مقابلات

بنزين إيران ومرض نصر الله

علي شندب
 
في خطابه الأخير، استكمل زعيم حزب الله وضع لبنات ما سبق وأطلقه في خطاب الأزمة الصحية والحساسية غير الكورونية التي أصابته، وأظهرته لأول مرة معتل صحياً، فلطالما كانت صحة نصر الله الجسدية من الأسرار التي لا تنافسها حتى أسرار ترسانة صواريخه الدقيقة.
 
لكن مناسبة عيد المقاومة والتحرير، معطوفة على مواجهات غزة وصواريخها التي وصلت الى ما بعد ما بعد ما بعد تل أبيب، اضطرت زعيم الحزب الى الظهور بحالته المرضية للكلام عن غزة وصواريخها غير المسبوقة، وأيضا عن الأزمة اللبنانية غير المسبوقة أيضاً.
 
في خطاب المرض، وضع نصر الله خطاً أحمر حول بقاء رئيس الجمهورية في منصبه لآخر ولايته. كما رسم توازياً خطاً آخر باهت الاحمرار حول استمرار رئيس الحكومة المكلّف في سعيه لتشكيل حكومة، خصوصاً بعد موقف مجلس النواب المؤكّد لذلك خلافاً لأهداف الرسالة الرئاسية للبرلمان. خطّان أحمران، قابلهما تفويض لافت لرئيس مجلس النواب نبيه بري في تذليل العقبات بين فريقي تشكيل الحكومة المستعصية الولادة.
 
مرض نصر الله المفاجئ، كان أكثر ما علق في أذهان الناس من خطابه الطويل، وتداولته المواقع التواصلية التي قالت حوله الكثير من الكلام الذي عزّزه توزيع محازبيه وأنصاره في الضاحية الجنوبية المياه والخبز على نيّة شفائه. مرض أسهب نصرالله في خطابه الأخير في التقليل من أهميته بهدف طمأنة جمهوره. إنها الحساسية الموسمية التي تصيبه سنوياً عدة مرات والتي يرجعها بعض الأطباء لظروف إقامته المخبئية في أماكن رطبة بعيدا عن أشعة الشمس لضرورات أمنية. لكنها المرة الأولى التي تظهر للجمهور وخاصة أنصاره الذين استشعروا القلق والخوف من المجهول الذي يتوجّسونه فيما لو نال المرض من زعيمهم.
 
ورغم ظهوره بمظهر المتعافي صحياً، فإن هاجس مرضه بات مصاحباً لبيئته المتعددة الحلقات التي داهمها التفكير بوريث مستحيل يمكنه ملء الفراغ أو الفراغات والأدوار المتعددة التي يشغلها في قيادة الحزب والطائفة والمنطقة. دافعهم لذلك أنّ مقتل قاسم سليماني المفاجئ، كشف بوضوح عن عجز وريثه إسماعيل قآاني في تعبئة فراغه والأدوار التي كان يلعبها. فكيف سيكون الحال مع نصرالله الذي بات وبعد مقتل سليماني يتربع على مسؤولية ميدانية من سدّ مأرب الى حارة حريك مرورا بالعراق وسوريا فضلا عن الانتشار بأبعاده المعروفة وغير المعروفة؟.
 
لن نسترسل في تداعيات غياب نصر الله المفاجئ، لكن اعتلال صحته كما بيّنت تقاسيمها شاشات التلفزة، شكّل فرصة الضرورة الملّحة لدى مراكز القرار الإيرانية والحزبلّاهية للبحث الهادئ عمّن يملأ الفراغ المؤجّل تحوّطا لمثل هذا الغياب المفاجئ الذي سوف تكون تداعياته أقل خطراً وضرراً فيما لو كان لأسباب صحية.
 
أمّا في حال كان رحيله لأسباب أمنية فعندها تبرز عدة احتمالات أبرزها، النسج على منوال التعامل مع اغتيال سليماني وقبله عماد مغنية وعباس الموسوي وغيرهم عبر إطلاق الصواريخ الصوتية المتوعدة بالثأر، أو الذهاب باتجاه فرضية الثأر المتعدّدة الأهداف والتي سيكون من بينها بالضرورة تبريد جميع الرؤوس المعارضة لحزب الله والرافضة لتحويل لبنان منصّة صواريخ إيرانية.
 
ويبدو أن نصر الله في تفكيره العميق قد تحسّب في الأسابيع الترامبية الأخيرة لمثل هذا الغياب الاغتيالي. حيث كثر الكلام عن احتمالية تصفية نصر الله واغتياله. ويومها أعلن زعيم حزب الله أنه تلقى “معلومات” عن اللقاء الذي جمع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في البيت الأبيض. وتقول معلومات نصر الله أنه تقرّر في هذا اللقاء إسناد أمر اغتياله لبنيامين نتنياهو. ويومها حمّل نصر الله دمه مسبقاً للسعودية، وهو بتحميل السعودية للمسؤولية عن دمه إنما استهدف أمرين.. الأول، دفع قيادة السعودية للضغط على ترامب بهدف حمايته عبر ثنيه عن تنفيذ الاغتيال. الثاني، ربط نزاع مستقبلي دموي مع المملكة وتسليم إيران وأذرعها الحوثية والحشدية والحزبلّاهية عباءة الثأر له منها، وعدم تضييع البوصلة حتى لو كان المنفّذ نتنياهو شخصياً.
 
