مقالات
توحش الأقليات وسياسة الاضطهاد
عبدالله بن بجاد العتيبي
توحش الأقليات ظاهرة عربية أخذت في النمو بعد قيام ثورة الخميني 1979، ثم بدأ تفشي هذه الظاهرة في العالم العربي بدعم إيراني حتى أصبحت اليوم ملء السمع والبصر، ويتم التعامل معها غربياً كمعطى طبيعي وليس شذوذاً عن التاريخ والواقع.
الأقليات المتوحشة في العالم العربي ترتبط ارتباطاً عضوياً بالنظام الإيراني، ترد إليه وتصدر عنه وتتحالف معه وتقدم له كافة الخدمات، حتى وإن أدى ذلك لأن تنسلخ من حذرها التاريخي وتوجسها التقليدي، ما حوّلها إلى أدواتٍ لصراعٍ ديني سياسي إمبراطوري يخالف كل تاريخها وطبيعتها ويهدد مستقبلها وأجيالها القادمة.
أكبر الأقليات في العالم العربي والإسلامي هي «الأقلية الشيعية» التي تتبع المذهب الشيعي الكريم، الذي ظلّ يكرر الثورات ضد «الأكثرية السنية» مطلع التاريخ الإسلامي، حتى استقرّ على رفض السياسة والثورات وجعل «انتظار المهدي» هو العقيدة الراسخة لدى أتباعه لقرونٍ طويلة، وبنيت كل مؤسساته المذهبية بإحكامٍ وتماسكٍ على هذا المبدأ، حتى قامت «ثورة الخميني» بإحداث انقلابٍ في المذهب عبر نظرية «ولاية الفقيه» وسياسة «تصدير الثورة».
فشل مشروع «الخميني» في تصدير الثورة عبر الحرب العسكرية المباشرة مع العراق، فقام المرشد الثاني «خامنئي» باتباع سياسة جديدةٍ تقوم على دعم بعض «الأقليات» وتحويلها إلى «التوحش»، وكان طبيعياً أن تكون البداية بالأقلية الشيعية في العالم العربي وفي لبنان تحديداً مع «حزب الله»، ودعم الأقليات الشيعية في العراق وكذلك في «دول الخليج العربي»، ويمكن ملاحظة تطور عملها في «نموذج الكويت» من محاولة اغتيال الشيخ جابر الأحمد 1985 التي قام بها العراقي الشيعي «أبو مهدي المهندس» الذي قتل مع «قاسم سليماني» 2020، واللبناني الشيعي «مصطفى بدر الدين» الذي تمت تصفيته في سوريا 2016، وصولاً إلى «خلية العبدلي» 2017 وحجم الأسلحة والتخطيط الكافي لإسقاط دولةٍ وليس مجرد عملية إرهابية أو اغتيال مسؤول، وليس انتهاء بتهجم بعض الشيعة هناك ضد السعودية و«البقيع».
فعلت إيران الأمر عينه مع «جماعة الحوثي» المنتسبة للمذهب الزيدي الكريم في اليمن، بحيث جذبتها باتجاه التشيع الإثناعشري بنسخته الخمينية، ثم سعت لتحويلها إلى «أقليةٍ متوحشةٍ»، وصولاً إلى ما هي عليه اليوم من توحشٍ وإرهابٍ واضطهادٍ للأكثرية وللأقليات الأخرى داخل اليمن واستهدافٍ للسعودية وتهديدٍ للعالم والتجارة الدولية.
خارج الإطار الشيعي، قام النظام الإيراني بالتحالف مع بعض ممثلي الأقلية المسيحية في لبنان وتحديداً «التيار العوني»، وتحوّل هذا التيار إلى التوحش والتحالف مع المتوحشين في خدمة النظام الإيراني، وأثبت قدرةً على تحويل «المسيح» و«الصليب» و«العذراء» إلى جنودٍ في معركة «التوحش الأقلوي» الذي يقوده النظام الإيراني وما تصريحات وزير الخارجية اللبناني السابق شربل وهبة إلا نموذج عابرٌ ضمن استراتيجية ثابتة لهذا التيار.
«التناقضات» سلاحٌ في السياسة والفكر تعتمده الكثير من الدول والأحزاب والحركات السياسية، وهو إحدى «الآليات» التي يعتمدها النظام الإيراني وأتباعه «المتوحشون» في بسط النفوذ وفرض الهيمنة على العديد من الدول العربية، ومن ذلك المزاوجة بين «خطاب العزة» و«خطاب الاستضعاف»، ويكفي رصد خطاب «حزب الله اللبناني» وخطاب «جماعة الحوثي» وخطاب «جماعة حماس» لاستيضاح المقصود بهذا السياق.
«اضطهاد الأقليات» الأقل عدداً وتأثيراً هو أحد عناصر استراتيجيات «الأقليات المتوحشة» والأمثلة كثيرةٌ، فـ(حزب الله) اللبناني يضطهد «المسيحيين» و«الدروز»، وميليشيات «الحشد الشعبي» في العراق تضطهد أقليات العراق الكثيرة والمتعددة والتي تمثل جزءاً من فسيفساء العراق التاريخي والحضاري، مثل «الأكراد» كأقلية عرقية و«الأزيديين» و«المسيحيين» كأقلية دينية، و«ميليشيا الحوثي» تضطهد «البهائيين» و«يهود اليمن» وهكذا في سياسة ثابتةٍ ومنهجٍ مستقرٍ.
هذه الأقليات المتوحشة تحصد المكاسب والخسائر كأي تيارٍ أو حزبٍ سياسيٍ آخر، فـ«حزب الله» اللبناني كسب السيطرة المطلقة على الدولة اللبنانية، ولكنه خسر بتحويلها إلى «دولة فاشلةٍ» وأثبت عجزاً كاملاً يخالف كل شعاراته في أحداث غزة الأخيرة، وامتنع عن التعرض لإسرائيل بأي شكلٍ من الأشكال، ويبدو أنه حفظ درس 2006 جيداً، وفعلت مثله «ميليشيا الحوثي» في اليمن و«جماعة الإخوان» و«حركة حماس» و«تنظيم داعش» و«تنظيم القاعدة» كسبت قليلاً، لكنها خسرت لاحقاً.
طبيعة البشر ومنطق التاريخ تقف شاهداً على أن «توحش الأقليات» هو أحد أكبر المخاطر الوجودية عليها، وأن قياداتها ونخبها السياسية والثقافية والاقتصادية في هذه المرحلة من عمر البشرية ستتحمل عبئاً كبيراً في المستقبل حين تعود الأمور إلى نصابها الطبيعي.
نقلا عن الاتحاد الإمارتية