ماذا فعل المستشار البريطاني تشارلز بلغريف في البحرين؟ (5-7)
الكاتب
الدكتورة شرف محمد المزعل
– كان بلجريف يقضي في المحكمة ثلاثة أيام بالأسبوع، يتخذ خلالها «أحكاما تتسم بالتسرّع من أجل تسيير الأمور البسيطة»
– سنّ بلغريف قانون للغوص يشمل جميع القوانين القديمة غير المكتوبة، وكذلك القوانين الجديدة غير المعروفة
– عاد قائد الشرطة الإنجليزي لبلاده، فقرر الشيخ تعيين بلجريف مكانه بصورة مؤقتة، لكنه بقي في هذا المنصب حتى عام 1955
-حدثان مفصليان في تاريخ البحرين: تعليم البنات لعبت زوجة بلجريف دورا مهما في بدء تعليمهن، والثاني اكتشاف النفط
-تراجعت ايرادات البلاد في غمرة الكساد الاقتصادي إلى 50 ألف جنيه استرليني، وهذا لا يكفي لدفع تكاليف الخدمات والمصاريف الإدارية للبلاد
-أفضى إنتاج النفط لزيادة تدريجية في عائدات الامارة، ما دفع بلجريف لإقناع الشيخ حمد بإصدار أول ميزانية تقديرية للبلاد عام 1938
-بلجريف ساند موقف الحكومة الرافض لمطالب الحركة الإصلاحية الشعبية في عام 1938 والتي اتخذت طابعا وطنيا شاملا بعيدا عن الطائفية
– توفي الشيخ حمد بنوبة قلبية في 20 فبراير 1942، وتم تعيين ابنه الشيخ سلمان حاكما، فطلب من بلجريف أن يعمل معه مستشارا كما عمل مع أبيه ووافق
بقلم: الدكتورة شرف محمد علي المزعل
في دراسة بحثية مهمة للدكتورة شرف محمد علي المزعل، تسلط فيها الضوء على شخصية جدلية مهمة في تاريخ البحرين السياسي والاجتماعي من طراز مستشار حكومة البحرين تشارلز بلغريف، الذي ترك بصماته في مفاصل البلاد في مستوياتها المختلفة. أكثر من ثلاثين عاما والمستشار يفصل السياسات ويوجهها نحو المصالح البريطانية رغم أنه مستشار لحكومة البحرين، وأن الجيش البريطاني كان يضع على إمارات الخليج بما فيها البحرين حتى الاستقلال عام 1971,
وتضيف المزعل في بحث محكم بعنوان «دور المستشار البريطاني تشارلز بلجريف في تأسيس دولة البحرين الحديثة: دراسة تاريخية (1926 – 1957)» تنشره ” دلمون بوست على سبع حلقات ، بان هذه الاحجية أوقعت المؤرخين في جدل مستمر حول ما إذا كان تشارلز بلجريف يعمل فعلا مستشارا لخدمة حكومة البحرين، ويسعي لتطوير البحرين وتحديثها، ويدرك مكامن الخلل في بعض الدوائر الحكومية، لكنه لم يقدم الحل البديل؛ أم أنه كان يمثل اليد التي كان يستخدمها المستعمر البريطاني للتسلط على الشأن البحريني، وضمان الحفاظ على الخليج العربي، والذي كان بالنسبة لبريطانيا «مصدرا للنفط، وكانت البحرين ذات موقع استراتيجي هام في الهند والشرق وبدونها لا يمكنها القيام بأعمالها ومهماتها؛ فيجب ألاّ تفقدها».
نواصل البحث عن الدور الذي لعبه المستشار البريطاني تشارلز بلجريف في تأسيس دولة البحرين الحديثة، ومكانته السياسية في البلاد.. وهنا الحلقة الخامسة.
تواصل الباحثة شرف محمد علي المزعل دراستها عن دور المستشار البريطاني تشارلس بلجريف، وكتبت في دراستها: في بداية تعيينه، تولّى تشارلز بلجريف منصب «المستشار المالي»، حيث كان الشيخ حمد بن عيسى، حاكم البحرين، يُطلعه على المسائل المتعلقة بالدولة، وكذلك على أموره الشخصية، كطلبات الهبات المالية وهبات الأراضي، رغم الضعف الشديد لإيرادات البلاد في تلك الفترة. وقد أعطى الشيخ حمد لتشارلز بلجريف حرية التصرف، لكنه «كان يعترض على ما يقترحه “المستشار” من إجراءات قد لا تؤيدها الأسرة الحاكمة أو لا تنال رضا الشعب»، ومع ذلك، كان الشيخ حمد يتحمل مسؤولية أي عمل تقوم به الحكومة، وكان يتسلم الشكاوى والتظلّمات المكتوبة من المواطنين ويدفع بها إلى بلجريف، «ويطلب منه دراستها، ووضع حلول لها، ثم إبلاغه بها لكي يتناقشا سوية ويقررا ما يريدان»، لكنه كان أيضا «يبحث الكثير من شئون البلاد مع شقيقيّه الشيخ عبد اللله والشيخ محمد، ومع نجله الأكبر الشيخ سلمان».