 
وبالعودة إلى خطابه الأخير، فقد استكمل زعيم حزب الله رسم هوامش التحرك والمناورة للكتل النيابية، تماماً كما استكمل وضع الضوابط والخطوط الحمراء للمعالجات السياسية وفق رؤيته المتفرّعة من مصلحة المصلحة الإيرانية العليا. فإضافة لتأكيده أن رئيس الجمهورية خط أحمر ومستمر في قصر بعبدا حتى آخر لحظاته الرئاسية، فقد وضع خطا أحمرا رافضا لإجراء انتخابات نيابية مبكرة كما تطالب القوات اللبنانية بهدف تغيير الأكثرية النيابية وبالتالي الحكومة. وأيضا كما يهدّد رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل بوصفها ممرّا دستورياً بهدف سحب التكليف من يد وجيب سعد الحريري. وكما هدّدت أوساط تيار المستقبل ايضا باعتذار الحريري عن التكليف والذهاب للاستقالة من المجلس النيابي للضغط على وزير خارجية فرنسا كي يقابله خلال زيارته بيروت، ومن ثم إذا استمرّ الاستعصاء في تشكيل الحكومة.
 
وبات الكلام عن تقصير مدة البرلمان وإجراء انتخابات جديدة تنبثق عنها سلطة جديدة مسحوباً من التداول الجدي بعد كلام نصرالله، الذي جدّد تفويضه للرئيس نبيه بري في تليين رؤوس المشكلات الحامية التي تعيق تشكيل الحكومة.
أداء نصرالله تجاه طرفي تشكيل الحكومة ومشكلتها في آن، كان محل امتعاض من دوائر ساكن قصر بعبدا وفريقه السياسي، لأن نصر الله برأيهم، وَازَنَ ولم يفاضل بينهم وبين الحريري وفريقه، الأمر الذي دفع قيادي بالتيار الوطني الحر للقول “حزب الله شيطان أخرس”. انها العبارة التي لم يقلها أي من قيادات تيار المستقبل الذي لم يزل يعتمد سياسة ربط النزاع مع حزب الله المتمسّك أكثر من أي وقت مضى باستمرار تكليف الحريري بغض النظر عن مآلات تشكيل الحكومة، كما صرّح نصرالله عندما طالب ألا يضع أحد مهلاً زمنية لتشكيل الحكومة. وكأن ستاتيكو المراوحة في تشكيل الحكومة هو الوضع المناسب لإيران كما تشي مفاوضات فيينا النووية.
 
لكن نصر الله وحزبه الذين لطالما ادعوا “رسم معادلات المنطقة”، وجدوا أنفسهم مكبّلين إزاء عقم اللامعالجات المالية والاقتصادية والاجتماعية المتصاعدة التي تلفّ لبنان. إنها الأزمة التي تنذر شررها المتطايرة في كل المناطق اللبنانية بانفجار الفوضى الأمنية الأهلية التي يعزّزها انهيار الوضع الصحي والاستشفائي، وقد بات الأمن الدوائي مهدِّداً حقيقياً وجدياً لصحة اللبنانيين الذين وجدوا أنفسهم أسرى طوابير الذل أمام الصيدليات ومحطات الوقود بحثاً عن علبة دواء، أو لقمة بنزين في بطون المحتكرين.
 
وكانت فلتة الشوط عند نصر الله استعداده لاستجلاب بواخر البنزين والمازوت من إيران بالليرة اللبنانية ومتحدياً الدولة أن تمنعه عن ذلك إذا لم تبادر. رغم أنه يسير مطواعاً خلف ذات الدولة وما تقرّره في مفاوضات الترسيم جنوباً مع إسرائيل. وكأنّ نصر الله سبق واهتم لأمر الدولة اللبنانية عندما انخرط وحزبه في معارك الإقليم من سوريا والعراق الى باب المندب، وهو ما كان محل تندّر الناس من نخوة نصر الله التي ظاهرها خدمة اللبنانيين، وباطنها ربط لبنان اقتصادياً واستراتيجياً مع أجندات إيران وتغوّلها عبر العراق في لبنان والمنطقة.
لكن الذي لم يقاربه نصر الله لا من قريب ولا من بعيد، واكتظت به مواقع التواصل الاجتماعي، هو التهريب عبر المرافئ والحدود الشرعية وغير الشرعية. إنّه التهريب الذي يجعل البنزين يتبخّر، بنفس القدر الذي تتبخّر فيه الأدوية والمواد والسلع الأساسية الأخرى من قبل منظومة مافيات التهريب التي يكثر الحديث حولها عن رعاية حزب نصر الله لها. وهو التهريب الذي تسبّب بانفجار مرفأ بيروت بشحنات الأمنيوم، بنفس القدر الذي تسبّبت به شحنات المخدرات والكابتغون بانفجار علاقات لبنان مع السعودية وغيرها من البلدان العربية والأجنبية.
 
أخيرا، يبدو أن التلاشي الذي يصيب قطاعات لبنان المالية والاقتصادية والصحية فضلا عن شرائحه الاجتماعية، يشكل بعد مواجهات غزّة، الوضع المثالي لإيران في مفاوضاتها النارية مع الأميركيين في العراق توازيا مع تغوّل الحشد على الدولة، بهدف ضبط بعض الصياغات المنظمة لمسارات المسيّرات المفخّخة والصواريخ البالستية في المفاوضات الممهّدة لرقصة نووية جديدة بين البايدنية والخامنئية، إلّا إذا استدعت تطورات التخصيب وأجهزة الطرد المركزي وفق ما أفصح عنه وزير الخارجية الأميركية انتوني بلينكن ومنظمة الطاقة الذرية الدولية، فرض معادلات ميدانية أخرى على الطريقة الترامبية.
 
نقلا عن العربية

موضوعات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى