تصفير المشاكل إيرانيا: نموذج شمال أفريقيا
د. هيثم الزبيدي
يدق الإيرانيون مؤخرا على أبواب موصدة أمامهم في شمال أفريقيا. يحاولون العودة من خلال استعادة العلاقات الدبلوماسية المقطوعة مع دول أساسية في شمال أفريقيا، وبالخصوص مع المغرب ومصر.
في لحظة وهم كبير، اعتقدت إيران أن بوسعها تسجيل اختراقات كبيرة في شمال أفريقيا، تنضاف إلى اختراقات وتواجد سجلتهما في أفريقيا. هذا الوهم ما كان في الحقيقة إلا عملية استبدال لتواجد تبشيري ومالي للمشروع الوهابي السعودي في أفريقيا.
ذلك المشروع الذي حقق اختراقات مهمة، لملم كل ما لديه وغادر بعد هجمات سبتمبر 2001، وبعد أن أدرك خطورة التلويح الأميركي بأنها لن تتسامح بعد اليوم مع السعوديين. الإيرانيون وجدوا المسرح خاليا سياسيا وماليا، وكل ما فعلوه هو أن غيروا الشعارات وأصوات المبشرين، وصارت لدينا نسخ من حزب الله الأفريقي إذا جاز التعبير.
يعتقد الإيرانيون أن “هجوم الابتسامات” الذي نجح مع السعوديين، يمكن أن يفسر لصالحهم في شمال أفريقيا. لا شك أن القطيعة الدبلوماسية ليست حالة طبيعية بين الدول. لكن أمام تعرض الأمن القومي في دولة لمحاولة اختراق متعددة الأوجه، ماذا بوسع الدول أن تعمل؟ إذا كانت المدرسة الإيرانية في عاصمة شمال أفريقية لا تقوم بدور مدرسة إيرانية، هل تلام الدول على قطع العلاقات مع طهران؟ إذا ثبت السعي الإيراني إلى التغيير المذهبي لمواطني تلك الدول، سواء على أرض الدولة المعنية أو من خلال الحركة الأسهل في أوروبا بين مغتربيها، لا يترك الإيرانيون الكثير من الخيارات كرد فعل أمام دول تحرص على أمنها الاجتماعي والسياسي في مواجهة دولة لا تلف ولا تدور في الإفصاح عن مشروعها الإستراتيجي في تصدير الثورة.
من المبكر الحكم على نتائج سياسة “تصفير المشاكل” الإيرانية. بالأساس لا شيء اسمه “تصفير المشاكل” إيرانيا في شرق العالم العربي. إيران تدير أزماتها مع دول المنطقة، وتستفيد من رغبة إماراتية في نزع فتيل الأزمات في أكثر من قضية، وهي رغبة تحاول السعودية اللحاق بها.
يمكن رسم خط جغرافي إيراني بين سياستي “إدارة الأزمات” في شرق عالمنا، و”تصفير المشاكل” في غرب هذا العالم. يمر هذا الخط عند الحدود بين مصر وغزة حيث الشأن الفلسطيني في صلب اهتمام طهران في البقاء جزءا من آليات صنع المشاكل والدخول من خلالها، وبالتحديد عن طريق الجهاد الإسلامي وحماس في غزة. يتحرك الخط جنوبا متجنبا مصر، ليعود في عمق وادي النيل في السودان حماية لمشروعها الحوثي وللتأثير على السعودية.
إن أساس التحرك الدبلوماسي الإيراني وطرق الأبواب هو الفشل. لم يتمكن الإيرانيون من تحقيق اختراقات مهمة في شمال أفريقيا لأسباب متعددة. من هذه الأسباب، أن لا حضور لهم مذهبيا في المنطقة كما هو الحال في شرق عالمنا العربي. لم يكن لدى الإيرانيين ما يكفي من الأعداد البشرية التي يمكن البناء عليها لفرض أمر واقع. هذا ينبه إلى اهتمامهم المبكر مثلا بموضوع الزيجات الإيرانية مع رجال ونساء من دول شمال أفريقية.
اصطدم الإيرانيون أيضا بمقاومة تتمثل في إيمان ديني واجتماعي في طرف عالمنا العربي في المغرب، مركزه فاس وأساسه الولاء لقيادة البيت العلوي. هذه المقاومة، ولدهشة الإيرانيين، كانت من الرسوخ والعمق أنها حالت دون توسعهم المذهبي في منطقة الساحل والصحراء وحوض نهر السنغال. المرجعية الدينية لهذه الكتلة البشرية تكمن في فاس، ومن غير الوارد استبدالها اجتماعيا قبل أي نظر إليها سياسيا من أي زاوية.