أما أول وظيفة أوكلها الشيخ حمد للسير تشارلز بلجريف، فكانت منصب القاضي في محكمة البحرين (1926)، حيث كان لدى بلجريف خبرة سابقة بعمل المحاكم في مصر، فضلا عن اجتيازه امتحانيّن في القانون أثناء خدمته العسكرية. ووجد المستشار أن «البحرين لم تكن فيها قوانين مكتوبة، بل كانت الأحكام تعتمد على الحدس والفطرة السليمة». وكان بلجريف يقضي في المحكمة ثلاثة أيام بالأسبوع، يتخذ خلالها «أحكاما تتسم بالتسرّع من أجل تسيير الأمور البسيطة»، وقد تقلّصت هذه الفترة إلى «مرة واحدة في الأسبوع بعد تعيين الشيخ سلمان بن حمد قاضيا في المحكمة، وامتلاء المحاكم بالموظفين والملفات وتأخر البتّ في القضايا القانونية العالقة لفترة طويلة».
وحيث أن معظم القضايا كانت تتعلق بمشاكل الغوص، فقد قام تشارلز بلجريف بسنّ قانون للغوص يشمل جميع القوانين القديمة غير المكتوبة، وكذلك القوانين الجديدة غير المعروفة، وكان يمرِّر قضايا الزواج والميراث إلى القضاة الشرعيين، أما قضايا الجمارك فيتم إحالتها إلى مجلس التجارة. وفي الوقت نفسه، كان تشارلز بلجريف يرأس مجلسا للغوص، حيث تم تشكيله لمناقشة التعديلات على بنود القانون، والتي تم استحداثها على أثر إضراب الغواصين لعدم رضاهم عن حجم القروض التي قررت الحكومة صرفها لهم في بداية موسم الغوص للاستعداد للموسم».
في ذلك الوقت، كان جهاز الشرطة في البحرين يضم 200 شرطي أجنبي من الأفارقة السود والبلوش، وحينما عاد قائد الشرطة الإنجليزي إلى بلاده، قرر الشيخ حمد أن يستلم بلجريف منصب قائد الشرطة بصورة مؤقتة، لكنه بقي في هذا المنصب حتى عام 1955. وبعد مضي عدة شهور من مجيء تشارلز بلجريف إلى البحرين، تم تسريح الشرطة، وجلب فصيلتيّن من جنود المشاة الهندية إلى البلاد، وبعد فترة وجيزة، تم تشكيل قوة الشرطة من المواطنين البحرينيين، كما تم إنشاء فرقة للفرسان، وفرقة موسيقية للشرطة؛ مما أدّى إلى استتباب الهدوء والأمن وأجواء الفرح في الجزيرة.
وتزامنت السنوات الأولى لتعيين السير تشارلز بلجريف مستشارا للحاكم، مع حدثيّن مفصلييّن في تاريخ البحرين، وهما: تعليم البنات، واكتشاف النفط. وقد لعبت مارجوري، زوجة تشارلز بلجريف، دورا مهما في بدء تعليم البنات بعد أن أقنعت حرم الشيخ حمد بأهمية الفكرة، وبوجود مدارس للبنات في البلدان الأخرى. ومع أن حشد الدعم لهذه الفكرة كان مهمة شائكة بسبب احتجاج أهالي القرى وبعض الشخصيات المؤثرة في المجتمع على تعليم المرأة وقلة وعيهم بضرورته، إلا أن الشيخ حمد استحسن الفكرة، وتم افتتاح أول مدرسة نظامية حكومية للبنات عام 1928. وبحلول عام 1956، أي قبل مغادرة السير تشارلز بلجريف للبلاد بعام، وصل عدد مدارس البنات إلى 13 مدرسة.
أما الحدث المهم الثاني في تاريخ البحرين فقد كان حفر أول بئر للنفط في مايو عام 1932، وذلك في غمرة الكساد الاقتصادي الذي عانت منه البلاد، والذي أدّى إلى انخفاض إيرادات الدولة إلى 50 ألف جنيه استرليني، وأصبح لا يكفي لدفع تكاليف الخدمات والمصاريف الإدارية للبلاد، وفي نفس العام الذي تم فيه تتويج الشيخ حمد حاكما مطلقا للبحرين بعد وفاة أبيه الشيخ عيسى بن علي في 9 ديسمبر 1932، وخلافا لرغبة أبيه الشيخ عيسى الذي كان يمنع منح الترخيص لشركة غير بريطانية، أعطى الشيخ حمد امتيازا كاملا بالتنقيب عن النفط لشركة نفط البحرين المحدودة (بابكو)، والمسجّلة في كندا كشركة أميركية. وقد أفضى إنتاج النفط إلى الزيادة التدريجية لعائدات الدولة؛ مما دفع بلجريف لإقناع الشيخ حمد بإصدار أول ميزانية تقديرية للبلاد عام 1938. ومع ازدياد حجم الإيرادات النفطية، وازدهار الوضع الاقتصادي، تحسّن الوضع الصحي في البلاد.
