لدى إيران متّسع من الوقت للعبث في العراق
فاروق يوسف
كانت العودة إلى قصف القواعد الأميركية في العراق متوقعة في ظلّ تجاذب قوتين ضاغطتين لا يمكن الفصل بينهما. قوة الصمت الرسمي والشعبي الإيراني عمّا يجري في غزة، وقوة الانتماء إلى المقاومة الإسلامية التي يمثل الحشد الشعبي رأس حربتها في العراق. ففي مواجهة الأحداث الدامية التي شهدتها غزة، كان الصمت الإيراني مريباً وغير مسبوق. لا تظاهرات ولا خطب جمعة تحريضية ولا بيانات عالية الصوت.
لقد تعاملت إيران الرسمية مع المشهد بكثير من التهذيب واللياقة الدبلوماسية بما لا يلفت النظر إليها، واكتفت بزيارة وزير خارجيتها حسين أمير عبد اللهيان للبنان حيث التقى حسن نصر الله زعيم “حزب الله” وأطلق من هناك عدداً من التصريحات، في إشارة منه إلى ما يمكن أن تتخذه بلاده من مواقف في حال اتساع رقعة الحرب، وكان لبنان هو المقصود بالدرجة الأساس.
غير أنّ إيران وهي التي تتزعم محور المقاومة الإسلامية، لم تخف استعدادها للاستعانة بقواعدها في العراق المتمثلة بالميليشيات الشيعية، للتذكير بوجودها قوةً إقليمية يمكنها أن تلحق ضرراً ولو طفيفاً بالمخططات التي يمكن لإسرائيل أن تقوم بتنفيذها مستغلةً حرب غزة، لتغيير المعادلات السياسية في المنطقة بغطاء أميركي، من خلال تدمير حركة “حماس” أو شلّها عن الحركة إلى زمن بعيد. ولأنّ الحشد الشعبي لا يغامر في الدخول بمواجهة مكشوفة مع القوات الأميركية، فقد كان قرار العودة إلى قصف القواعد العسكرية الأميركية من بُعد، مع الحرص على عدم التسبّب بخسائر بشرية، هو ما يناسب الطرفين الإيراني والعراقي، لا تجنّباً لهزيمة عسكرية مؤكّدة فحسب، بل وأيضاً وهو الأهم، خوفاً من سقوط النظام السياسي الذي ييسر لإيران الاستمرار في الهيمنة على العراق، وهو بقرتها الحلوب.
ضياع سلطة القرار
حين نعود إلى موقف العراق الرسمي من الصراع في غزة الذي تحول إلى كارثة إنسانية، فقد لخّصه رئيس حكومته محمد شياع السوداني في مقالة نشرها في إحدى الصحف العربية، أكّد من خلالها أنّ العراق يقف مع الشعب الفلسطيني وحرصه على ألاّ يكون المدنيون هدفاً لنيران الحرب. ودعا إلى التهدئة وتجنّب التصعيد وإراقة مزيد من الدماء. تلك اللغة الهادئة التي لا تؤسّس لخطاب حرب نارية كان الشارعان العراقي والعربي في انتظاره، أتت منسجمة مع اللغة التي تبنّتها الجامعة العربية والزعماء العرب في قمة القاهرة بحثاً عن حلول، تضمن أمن وسلامة أهل غزة من غير أن تكون غطاءً لما فعلته حركة “حماس”، خصوصاً على مستوى الدعوة إلى تجنيب المدنيين من الطرفين مآسي العنف المتبادل. وفي ذلك إشارة واضحة إلى المدنيين الإسرائيليين الذين تحتجزهم “حماس” أسرى لديها.
