فرنسا بين خطر نهاية ما تبقى من حدود الامبراطورية وخطر تبدد الجمهورية
ليال الإختيار
منذ ان عصف “الجنرال الأبيض” على أبواب موسكو، برجال نابوليون بونابارت قبل 211 سنة، فأسقط حلم جنرال فرنسا، والشتاء الفرنسي لم ينتهِ بعد .
شتاء فرنسا الطويل تستعيد صقيعه اليوم في ذروة قيظ افريقيا. وهو ليس وليد لحظة استفاقة شعبية في بلاد الثروات الهائلة. بل نتيجة مسار تراجعي تاريخي. بدأ منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية ويستمر باطراد حتى اليوم .
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بدأت موجة التراجع والتقهقر الكبرى للامبراطورية الفرنسية. مع صعود قوتين كبيرتين استقطبتا دول العالم. وهما الامبراطورية الرأسمالية الاميركية، والاتحاد السوفياتي الشيوعي. فحولتا موازين القوى العالمية الى فلكين يدور في مدار هاتين القوتين دون سواهما .
طبعا هذا الصعود صاحبت موجة التراجع الكبرى للامبراطورية الفرنسية. خصوصاً مع حصول العديد من المستعمرات الفرنسية على استقلالها بين عامي ١٩٤٦ و ١٩٥٨. وهو الاستقلال الذي جاء ليضرب اولى ركائز تثبيت النفوذ الفرنسي الخارجي، للتعويض عن خسارة الحرب والذل الذي اصاب فرنسا تحت مبدأ ما كان يعرف بال universalisme او تصدير مبادئ الجمهورية وقيمها الكونية .
هذا التصدير كانت له منذ البداية دوافعه الاقتصادية البحتة. التي كان يعبر عنها حينها التيار اليميني الاورلياني او orléanistes. والذي ساهم باقناع رجال المال بوجود فرص اقتصادية كبيرة وراء هذا التوسع. وهي النظرة التي بقيت طاغية في المقاربة الفرنسية الخارجية لدول النفوذ والاستعمار. حتى مع تغير القيادات بين العسكر ،الشيوعية الليبرالية واليمينية .وهي نفسها النظرة التي استفاق على بشاعتها الشارع الافريقي اليوم بعد مئات السنين.
تلاشي الامبراطورية اكتمل حتى بعد سقوط الاتحاد السوفياتي ومع الهيمنة الامريكية على العالم. والتي سعت دائما حتى هذا اليوم الى تحجيم المصالح الفرنسية الخارجية وضرب مبدأي سياستها الخارجية الاستقلالية والتعددية .الاحادية الامريكية رافقها صعود النجم الصيني الذي حول النفوذ العالمي الى مدار صراع قطبي اميركي صيني، تدور دول العالم والمنطقة في فلكهما .
لم تستطع فرنسا ان تحجز لنفسها مكانا بين قطبي العالم الجديد. فخسرت عنصر استمرار قيام اي امبراطورية، ألا وهو “السلطة القوية ” والولاء للسلطة المركزية ونجاح النموذج . العنصر الاول تلاشى مع تقاسم النفوذ العالمي بين القوى الكبرى. والعنصر الثاني وجد على مستوى القيادات التي حكمت بقوة الاستبداد والفساد. وفقد تماما على مستوى الشارع المنتفض اليوم في افريقيا. اما العنصر الثالث فالامثلة كثيرة على سقوط نموذجه القائم على الاستعمار، الفاقد بدوره لعناصر النموذج الحقيقي.
الجمهورية الخامسة واجهت التحدي الاكبر في تاريخ السياسة الفرنسيةالخارجية. بين تلاشي آخر حدود الامبراطورية الخارجية وبين خطر انهيار الجمهورية في الداخل. لان مسار التاريخ يكتب ان الهزائم تسقط الامبراطوريات والضعف والهشاشة يضعضع الجمهوريات، اذا لم تترافق مع تصحيح المسار، كما الحال مع الامبراطورية الامريكية .
فرنسا اليوم تتلقى الهزيمة تلوى الاخرى. من افريقيا الى الشرق الاوسط.حيث فشلت في ليبيا ولبنان. نتيجة المقاربة الخاطئة المبنية على جهل التركيبة السياسية. ونتيجة غياب مفهوم العصا أو القوة، في سياستها الخارجية.وحيث بقيت ايضا سياساتها الشرق اوسطية تلعب بين هوامش صفقات السلاح واستثمارات الشركات. من دون اي عمق سياسي واضح.
امام هذا المشد الخارجي المتهالك، بدا المشهد الفرنسي الداخلي الذي تعيشه الجمهورية الخامسة، ينذر بمستقبل مجهول. بسبب الخوف من نزعة الانكفاء نحو الهويات الجزئية الثقافية والدينية، وتعميق مشكلة المواطنة .
فرنسا اليوم تبدو عالقة مترنحة بين نهاية الامبراطورية الآفلة،وبداية جمهورية سادسة لم تولد بعد….
النهار