استراتيجية طهران لشق المعارضة الإيرانية
وليد فارس
إذ تستمر الانتفاضة الشعبية داخل إيران وتتصاعد تظاهرات الإيرانيين في العالم، وإذ تبدي إدارة جو بايدن وحكومات الاتحاد الأوروبي اهتماماً متزايداً بحركة المعارضة داخل الجمهورية الإسلامية، فاتحة الأبواب لممثليها للتعبيرعن أنفسهم من على المنابر العالمية، تتحرك أجهزة النظام الإيراني لتحاول تأخير نمو هذه المعارض وتمييعها وإشغالها بصراعات جانبية حتى تقسيمها وبعثرتها. المعادلة باتت واضحة وضوح الشمس، إذا استمرت الانتفاضة في الداخل بالتوسع والعناد، وإذا صعدت الجاليات الإيرانية نشاطاتها الإعلامية والسياسية كقوة موحدة ستجتاح الثورة قلوب الناس في الغرب وينقلب الرأي العام إلى مؤيد ناشط لتغيير النظام، مما سيسقط آخر دفاعات الاتحاد الأوروبي وإدارة بايدن في التمسك بالاتفاق النووي. والأخطر بالنسبة للنظام عندها أن يبدأ الغرب بدعم “مقاومة إيرانية” ميدانياً، مما يعني نقل المعركة إلى الداخل الإيراني وصولاً إلى احتمال تساقط النظام أو عزله بشكل كبير.
ولاستباق هكذا سيناريو تتحرك دوائر القيادة الإيرانية لخلخلة وضع المعارضة الخارجية وصولاً إلى شقها، وهي استراتيجية طبقتها طهران وقبلها نظام حافظ الأسد لسنوات عديدة في لبنان والعراق واليمن وسوريا وحيال المناطق الكردية. إذ إن طهران وضعت ثقلها ومالها وشبكاتها لزرع الانشقاقات في صفوف معارضيها حتى شل قدراتهم على الوصول إلى أهدافهم وعلى رأسها التحرر من سيطرة “الجمهورية الإسلامية”. وليست “إنجازاتها” في العراق حيث شقت صفوف معارضيها وفي اليمن حيث أضرمت مواجهات بين أعدائها وفي سوريا حيث كسرت معارضة النظام ولبنان حيث خرقت كل الطوائف ولعبت على أوتار الصراع على السلطة عبر شبكة “حزب الله”، إلا أمثلة لما بمقدور طهران أن تقوم به لإفشال معارضيها السياسيين بالرغم من تعاظم الوثبة الشعبية ضد هذا النظام.
فما هو أقوى سلاح لديها ضد المعارضة؟ الجواب بسيط وقد تابعت استعماله لعقود. فالنظام يشعل “خلافات المستقبل” ويفجرها قبل وقتها ويعمل على تعزيز نيرانها وتوسيعها لتلتهم أطراف المعارضة قبل أن يحققوا أهدافهم. ويوفر التاريخ الحديث في لبنان أمثلة عديدة عن نجاح “المحور” بإشعال حرب داخلية في “المنطقة الحرة” عام 1990 أدت إلى سقوطها وتدمير طرفي الصراع. بالإضافة إلى إضعاف كردستان العراق عبر تشجيع الصراعات الداخلية بين الأكراد لسنوات. السلاح واحد وهو إشعال فتيل الصراع على السلطة قبل التحرير أو خلاله. وهذا ما يسعى إليه النظام الإيراني الآن حيال المعضلة المتصاعدة. كيف؟
حرب أهلية في الخارج
التسابق بين القوى السياسية الكبرى في الجاليات الإيرانية المنتشرة بالعالم أمر عادي وقديم، ولكن إشعال الفتنة في صفوفها بات أولوية للنظام. وقد كانت القيادة في طهران وأجهزتها قد بثت تقاريراً سلبية عن مختلف فصائل المعارضة في المنفى منذ سنوات لتهميشها أمام الغرب. ولكن انفجار الاحتجاجات الداخلية منذ بداية الخريف الماضي وصعود الفصائل والقيادات الخارجية إلى المنابر الإعلامية، شكل خطراً مباشراً على القيادة الخمينية، لأن المظاهرات صبت في تشريع الأصوات الخارجية وفي تهيئتها للعب دور وطني بديل داخل إيران. فشنت أجهزتها ولوبياتها حملة معقدة لإحداث مناكفات سياسية متصاعدة بين قيادات المعاضة الخارجية وعلى رأسها القوتان المعنويتان والسياسيتان الأساسيتان، نجل الشاه السابق رضا بهلوي وحلفاء له من ناحية ومريم رجوي زعيمة المجلس الوطني للمقاومة أو “مجاهدي خلق” MEK.