وإذا ما استعرضنا مواقف زعماء الميليشيات في العراق، يبدو تصريح رئيس “منظمة بدر” هادي العامري، وهي تنظيم تابع للحرس الثوري الإيراني لافتاً. يقول العامري: “إن تدخّلت أميركا في فلسطين سنتدخّل ولن نتردّد في الاستهداف. يجب أن نكون مهيئين للدفاع عن القضية الفلسطينية الشرعية”… كلام ينطوي على تهديد، ولكنه يقع خارج الملعب الحقيقي. ذلك لأنّه ينطلق من افتراض غير واقعي. فلا إسرائيل في حاجة إلى تدخّل أميركي ولا الولايات المتحدة يمكن أن تزجّ بقواتها مباشرة في صراع تعرف أنّ إسرائيل قادرة على حسمه لصالحها. فالإدعاء بأنّ إسرائيل تدافع عن نفسها في مواجهة ميليشيا محدودة ومقيّدة السلاح ما هو إلاّ كذبة يُراد من خلالها إضفاء معنى أخلاقي على الاصطفاف وراء ما يُسمّى بحق إسرائيل في ممارسة العنف المفرط.
المواجهة والعقاب المؤجلان
سيكون من الصعب في حالات كثيرة أن تردّ القوات الأميركية على الميليشيات التي تستهدف قواعدها. أولاً، لأنّ قصد الإزعاج كان واضحاً من وراء القصف الذي لم يتسبّب بخسائر بشرية أو مادية. ثانياً، وهو ما اعتاد عليه الأميركيون، لم تكن الميليشيا التي ادّعت مسؤوليتها عن القصف جزءاً من منظومة الحشد الشعبي، وهو ما لا يحمّل الحشد أية مسؤولية. وثالثاً، وهو الأهم أنّ القوات الأميركية لا ترغب في فتح جبهة قتال تعرف أنّها ستضعها وإن بطريق غير مباشرة، في مواجهة إيران، وهي الدولة التي تمّ تحييد قدراتها النووية عن طريق الضربات الإسرائيلية.
كل ذلك يجعلني على يقين من أنّ منظومة المقاومة الإسلامية في العراق على ثقة من أنّ عقابها سيكون مؤجّلاً، وأنّ هناك الكثير من ضمانات الأمان في اللعبة الخطرة التي تُقدم عليها، ولو أنّها شعرت بأنّ نسبة الخطر قد تجاوزت الصفر لما أقدمت على إطلاق صاروخ واحد في اتجاه القواعد الأميركية. صحيح أنّ الحشد الشعبي قوة عمياء غير أنّه في الأساس يتألف من عاطلين من العمل وجدوا في الانضمام إلى الميليشيات فرصتهم في الحصول على ما يسدّ رمق عوائلهم. وهم وقد لبسوا الثياب العقائدية نفاقاً، فإنّ قضية فلسطين التي كانت قضيتهم يوم كان هناك نظام سياسي وطني، لم تعد كذلك اليوم، بعد ما شهدوه من عمليات فساد دمّرت النسيج الاجتماعي وشتتت الاقتصاد الوطني.
قلق العيش في ظلّ قصف عبثي
تملك إيران متسعاً من الوقت للعبث بمصائر العراقيين. تلك لعبة يعرفها الأميركيون وهم خبراء بطريقة سلبية بالأوضاع في العراق. يعرفون أنّ إيران غير جادة في تحريك أتباعها في العراق ضدّهم، في الوقت الذي ترغب في الحصول على حصّتها من واردات النفط العراقي بالعملة الصعبة، الدولار الأميركي بشكل محدّد. وهم يعرفون أيضاً أنّها تقف وراء ما جرى في غزة بطريقة غير مباشرة. ولكن الأكثر وضوحاً بالنسبة لهم يكمن في ما أظهرته إيران من استعداد لإدارة ظهرها لحركة “حماس” والاكتفاء بمحاولة الإبقاء على جبهة لبنان الجنوبية في منأى عن تداعيات حرب غزة. وقد يُعتبر ذلك موقفاً إيجابياً ستضعه الولايات المتحدة في ميزان علاقتها بإيران.
أما ما تفعله الميليشيات في العراق، فإنّه سيبقى في حدود التفاهمات الثنائية ما دام القصف لا يُلحق ضرراً بالقوات الأميركية خصوصاً في الجانب البشري. ولن تترك عمليات القصف التي تقوم بها تلك الميليشيات صدى يُذكر لها، إلاّ على مستوى قلق العيش الذي صار محور الحياة العادية في ظل الفوضى السياسية في العراق.
نقلا عن “النهار”