عن الثأر لسليماني واغتيال آخر
علي شندب
لا نعرف لماذا لم تطلق وكالة تسنيم الإيرانية، على قاسم سليماني شخصية عام 2020، أسوة بمجلة التايمز الأميركية. سبب التساؤل يكمن في الندية التي لطالما حاول قادة إيران والحرس الثوري التمظهر بها تجاه الولايات المتحدة وخصوصا الجيش الأميركي. لكن إعلام الحرس الثوري الذي يجتهد في استثمار كل عناصر الإثارة الدعائية فوّت مثل هذه الفرصة السنوية، ونأى بنفسه عن مثل هذا التقليد غير المتبع في إيران التي لا يغيب عنها وعن مدن العرب التي تتغوّل فيها الجوع والدمّ والخراب.
وبغض النظر عن مقاربات تسنيم وغيرها من الإعلام الإيراني والمتأيرن، فإن المنطقة عاشت طيلة عام 2020 على إيقاع مقتلة قاسم سليماني ومرافقيه وبينهم أبومهدي المهندس في مطار بغداد. المقتلة التي طوى فيها الرئيس الأميركي دونالد ترمب صفحة رمز قوة إيران ونفوذها الخارجي، وهي المقتلة التي لم يكن ما بعدها مثل ما قبلها. سيّما وأن ترمب أراد من خلالها القول بأنه لا أحد أكبر من سليماني، كما أنه بإمكان ذراعه الطويلة أن تطال أي كان وفي أي موقع كان، حتى لو كان ملجأه أعمق بكثير من ملجأ زعيم تنظيم الدولة الإسلامية داعش أبو بكر البغدادي.
بدون شك اغتيال سليماني وبالطريقة الرامبوية المعروفة، كما وبأسلوب التحدي والاستفزاز الذي اعتمده ترمب في الإعلان المثير عن مسؤوليته العارية من كل التباس عن هذا الاغتيال، وتعهده بمصير مشابه لكل من تسوّل له نفسه المساس بمطلق أميركي، وقد أراده ترمب ليوجّه من خلاله سلسلة من الرسائل الحارقة، عمل دهاقنة معهد “الصبر الاستراتيجي” الإيراني على فك شيفرتها، تمهيدا لتحديد مدة العدّة، عدة الصبر، بهدف الثأر لمقتل سليماني.
ساسة إيران وجنرالات الحرس الثوري نعوا سليماني وانتحبوه، بوصفه أسطورة التمدّد الإيراني في الخارج، وهدّدوا الولايات المتحدة وتعهدوا بالثأر له منها بأعنف الكلمات. لكن التهديد الأكبر كان بلسان المرشد علي خامنئي الذي اعتبر “خسارة سليماني مريرة وتوّعد بـ “ثأر قاس”، مؤكدا “أن كل من يهوى المقاومة سيثأر له”. عبارة تلقفها زعيم حزب الله في لبنان معتبرا “أن القصاص العادل لمقتل سليماني هو إنهاء الوجود الأميركي في منطقتنا”. وبسلطته الاستنسابية خاطب نصرالله يومها الشعب العراقي بقوله “أضعف الإيمان بالرد على جريمة قتل قاسم سليماني هو إخراج القوات الأميركية من العراق”، وهو ما تحاوله اليوم ميليشيا عصائب الخزعلي والنسخة العراقية من حزب الله.
وبعيدا عن الصواريخ الكاريكاتورية التي استهدفت قاعدة “عين الأسد” في الأنبار غرب العراق، بقي التهديد بالثأر لمقتل سليماني مستنسخا من صواريخ إيران الصوتية القادرة على “تدمير إسرائيل خلال 7 دقائق ونصف”. انها الصواريخ الصوتية التي تناوب على دكّ تل أبيب بها كل جنرالات إيران الثورية والسياسية، وذلك بهدف ردع إسرائيل وغيرها من أصحاب الطيران المجهول المعلوم عن استهداف مواقع إيران وأذرعها في سوريا والعراق، فضلا عن “الانفجارات الغامضة” التي أصابت عدة مواقع حساسة في إيران نفسها، حتى قام حسين سلامي قائد الحرس الثوري وبسلطته الاعتبارية ببلعها مع لسانه وسحبها من التداول بحجة “أن الظروف غير مؤاتية لتدمير إسرائيل”.
وكرّت سبحة أيام العام 2020، والثأر لمقتل سليماني الذي قذفته أفواه من تعهدوا به لم يزل معلّقا في الهواء. وقد ضاعف من حجم الثأر المعلّق، الاغتيال النوعي الآخر الذي نفّذه الموساد الإسرائيلي ضد ضلع إيران النووي والمرشد الروحي لقنبلتها النووية محسن فخري زاده، والذي لم يجمع قادة إيران على رواية نهائية لكيفية اغتياله اللوجستية والعملياتية، لكنهم أجمعوا على إحالتها على معهد الصبر الاستراتيجي أيضا. وباستهداف ضلعي إيران الخارجي والنووي، بالإضافة إلى العقوبات الاقتصادية والمالية التي أوهنت الوضع في إيران، تعيش طهران مأزق ضربة جدية يرجح أن يسدّدها ترمب خلال أسابيعه المتبقية في البيت الأبيض والمتزامنة مع السنوية الأولى لاغتياله سليماني.