وقد تسارعت الاتهامات المتبادلة بين الطرفين منذ نهاية الخريف واتهم كل طرف الآخر بشتى الاتهامات القديمة والتي كان النظام قد أبقاها على نار متوسطة ونجح في جعل الطرفين منخرطين بها بدلاً من التركيز على عدم شرعية القيادة الخمينية. وهكذا بعد أربعة أشهر فجأة تبادل أنصار بهلوي ورجوي هجمات إعلامية عنيفة بين ليلة وضحاها في بداية العام. تحالف ابن الشاه اتهم “مجاهدي خلق” بأنهم “مستبدون” ورفضوا مشاركتهم بجبهة عريضة، وتحالف مجاهدي خلق اتهم بهلوي بأنه يخطط لإعادة إقامة “الامبراطورية” بدلاً من “جمهورية” في إيران المستقبل. الكلام كان موجوداً لسنوات، ولكنه كان في داخل الزوايا والصالات المقفلة. فلم نسمع به في المهرجانات الصاخبة ولم نقرأه في الكتب والبيانات السياسية. لماذا ظهر الآن بهذا التوقيت وبهذه الغزارة؟ فباتت القوتان تحذران الحكومات الغربية من مغبة التواصل مع الطرف الآخر، مما قد يؤدي إلى خسارة ملف المعارضة.
الأجهزة الإيرانية أشعلت حرباً سياسية داخلية لدى المعارضة الخارجية بعد أن دفعت بالفصائل بأن تدافع عن دورها المستقبلي داخل إيران قبل سقوط النظام. ونجحت الأجهزة بدفع فصائل أصغر، كالجمهوريين العلمانيين والديموقراطيين الاشتراكيين إلى دخول معترك مستقبل الحكومة الانتقالية، قبل أن تنوحد أصلاً.
وسرعان ما ستشهد واشنطن والعواصم الأوروبية هجاء متبادلاً بين القوى المعارضة المختلفة، سيوظفها النظام في سعيه لإقناع مراكز القرار بالتعاطي مع الملالي بدلاً من الفوضى. هذا إذا سقطت قوى المعارضة الخارجية في الفخ.
على جبهة أخرى معلوم أن الدولة الإيرانية هي متعددة الأثنيات والقوميات والطوائف الدينية، وأن هنالك نزعات انفصالية وطروحات اتحادية، وأيديولوجيات تقسيمية متناقضة لعقود من الزمن، قبل الجمهورية الإسلامية، خلالها، وبعدها. فبالإضافة إلى الأكثرية الأثنية الفارسية هنالك مجموعات أثنية أصغر حجماً موجودة في مناطق جغرافية معينة كالأكراد في غرب البلاد، والعرب الاهواز في الجنوب الغربي، والأذر في الشمال الغربي، والبلوش في الجنوب الغربي. وكما في العراق وسوريا ولبنان والسودان وتركيا ولو بنسب مختلفة، لإيران ملف للأقليات لا سيما مع تنامي التيارات القومية. وهكذا ملف منطقياً يجب أن يعالج بعد انتهاء النظام الحالي الذي قمع كل تلك المجموعات بشراسة منذ 1979، إذ أن ربط ملف تغيير الحكم في طهران “إبان” الثورة وبصورة صدامية، لن تستفيد منه إلا المنظومة الحاكمة، إذ ستنتشر ضبابية لدى العواصم تجاه ما قد يتصوره البعض بأنه ستكون سيناريوهات حروب أثنية طويلة إذا سقط الملالي. فتلقف “الباسدران” وشبكتهم الإعلامية هذا التحدي، وبطريقتهم المألوفة وزعوا تأثيراتهم على الأطراف المعارضة فنشروا مواقف تهاجم “التطرف الفارسي” لفئات أخرى من المعارضة، وبالمقابل نشروا كلاماً عن معارضين إيرانيين يتهم الأكراد والعرب والبلوش “بمؤامرات لتقسيم الأراضي الإيرانية”. ومع العلم أن هكذا مواقف ليست غريبة عن “القوميين” في كل المكونات الإيرانية، إلا أن استعمالها بغير وقتها وبغير إطارها والسماح للنظام في أن يستعملها كسلاح لتدمير وحدة العارضة أمر مقلق. إذ أنه من المعلوم تماماً أن الأقليات الأثنية لها جغرافيتها وتاريخها وتطلعاتها، وهي ملفات لا بد أن تتناقش فيها مع ممثلي المجتمع الإيراني الفارسي الحديث وتصل إلى حلول منطقية مشروعة، ولكن بعد مرحلة الجمهورية الخمينية. أكانت كردستان أم الأهواز فقد عانت كثيراً من حكام طهران لعقود، وعلى الحكومة الانتقالية المركزية ما بعد التغيير أن تدخل في حوار مباشر مع ممثلي هذه المجتمعات لإقرار اتفاقات حول المستقبل. إلا أن الملالي تسعى إلى “التقنيص” على الفرس وغير الفرس في المعارضة الواسعة بشعارات تشحن العواطف لتفجير وحدتهم الميدانية داخل وخارج البلاد إبان الانتفاضة الشاملة ضد النظام، مما سيضعف كل الأطراف معاً.
