كما في انفجار المرفأ كذلك في نهب مصرف لبنان!
فارس خشّان
مارس الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة حقّه في محاربة القضاء بالقضاء، وفق السيناريو نفسه الذي سبق أن اعتمدته الطبقة الحاكمة لإنقاذ رجالاتها من الملاحقة في ملف انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب( أغسطس) 2020.
وقد تفتقت عبقريّة الساعين إلى الإفلات من العقاب في لبنان عن خطة قضت بشلّ مرجعية قضائيّة مهمة تُسمّى الهيئة العامة لمحكمة التمييز، من خلال منع ملء الشواغر فيها، ما حوّلها إلى مقبرة الملفات المهمة.
ومنذ اتُّخذ القرار بشل مرجعية الهيئة العامة لمحكمة التمييز، تحوّل كل قاض ينظر بملف شخصية معروفة في لبنان إلى “خصم” للمدّعى عليه وإلى “مرتكب”، ما يضطرّه إلى أن يرفع يده عن الملف المحال إليه، حتى تبتّ هذه الهيئة في مزاعم “الخصومة” و”الانحياز”.
وبما أنّ الفراغ يشل عمل الهيئة العامة لمحكمة التمييز، فهي غير قادرة على الاجتماع والبت بالدعوى المرفوعة أمامها ضد القاضي، الأمر الذي يشل العملية القضائية إلى أجل غير مسمّى.
ولم تجد الطبقة الحاكمة، منذ وضع المحقق العدلي في ملف انفجار مرفأ بيروت طارق البيطار خطة التصدي لجميع المشتبه بتورطهم بهذه القضية الخطرة، سوى هذا المخرج لتتخلّص من “شروره” عليها.
ولم يتردد الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة، بعدما أحكم الطوق عليه، بفعل القرارات الصادرة في الخارج ضدّه وفي ضوء الوقائع التي استهدفه بها تقرير التدقيق الجنائي، عن اللجوء إلى مقبرة الهيئة العامة لمحكمة التمييز ليودعها ملفه، ما نجّاه كما سبق أن نجّى المتهمين بتفجير مرفأ بيروت من التوقيف وتسريع التحقيقات وانطلاق المحاكمات.
وقد استبق رياض سلامة إيداع ملف ملاحقته لدى الهيئة العامة لمحكمة التمييز، بتوزيع موقف له ينفي فيه أن يكون قد أخرج من لبنان إلى أيّ دولة في العالم “يو.بي.أس” تتضمّن الأدلة الوافية إلى ارتكابات السياسيّين الذين تعاقبوا على السلطة أو تحكّموا بها.
وهذا يعني أنّ رياض سلامة، بنفيه هذا، أبلغ الطبقة الحاكمة في لبنان، وهو الأدرى بتأثيرها في العمل القضائي، بأنّه لا يزال جزءًا منها ولن يتخلّى عنها وسيواظب على علاقة الثقة التي تربطه بها!
ولا يتحمّل رياض سلامة مسؤوليّة إنقاذ نفسه باللجوء إلى هذا التدبير الخبيث، بل تتحمّله الطبقة الحاكمة التي أوجدت هذه الثغرة لإسقاط القضاء اللبناني نهائيًّا من قائمة من يمكن أن يُهدّدوا مثابرتها على تهديم البلاد وسرقة العباد وقتلهم وتهجيرهم!
ولا عجب في ذلك، فكما أنّ الشخصيات التي حمتها الطبقة الحاكمة من الملاحقة في ملف انفجار مرفأ بيروت كانت مجرّد منفّذة أوامر عند الجهات التي عيّنتها في مناصبها، بحيث لا تحل شعرة إلا بأمر منها، كذلك كانت حال رياض سلامة، إذ إنّه، في ما هو منسوب إليه من تهم الهدر والاختلاس وصرف النفوذ وتبييض الأموال، لم يأخذ سوى عمولة بسيطة جدًّا بمئات ملايين الدولارات على الخدمات التي قدّمها، بعشرات مليارات الدولارات، للطبقة الحاكمة.
ويدرك ذلك من أمعن النظر في تقرير التدقيق الجنائي في مصرف لبنان، حيث سمح رياض سلامة بإنفاق مال اللبنانيين والمودعين والمستثمرين، كما لو كان يقوم بعمل إبداعي عظيم، ممتنعًا عن ضرب يده على الطاولة، وهو يرى بأم العين أنّ الأموال التي يسمح بصرفها تذهب هباءً بفعل الهدر واللصوصية والتهريب والتنفيع!
وفي ذلك لم يكن رياض سلامة وحده، فحتى النصف الأول من عام 2020، على أقلّ تقدير، تواطأ جميع هؤلاء الذين عيّنتهم الطبقة الحاكمة ليكونوا معه، فلم يسكتوا عن أفعاله الفاحشة فحسب، بل غرفوا لأنفسهم ما يمكن من منافع على حساب المال العام، أيضًا.
ولو كانت هناك سلطة ملاحقة جديّة، فإنّ رياض سلامة لم يكن الوحيد الذي تتم ملاحقته أمام القضاء، بل كان واحدًا من مجموعة كبيرة تضم جميع من سبق أن عيّنوا ليكونوا معه في صناعة القرار في مصرف لبنان.
ولو كانت العقوبات الدوليّة تتوخّى الفاعلية، لكانت مدّدت خدماتها إلى أولئك السياسيّين الذين كان رياض سلامة مجرّد متعهّد فساد عندهم.
* نقلا عن “النهار”