إنها الأيام التي سبق واعتبر خلالها خامنئي أن “رفع الحظر بيد العدو، لكن إجهاضه بأيدينا، لذلك ينبغي علينا التركيز على إجهاض الحظر أكثر من التفكير في رفعه”، وأن أميركا الأوبامية أساءت إلى الشعب الإيراني مثل أميركا الترامبية، وأن “الدول الاوروبية الثلاث تصرفت كذلك بمنتهى الإساءة واللؤم والنفاق”.
وهي الأيام التي يبدو فيها أن عدّة الصبر الاستراتيجي الإيراني قد اكتملت بحسب خامنئي “يجب على من أمر ونفّذ اغتيال الفريق قاسم سليماني دفع الثمن”. وباعتباره أن “حذاء سليماني أشرف من رأس قاتله”، فالثمن الذي يريده خامنئي هو “طرد أميركا من المنطقة”. إنهما “الحذاء والطرد” اللذين سبق ورفعهما نصرالله ثمنا لدم سليماني يوم اغتياله، ويرفعهما خامنئي اليوم بعد عام على الاغتيال المدوي.
وعلى إيقاع الثأر المنتظر تستكمل إسرائيل غاراتها وقصفها المركّز على مواقع تابعة لإيران وميليشياتها في سوريا. وهي الغارات التي يعلن نتنياهو في سياقها تصميمه على منع إيران من تحويل سوريا إلى قاعدة لها. وهي الغارات التي تزامنت وتكثّفت مع تحليق للطيران الإسرائيلي المخيّر والمسيّر فوق جنوب لبنان والبقاع والضاحية الجنوبية وبيروت وجبل لبنان وصولا إلى الشمال، ومن دون إغفال التقارير التي تحدثت عن إنزال بحري إسرائيلي محدود في بلدة الجيّة الساحلية بين بيروت والجنوب.
لكن التحليق الأبلغ والمكثّف بالرسائل كان في سياق القصف الذي تعرضت له مدينة مصياف في ريف حماة الخميس الماضي، والذي تردّد أنه استهدف مخازن ومواقع تابعة لإيران. إنه التحليق والقصف الذي انطلق من البحر الموازي للشاطئ الممتد بين طرابلس وعكار في شمال لبنان، وقد رصدت كاميرات هواتف بعض أبناء عكار صور ومسار الصواريخ المنطلقة من قطع بحرية معادية وسط تحليق جوي سمع في مناطق لبنانية عدة.
لم يعد سرّا القول، إن تحليق الطيران الإسرائيلي المكثّف فوق لبنان بات مرتبطا بتنفيذ عملية أمنية نوعية، وقد تحدثت تقارير عدة أن هدف هذه العملية رأس زعيم حزب الله شخصيا. وللمناسبة فقد تردّد أن نصرالله سيقدم الليلة جردته السنوية وقراءته للمرحلة المقبلة، بعدما سجّل احتجابا لافتا عن الأحاديث المتلفزة المباشرة وغير المباشرة لاعتبارات تتعلّق تحديدا بأمنه الشخصي الذي دخل دائرة التهديد والتصويب بعد الضوء الأخضر الذي دشّنه ترمب باغتياله قاسم سليماني.
فاغتيال نصرالله بوصفه رأس الذراع الإيرانية الأقوى، بات محل تداول واسع ليس بين نخب ومراكز التفكير والتحليل والمتابعات السياسية فحسب، وإنّما محل حديث بين عامة الناس من بائع الكعك إلى بائع القهوة إلى بائع الخضار إلى الباحث عن عمل إلى المفقودة أموالهم في المصارف.. ما يعني أن ثمّة مناخا بات يتحدث عن اغتيال نصرالله كأمر واقع في أي لحظة مناسبة، وهو أمر تحدث عنه أصوات موالية للحزب أيضا.
إنها اللحظة المشابهة تماما لتلك اللحظة المناسبة، التي تحدث عنها خامنئي منذ نحو عشرة أيام تذكيرا بالثأر الحتمي لسليماني، ما يشي بأن المنطقة التي اكتمل تجهيز مسرح عملياتها في سباق بين الثأر لسليماني والرد عليه، وبين اغتيال سليماني آخر سيضاعف من تهشيم هيبة النظام الإيراني وهزّ صورته داخليا وخارجيا. وبديهي أن لكل من عمليتي “الثأر والاغتيال” المرجحتين تداعيات سوبر خطيرة على خطوط المنطقة التي تهتز خرائطها في لحظة قلقة على مستوى كرسي البيت الأبيض، من أوراسيا وشرق المتوسط وليبيا إلى اليمن والعراق وسوريا ولبنان.
نقلا عن العربية