راهن الإيرانيون على التخلخلات السياسية والاجتماعية التي أحدثها الربيع العربي ودخول الإخوان على خط الحكم. في فترة من الفترات، حكم الإخوان كل شمال أفريقيا. وفي وجه من أوجه هذا الحكم، صار المطلوب هو استبدال الإيمان الديني الصوفي التقليدي بمذهبية إخوانية متعاونة مع إيران. القضايا جاهزة والربيع يتمدد، فلماذا لا نستغل الفرصة.
لكن حكم الإخوان فشل في أكثر من مكان. الضربة الكبرى في سقوط حكم الرئيس المصري الأسبق محمد مرسي بعد ثورة شعبية تدخل فيها الجيش بحسم. ثم سقط معنويا في تونس قبل أن يوجه له الرئيس قيس سعيد ضربة قاضية. وجاء سقوط الإخوان مدويا في المغرب بعد 10 سنوات من الحكم. وهناك خلطة مصالح وإخوان تتحكم بليبيا الآن، لكن المشير خليفة حفتر كان قد نغّص على الإخوان حكمهم منذ البداية. والإخوان في الجزائر اليوم هم أداة من أدوات الحكم، يشاغل بها العسكر معارضيهم.
ثمة بعد آخر مهم لسياسة “تصفير المشاكل”. طموحات الدول الكبرى تتصادم في أفريقيا. إيران من الوارد أن تنفق هنا أو تتحرك هناك لإقامة مستعمرات ولاء سياسي لأحزاب الله الأفريقية. لكنها لا تمتلك المال ولا المقومات السياسية لأكثر من هذا مقارنة مع الدول الكبرى. ما عجزت عنه فرنسا، القوة التاريخية في أفريقيا، هل بوسع إيران الوصول إليه؟ كيف تنافس الصينيين أو الأميركيين؟ بل كيف تنافس الأتراك وهم لاعب أصغر؟
لكن لا ينبغي الاستهانة بالعلاقة الإيرانية – الروسية. ينسق الإيرانيون والروس بشكل كبير في أكثر من مكان أو جبهة في العالم. من غير المستبعد أن يكون هناك تنسيق على مستويات مختلفة في الشأن الأفريقي عموما، والشأن شمال الأفريقي على وجه الخصوص. فاغنر ميليشيا مدفوعة الأجر روسيًّا، وكتائب حزب الله ميليشيات مدفوعة الأجر إيرانيا. النماذج قريبة من بعضها البعض. الفرق يكمن في أن طموحات إيران تتجاوز الفائدة الفورية، وتسعى إلى تغييرات عميقة تجعل من وجودها الأفريقي، وخصوصا في شمال أفريقيا، وجودا مذهبيا دائما.
لكن بالمقابل ينبغي عدم الاستهانة بالاهتمام الإيراني بشمال أفريقيا. العلاقات الدبلوماسية قد تكون مقطوعة مع المغرب ومصر، لكن لإيران حضورا متعاطفا في دول أخرى. إيران تسوّق نفسها من خلال حزب الله ومواجهة إسرائيل والقضية الفلسطينية والتطبيع. التونسيون على سبيل المثال متحمسون لهذه القضايا وينظرون إلى إيران من هذه الزاوية. الإيرانيون يحاولون استقطاب اهتمام أكبر بالانفتاح على المثقفين التونسيين. لوبي أحد فنادق تونس الكبرى، ليس بعيدا عن مبنى وزارة الخارجية التونسية، يمور بالإيرانيين حتى تظن لوهلة أن هناك من يصور فيلما عن طهران في أجواء شرقية كما جرت العادة عندما يتم تصوير أفلام في بلدان عربية تروي حكايات عن إيران أو أفغانستان. بعض الفنانين والمثقفين المصريين يذهبون إلى العراق بدعوات من مؤسسات إيرانية قلبا وقالبا. بين الحديث عن الحرب على التطرف وعن داعش وعن القضايا الأخرى المرتبطة بالهيمنة الأميركية والعدوانية الإسرائيلية، تينع النسخة الإيرانية من زاوية النظر للأشياء.
بالنسبة إلى مثقف من شمال أفريقيا، إيران أقرب له من إسرائيل والولايات المتحدة. أما ما تفعله إيران في شرق خارطتها من عالمنا العربي، فيبدو ثانويا طالما النتيجة مناكفة إسرائيل.
لم يبق الكثير لتحقيقه إيرانيا في غرب الخط الفاصل، فجاءت سياسة “تصفير المشاكل”. إلى أي مدى سينجح وزير الخارجية الإيراني أمير حسين عبداللهيان في تحريك دبلوماسييه ليدقوا على الأبواب؟ هذا بالأساس يعتمد على من سيفتح الباب ومن سيبقيه مغلقا. دولة عبداللهيان متعودة على الانتظار.