذ 14 عاماً، حينما هددت عصابات “حزب الله” وشركاؤه السلم الاجتماعي، ملوحة بالحرب الأهلية، وانتزعت اعترافاً من الجميع حينها بأنها الحاكم المطلق للبنان على الرغم من نتائج أي استحقاق سياسي.
ومنذ ذلك التاريخ، فرضت على كل المكونات في البرلمان والحكومة سياسة التدجين والخنوع عبر أعراف جديدة غير مسبوقة في التاريخ السياسي اللبناني، مثل إدارة الدولة بالتوافق، أي منح “حزب الله” الفيتو، أو ما عرف بـ”الثلث المعطل”، وإدخال مفاهيم مثل دستورية سلاح المقاومة أو “ثلاثية الجيش والشعب والمقاومة”.
وهذه المفاهيم الدخيلة على فلسفة “قوة التوازن” في الحياة السياسية اللبنانية، والتي ألغاها “حزب الله” بقوة السلاح عبر فرض فلسفة “توازن القوة”، هي التي تمرد عليها الشعب اللبناني في الانتخابات الأخيرة، حينما منح القوات اللبنانية بقيادة “الحكيم جعجع” الصوت الأعلى لاستعادة البلد الذي اختطفه “حزب الله” بالتعاون مع المنتفعين الوصوليين من التيار “العوني”.
تحت هذه العناوين، ستشهد الأيام والأسابيع والأشهر، وربما السنوات القادمة، صراعاً محتدماً في لبنان بين قوى السيادة اللبنانية وقوى الإلحاق الإيرانية، وسيكون من السهل على “حزب الله” جر الجميع إلى ساحة الحرب الأهلية، فيما سيكمن التحدي الأكبر لتحالف “السياديين” في عدم الانزلاق إلى الطريق التي سلكها الرئيس سعد الحريري في تجربة استرضاء الحزب وسلاحه، وإدارة البلد وفق شروطه، بل وممارسة الضغط الشعبي والعربي والدولي لتحقيق تطلعات اللبنانيين لاستعادة روح لبنان العربي الحر.
نتائج إشكالية
نتائج الانتخابات البرلمانية النهائية أبرزت فسيفساء جمعت بين الطائفية اللبنانية التقليدية وقوى “التغييريين”، على الرغم من أن ما سمي قوى “الثورة” ما زالت مشتتة الأجندات، وهي مؤلفة من مجموعات سياسية متمايزة من خارج الاصطفاف الحزبي التقليدي، وقد حققت 10 في المئة من مقاعد البرلمان الجديد. ولن يكون لفعل هذه القوى الجديدة أي وزن سياسي حقيقي إن هي رفضت التعاون مع “السياديين” الذين يبتغون التعامل أولاً مع السرطان الإيراني.
وفي الساحة المسيحية، استطاع حزب “القوات اللبنانية” أن يقنع المسيحيين بخطورة ممارسة “التيار الوطني الحر” لدور التابع لـ”حزب الله” ومشروع إيران في لبنان والمنطقة. واعتبر المراقبون أن التصويت لصالح القوات، حمل رسالة عدم رضا الشارع المسيحي لتوجهات العونيين والباسيليين لرهن الصوت المسيحي.
وعلى الرغم من الانتصار الكبير للقوات اللبنانية بقيادة الدكتور سمير جعجع، وتمكن وليد جنبلاط من إحباط محاولات “حزب الله” لتحجيم زعامته، فإن الانهيار الكبير كان من نصيب سنة لبنان الذين غاب حضورهم الوازن نظراً لما أشرنا إليه في المقال السابق، من احتكار الرئيس سعد الحريري غير المبرر وغير المقبول للصوت السني، ما أدى لفوز 6 مرشحين سنة، من “تيار المستقبل” سابقاً، تحت مسمى “قدامى المحاربين” خروجاً عن منطق المقاطعة العقيم، فيما كان السنة يستحوذون على 18 مقعداً في البرلمان المنتهية ولايته.
وبهذا ضاع صوت لبناني عروبي هام وتشتتت جهود الساعات الأخيرة وذهبت هباءً منثوراً، ولم يتمكن أي طرف من تحويل رصيد الشهيد رفيق الحريري الشعبي لحسابه أو أن يكون وريثه، الأمر الذي يستدعي قيام قوة سياسية جديدة تمثل إرث “تيار المستقبل” وتستبعد الاحتكار في تمثيل سنة لبنان، ومرجعيتهم.
أعاد بعض المراقبين انخفاض مستوى المشاركة في التصويت، ليس لعدم إقبال الصوت السني فقط، بل لإحجام اللبنانيين عن المشاركة لأنهم فقدوا الثقة بالنخب السياسية التقليدية، كما أن هناك من لاحظ عدم إقبال كبير من قبل شيعة لبنان للتصويت وفق التوجيهات، أو ما يمكن تسميته بالمقاطعة الشيعية الصامتة، التي تقلق “حزب الله” وتهدد مشروع إيران في لبنان.
وحيال فسيفساء المنتج البرلماني الإشكالي، وتحديداً الانقسام الرأسي في الصف المسيحي، مع ميل لصالح “السياديين” المسيحيين، يرجح المراقبون الدوليون، أن شكل التحالفات داخل البرلمان الجديد قد تفضي إلى معادلة لا غالب ولا مغلوب، وهي معادلة شائكة، وقد تؤدي لتحول البرلمان الجديد إلى ساحة لمواجهات كبرى، قد تعطل الحياة السياسية وتزيد من معاناة اللبنانيين.
الانتصار النسبي والممكن الافتراضي!