المجتمع الإيراني
القيادة الإيرانية تعمل المستحيل لتنهك المعارضة قبل أن تشتعل البلاد كلها، ويبدأ الغرب بتغيير موقفه من النظام، لذلك فهي تضع جهداً غير اعتيادي لفكفكة المعارضة عبر إشعال “حروب أهلية” داخل التحالفات السياسية التي تقود هذه المعارضة، كما كتبنا في بداية المقال. ولكن السؤال الأكبر الآن هو التالي: هل أن الشعب الإيراني يتأثر بمحاولات النظام لتقسيم صفوفه بهذه السهولة؟ الجوب هو لا، ولكن. إذ أن المكونات الثلاثة الأولى لهذه الثورة هي أكثر وعياً من انتفاضات سبقت. فالمرأة الإيرانية، أكانت سيدة أم صبية، قد طفح كيلها منذ زمن من الأوضاع الاجتماعية المزرية، والأوضاع العائلية الكئيبة، والحالة الاقتصادية المتهاوية، وهي تعرف تماماً أنه إذا لم يتغير النظام فقمعها سوف يستمر بلا نهاية، وقد أطلقت شرارة مقتل مهسا أميني غضباً نسائياً ألهب عواطف النساء الإيرانيات بغض النظرعن التيارات السياسية، أضف إلى ذلك أن الحدث النسائي شكل حتى الآن قلب الاحتجاجات، وهذا الحس الاجتماعي لن يقبل بانقسامات لا سياسية ولا أثنية، قبل سقوط النظام. أما المكون الثاني، وهو كناية عن أجيال الشباب والشابات بما فيهم المراهقين المتحركين الذين وصفوا بـ “جيل ز” Generation Z، فهم قد تخطوا الحواجز المتعصبة وباتوا في واد آخر عن سائر المجتمع. فهذا الجيل، عبر مواقع التواصل الاجتماعي قد خرج من كوكب الخميني والتحق بالعولمة وليس بما يقدمه الملالي. لذا لا أنتظر أن ينخرط هذا الجيل الديناميكي في محاولات النظام، لا في تقسيم الفرس على أساس الماضي، ولا لتفجير التعددية القومية في إيران. أكان الجيل الحديث أو النساء، فقد أظهروا تضامنهم مع بعضهم أكثر من القوى السياسية الحديثة.
ولم تكن ظاهرة دفن مهسا أميني في كردستان إلا صورة قوية لمشاركة شباب الأهواز والأذر والمراهقين “الفرس” الذين سافروا من طهران نفسها ليلتحموا مع سائر المكونات في رسالة إلى العالم أن المشكلة هي في النظام وليس المجتمع.
أجندة المناطق
أما المناطق الأثنية الكبرى الكردية والعربية والأذرية والبلوشية، وبالرغم من أنها تنتظر بفارغ الصبر المرحلة المستقبلية لتثبيت حقوقها، فإن الجزء الشاب من نخبها الثقافية بات مدركاً أن وحدة المعارضة على “الصعيد الوطني” هو الضمانة الأعلى لنجاح التغيير الشامل في البلاد.
إذ أن الغرب ليس فيه قابلية ليدعم أقلية واحدة بمفردها بل إذا قرر سيدعم جهداً جماعياً لكل الإيرانيين لتغيير الأوضاع. من هنا فإن هذه الأقليات ستلتزم بأجندة مرحلية لتغيير النظام في طهران، وتهتم بشوؤنها الذاتية بعد التغيير، ومن شروط هذه الأجندة المرحلية أن تتوافق مع المعارضة المركزية على شروط الثورة وفيه الحد الأدنى من الاعتراف بتعددية إيران. وهذا بالضبط ما تخشاه القيادة الخمينية، وهو أن لا تنجح بتفجير حرب أثنية داخل المعارضة.
إن إفشال خطة النظام لتقسيم المعارضة هو عملياً بين أيدي القيادات “الإيرانية الفارسية” وخاصة في الخارج وعليها أن تكون شديدة التأني، وثانياً بين أيدي “قيادات الأقليات” وأن تتحلى بصبر طويل. ويبقى بالطبع دور الغرب والولايات المتحدة وسنتابعه ونفيد عنه.
اندبندنت عربية