كما تزامنت الأعوام الأولى لتعيين السير تشارلز بلجريف مع تنامي الخطاب الإصلاحي الوطني في البحرين، والذي كان مرتبطا بصورة وثيقة بالحركة الإصلاحية الشعبية في الدول المجاورة، كالكويت والإمارات ومصر والعراق وسوريا، فقد بدأ هذا الخطاب يركز، منذ عام 1934، على المطالبة بحقوق وطنية شاملة لجميع فئات الشعب. ومع حلول عام 1938، وجد امتدادا له في الإعلام العربي، وكانت المطالب الشعبية تتلخص في إنشاء مجلس تشريعي يتألف من 20 عضوا برئاسة الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة، وتكون بيده جميع شئون البلاد من أحكام وبلديات وجمارك وأمن ومعارف، ويكون المرجع الوحيد للمجلس الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة، حاكم البحرين، بالإضافة إلى منع الأجانب (الإنجليز) من التدخل في شئون البحرين، وتجريدهم من كل سلطة. وفي 12 نوفمبر 1938، قام خمسة أفراد يمثلون الطائفتيّن (السنية والشيعية) بتقديم وثيقة مشتركة طلبوا فيها من الحاكم الشيخ حمد تشكيل مجلس للمعارف من ثمانية أعضاء، وإصلاح المحاكم بالقضاء على الطائفية فيها، وإصلاح البلديات، وتأسيس نقابة للعمال، وإنشاء مجلس من ستة أعضاء لتمثيل الأهالي لدى الحكومة، غير أن المقيم السياسي في بوشهر رأى أن أيّ تنازل تحصل عليه الحركة الوطنية في البحرين سوف يعتبر نجاحاً ليس على حساب حكومة البحرين فقط، بل على حساب الحكومة البريطانية أيضا. ويُستشفّ من هذا الموقف تراجع الإنجليز عن خطابهم الإصلاحي في بداية القرن العشرين. وفي ظل الرفض البريطاني، تمثل الموقف الحكومي الرسمي، والذي وافق عليه المقيم البريطاني والمستشار تشارلز بلجريف، في رفض المجلس الاستشاري.
وخلال سنوات الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945)، وتحديدا في الفترة ما بين 1939 – 1940، طرح تشارلز بلجريف نظاما لتوزيع ومراقبة أسعار المواد الضرورية، كالرز والطحين والسكر، عن طريق توزيع حصص متساوية على جميع المواطنين، وبما يحقق العدالة. ومع النجاح المدهش لهذا النظام، تشجّع تشارلز بلجريف لتأسيس دائرة حكومية لمراقبة المواد الغذائية برئاسة رئيس الجمارك. وباستثناء التجار، أيّد هذا النظام غالبية الناس، ومع تزايد حالات رفع السعر من بعض التجار، قامت الحكومة بشراء السلع الضرورية وبيعها في محلات خاصة لحملة البطاقات التموينية.
وحينما ساءت صحة الشيخ حمد عام1940، قرر أن يعيّن خليفته بكتابة وثيقة سرية لا تُفتح إلاّ بعد وفاته حتى لا يفصح عن ولي العهد ويخلق الشقاق داخل العائلة الحاكمة، وكان تشارلز بلجريف أحد الأشخاص الأربعة الذين كانوا على معرفة بقرار الشيخ حمد. وقد توفي الشيخ حمد إثر نوبة قلبية في 20 فبراير 1942، وتم تعيين ابنه الشيخ سلمان حاكما للبحرين، حيث طلب الشيخ سلمان من بلجريف أن يعمل معه مستشارا كما عمل مع أبيه، ووافق بلجريف على ذلك. ويتضح مما سبق أن السير تشارلز بلجريف لعب دورا سياسيا كبيرا في تاريخ البحرين منذ مجيئه إلى البلاد عام 1926، وكان ذلك في عهد حاكم البحرين الشيخ حمد بن عيسى بن علي آل خليفة (1942-1872)، حيث كان مستشارا لحاكم البحرين أولا، ثم مستشاراً لحكومة البحرين بعد ذلك، لكنه تقلّد إلى جانب عمله بهذه الوظيفة، مناصب قيادية مهمة؛ فقد كان قاضيا بالمحكمة، وقائدا للشرطة، ومستشارا ماليا، وكان على علاقة وثيقة بالشيخ حمد، فقد كان منتظما في زيارة مجلسه، وتقديم المشورة له في إدارة شئون البلاد، كما رافقه في رحلاته، وحاز على ثقته العالية؛ ممّا ترك أثرا إيجابيا على القرارات التي اتخذها الشيخ حمد في عهده، وعلى تقدم البلاد. غير أن بلجريف ساند موقف الحكومة الرافض لمطالب الحركة الإصلاحية الشعبية في عام 1938، والتي اتخذت طابعا وطنيا شاملا بعيدا عن الطائفية، حيث اعتبرها المستشار تهديدا لمركزه، وللوجود البريطاني بالبحرين، وسوف يتم الحديث عن ذلك بشيئ من التفصيل في المبحث الثالث للدراسة الحالية.
… يتبع