يبدو من قراءة النتائج التي أفرزتها الانتخابات النيابية اللبنانية 2022، أنه لن تكون هناك أكثرية نيابية، الأمر الذي سينعكس على صعوبة اتخاذ القرار. فالكتلة التي يمكن أن تقودها “القوات اللبنانية” تحت لافتة “السياديين”، قد تكون كتلة وازنة، ولكن لن يكون بمقدورها اتخاذ القرار المفصلي لوحدها، نظراً لطبيعة التحالفات التقليدية المتغيرة داخل البرلمان بحسب الملفات وتداخلها بالمصالح. كما أن “التغييريين” و”المستقلين” لا يبدو عليهم التجانس، وهل من الممكن اصطفافهم مع “السياديين” فيما يخص سلاح “حزب الله”.
وعلى الرغم من صحة الاستنتاج الذي يقول إن نتائج الانتخابات لم تمنح “حزب الله” وحلفاءه الأغلبية المريحة، لكنها في المقابل أفرزت كتلاً متعددة، غير منسجمة، وربما متناقضة، وسيكون من الصعب بناء التحالفات على أساسها.
في محاولة منا لقراءة ما تمخض عن الانتخابات البرلمانية اللبنانية، وما يمكن لهذه النتائج أن تحققه على أرض الواقع من تغيير يعيد مكانة لبنان المختطف من إيران وعملائها في لبنان. فإن القوى التي ستتسلم أمانه إدارة الشأن اللبناني ستواجه كماً مهولاً من التحديات، من اقتصاد مدمر ودولة لا تمتلك قرارها وسيادة منتهكة بقوة سلاح “حزب الله”.
وحينما يلتئم البرلمان الجديد خلال الأسبوع المقبل، تنتصب أمامه مهمة انتخاب رئيس له، ولأن “حزب الله” و”حركة أمل” ما زالا يحتكران مقاعد الطائفة الشيعية، فيجب أن يكون رئيس البرلمان من هذه الكتلة، وقد رفض رئيس “القوات اللبنانية” علانية، وغالبية القوى المسيحية والتغييريين والمستقلين، إمكانية القبول بإعادة انتخاب نبيه بري لهذا المنصب.
إن إصرار تكتل “حزب الله” و”حركة أمل” على انتخاب بري الذي تجاوز منتصف عقده الثامن من العمر، والذي بقي رئيساً للبرلمان لثلاثة عقود، يرشح بتعطيل الجهود الأولى للبرلمان الجديد.
أما المعركة الثانية فستكون في التشكيل الحكومي، داخل فسيفساء البرلمان الجديد، وهل سيكون بمقدور أي حكومة يقودها توجه “السياديين”، الابتعاد عن سياسة الحكم بالتوافق التي فرضها “حزب الله”، والذي يؤكد الحزب بأن أياً تكون نتائج الانتخابات لن تغير هذه المعادلة، والتي تعني أن كل قرارات لبنان الأساسية يجب أن تحصل على موافقة “حزب الله”. وهنا يكمن التحدي الأكبر لجوهر الديمقراطية اللبنانية، هل ستتمكن الحكومة المفترضة من إنقاذ الاقتصاد والتوصل إلى اتفاقيات مع المؤسسات المالية الدولية؟ أم أن الديمقراطية اللبنانية ستتحول إلى ظاهرة صورية؟
ويشكل انتخاب رئيس الجمهورية في نهاية العام الحالي التحدي الأكبر أمام “السياديين”، فهل سيكون بمقدورهم انتخاب رئيس لكل اللبنانيين يحمي السيادة اللبنانية من سيطرة القرار الإيراني، ويعيد ثقة اللبنانيين بنظامهم؟ أم أن التعطيل وعدم القدرة على الحسم في معظم الملفات سيكونان عنوان المرحلة القادمة؟
“السياديون”… الأمل
وفي الأخير، فعلى الرغم من أن الأرقام تؤكد أن “حزب الله” لم يعد قادراً على التحكم بالبرلمان الجديد لفقدانه الأكثرية التي كان يتمتع بها في البرلمان السابق، ولكنه ما زال قادر على تعطيل تشكيل الحكومة، ومن ثم تعطيل انتخابات رئيس الجمهورية. ومن هنا، فإن القراءات المتشائمة ترجح أن يدخل لبنان نفق التعطيل العراقي، بعد فشل إيران من تمرير أتباعها عبر صناديق الاقتراع في انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) 2021.
فهل سيتمكن حزب “القوات اللبنانية” من بناء تحالف تاريخي يكسر القواعد التقليدية ويفشل جهود التعطيل، ويعمل على توسيع قاعدة “السياديين”، لمواجهة استحقاقات استعادة لبنان العزيز ومحاربة الفساد، وإعادة ثقة اللبنانيين بوطنهم، حيث تشير استطلاعات الرأي إلى أن قرابة الـ50 في المئة من السكان يتطلعون لمغادرة وطنهم، وأن أخطر المؤشرات فئة الشباب التي تجاوزت الـ63 في المئة.
لقد استحق تيار “السياديين” بصدق ثقة اللبنانيين والمحيط العربي والخليجي، وثقة السعودية حاملة رأيه العمل العربي المشترك. وسيبقى الدعم مواكباً لسعي اللبنانيين للخروج بوطنهم من دياجير “حزب الله”، ومشاريع إيران المزعزعة للأمن والاستقرار الإقليمي، وتقديم كامل أشكال العون لإنقاذ لبنان، الذي سيبقى في الذاكرة الجمعية العربية “سويسرا الشرق”، ووطن الجمال والإبداع والعطاء.
اندبندنت عربية