الكاظمي وخيار عروبة العراق الذّكي
لفتني الحديث المطول الذي أدلى به رئيس الوزراء العراقي السابق مصطفى الكاظمي للزميل غسان شربل في صحيفة “الشرق الأوسط” السعودية، والذي نشر للصدفة يوم الأحد الفائت، أي عشية الإعلان عن الاتفاق السعودي – الإيراني برعاية صينية في العاصمة بكين. كانت مقابلة شاملة، وتضمنت الكثير من الإضاءات على مرحلة تولى فيها الكاظمي رئاسة الوزراء في بلد يمكن اعتباره أصعب البلدان العربية وأكثرها تعقيداً في ما يتعلق بالحكم والسلطة.
طبعاً أتى الحديث في أعقاب تفاقم الحملة التي تديرها بعض القوى والأحزاب المنضوية ضمن ما يسمى بـ”الإطار التنسيقي” الذي يجمع قوى وأحزاباً متأثرة بالنفوذ الإيراني المباشر، ضده عبر استهداف عدد من معاونيه بتهم ساقتها “هيئة النزاهة”، مصدرة أوامر قبض وتحر بحقهم. وهنا عزا الكاظمي التهم إلى استهداف ذي طبيعة سياسية، وخصوصاً أنه كان قد تعرض لحملة عنيفة بنهاية ولايته، حيث انهالت عليه التهم لأنه يميل إلى التقرب من الحاضنة العربية أكثر من “الظهير” الإيراني المنخرط بقوة في الساحة العراقية الداخلية. ولأنه حاول قدر ما أمكن، حسبما قال، أن يعتمد سياسة تغليب منطق الدولة على اللادولة، وتقليص مساحة السلاح المتفلت والفساد المستشري، إضافة إلى الانفتاح على الخارج، وهنا يعني إيران وأميركا والعرب، في اطار اعتماد لغة المصالح والتعاون، بعيداً من أسلوب التبعية (هنا يعني بالتحديد إيران). كان سهلاً أن تشن على الكاظمي حرب مضنية لمحاصرة حكومته، وتقييد يديه داخلياً وخارجياً، لأنه لم يكن يمتلك لا ميليشيا، ولا حزباً ولا كتلة برلمانية. لكن تقديرنا أن هذه النواقص كانت في مكان ما نقاط قوة، حيث اندفع ليحاول أن يكون رئيساً للوزراء لا رئيساً لحزب داخل مجلس الوزراء. وبرأينا هذا ما أبقاه بعيداً من “سرقات العصر” في العراق التي كانت الأحزاب المعروفة بولائها الخارجي بطلته، حيث تم إهدار أكثر من 600 مليار دولار بين 2003 و2020، من خلال، وفق ما أشار الكاظمي في الحديث، تمويل المشاريع الوهمية، وأعمال عسكرية أسهم فيها العراق “مع الأسف الشديد”، وتأسيس وضع عسكري لجماعات مسلحة في العراق وخارج العراق! فمن تراها تلك الجماعات ومن أدار عمليات النهب تلك؟
وصل الكاظمي إلى الحكم عام 2020، إثر تظاهرات تشرين(أكتوبر) في العراق التي أغرقتها الحكومة التي سبقته بالدم، بالتكافل والتضامن مع الميليشيات المسلحة العاملة تحت مسمى “الحشد الشعبي”. حاول أن يهدئ الوضع، بالرغم من أنه كان يعرف أن الفريق الذي يستهدفه اليوم ما كان يريده في سدة رئاسة الحكومة أصلاً، لكن ربما كانوا يريدون التملص من المسؤولية، خصوصاً أن البلاد كانت على شفير حرب أهلية داخلية، وبالتحديد داخل المكوّن الشيعي.
قد يكون خيار الكاظمي الذي ما كان بعيداً من خيار المرجعية في النجف، وعلى رأسها السيد علي السيستاني الداعي إلى عروبة العراق، والاهتمام بالإنسان والفرد العراقي، وإعلاء شأن الهوية الوطنية الشاملة لكل أبناء العراق. وقد ذكر الكاظمي في الحديث أن السيد السيستاني كان يدعو إلى اندماج المجتمعات الشيعية ضمن دولهم. هذا معروف وهو تعبير عن تناقض واضح وصريح مع مشروع “ولاية الفقية” الإيراني التوسعي.
لعل أكثر ما يهمنا من ولاية الكاظمي على رأس الحكومة العراقية منذ منتصف عام 2020، أنه انحاز إلى الخيار العربي من دون أن ينسى الحقائق الجيوسياسية التي حتّمت على العراق التعامل مع ثقل النفوذ الإيراني بواقعية شديدة. فبناء هوية وطنية عراقية هو خيار عربي منفتح، لا سيما في بلد متنوع مثل العراق. وإعادة العراق إلى بيئته العربية الحاضنة على قاعدة أن العراق كما يقول هو “بلد عربي بامتياز” خيار له مفاعيل عميقة في بلاد ما بين النهرين الواقعة على تماس بين مشروعين متناقضين في العمق، وذلك على الرغم من الاتفاقات الأخيرة. وقد واجه الكاظمي بسبب خياره العربي حملات عنيفة وصلت إلى حد قصف منزله من قبل ميليشيات يعرف هو، ونعرف نحن من يديرها من الخلف. وربما كان للحديث الذي كشف عنه مع المرشد الإيراني علي خامنئي أثر بالغ في مسار حكمه والحملات التي تعرض لها في ما بعد، إذ قال لخامنئي في أول لقاء بعد توليه رئاسة مجلس الوزراء : “نريد أن تتفهموا خصوصيتنا”! يقيننا أن هذا الكلام اعتبر بمثابة إعلان حرب، أو أنه استدرج إعلان حرب ستدوم طوال حياة الحكومة التي ترأسها.
لكن من المهم بمكان أن تشاء الصدفة أن الحديث الذي نشر يوم الأحد الفائت أتى متزامناً مع الاتفاق السعودي – الإيراني في بكين. وفي البيان المشترك أشير إلى دور العراق، وعملياً إلى دور الكاظمي في تنظيم جولات مفاوضات في بغداد بين الطرفين على مدى عام كامل، اتبعت بعد مغادرة الكاظمي في مسقط، وانتهت في بكين بالاتفاق الذي صار حدثاً إقليمياً وعالمياً بامتياز. وهنا يسجل للكاظمي الذي اتخذ ولا يزال خيار العراق العربي، والتوازن في العلاقات الدولية، لا سيما أنه تمكن من جمع قمة “بغداد -1” صيف 2021. اجتمعت القمة الثانية في الأردن لكنها لم تلقَ اهتماماً شبيهاً. وبالنسبة إلى لبنان قد يكون من نتائج قمة “بغداد-1” أنها سرّعت في تشكيل حكومة لبنانية برئاسة نجيب ميقاتي التي تصرف الأعمال حالياً. لكن لا يمكن تجاهل دور الكاظمي الذي يتعرض لحملة عنيفة من الفريق المعروف ذاته، أنه في مطلق الأحوال أحد أهم ممثلي خيار العراق العربي المتنوع المنفتح على العالم. ولعله بمناسبة الاتفاق السعودي – الإيراني يتم الاعتراف بدور الرجل وبعد نظره. في النهاية، عاد الجميع إلى طاولة التفاوض وتهدئة الساحات لأن العكس معناه خراب الجميع.
نقلاً عن النهار