إلى متى يفلت مجرمو الإخفاء القسري من العقاب؟
كثر الحديث في العقدين الأخيرين عن ظاهرة غير قانونية بدأت في الانتشار في بعض الدول التي تعاني ظروفاً سياسية وأمنية غير مستقرة، وهي الإخفاء القسري. ويحدث هذا المسلك عندما يتم اختطاف أو سجن شخص أو مجموعة بشرية من قبل الميليشيات المسلحة أو منظمات سياسية، ورفض الاعتراف بمصير الضحايا وأماكن احتجازهم بهدف إبقائهم خارج حماية القانون.
الظاهرة ليست جديدة في التاريخ القديم أو الحديث، وحدثت كثيراً في سنوات الاحتلال الاستعماري البريطاني والفرنسي والبرتغالي والإيطالي والعثماني، وأيضاً خلال الحروب الأوروبية والآسيوية والأفريقية وجمهوريات الموز اللاتينية.
والضحايا في الغالب هم مدنيون أبرياء، يُخطفون بالجملة والمفرد كما حدث قبل نحو ثلاث سنوات على أيدي ميليشيات أفريقية تُدعى «بوكو حرام» اختطفت أكثر من 100 تلميذة بمدارس ابتدائية في نيجيريا، وكذلك اختفاء أكثر من 7000 شخص في الجزائر على أيدي المتمردين والعصاة المسلحين. وضاعت حتى اليوم آثار كثير من المعتقلين العراقيين في السجون التي أقامتها قوات الاحتلال الأميركي في العراق بعد عام 2003. كذلك حدثت كوارث من هذا النوع في سوريا خلال سنوات الحرب الأهلية؛ حيث تم اختطاف كثير من المدنيين السوريين واللبنانيين والعراقيين اللاجئين على أيدي القوات الأمنية والميليشيات الموالية لإيران، ولم يتم الوصول إليهم من قبل أهاليهم أو المنظمات الإنسانية، وطبعاً فإن النظام السوري نفى أن يكون أحد منهم في سجونه.
الذي يهمني في هذا الصدد هو أن العراق يضم حالياً أكبر عدد من حالات الإخفاء القسري في العالم، بين مليون و250 ألف مفقود منذ بدء الاحتلال الأميركي في عام 2003، وإلى ما بعد تصفية تنظيم «داعش» الإرهابي؛ حيث قامت الميليشيات العراقية الموالية لنظام ملالي إيران باختطاف آلاف الرجال من المحافظات السُّنية: الموصل، وصلاح الدين، وكركوك، والأنبار، وديالى، والقرى المحاذية لبغداد العاصمة، وعدم الإعلان عن أسمائهم ومصائرهم، سوى من تم بالصدفة كشف عملية دفنهم من قبل أحد دفاني الموتى في مقابر جماعية، الذي أشار إلى أنه تم دفن 31 جثة مجهولة الهوية وعليها آثار تعذيب، في المعتقل التابع لميليشيا «حزب الله» العراقي.
بتاريخ 18 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، أعلن «مركز جنيف الدولي للعدالة» أن قضية الإخفاء القسري في العراق لم تعد قضية محلية؛ بل أصبحت على جدول أعمال اللجان الدولية المختصة، ومن أهمها «لجنة الأمم المتحدة للإخفاء القسري» التي أعلنت مؤخراً أنها سجلت حتى 17 ديسمبر الحالي ما يقرب من 500 حالة من حالات الإخفاء القسري المؤكدة، وستواصل التأكد من بقية الحالات؛ مشيرة إلى أن «وراء كل طلب إجراء عاجل مأساة إنسانية؛ حيث تعاني أسرة الضحية بأكملها من غياب المفقود ومن عدم اليقين (وهذا هو الأهم) مما إذا كان الضحية لا يزال على قيد الحياة”.
إلا أن التحريات تصطدم باستمرار بعدم التعاون مع لجنة الأمم المتحدة، والامتناع عن تقديم كل المعلومات الموثقة عن المخفيين قسرياً، وسط تهديدات من الميليشيات الخارجة عن القانون؛ بل إن هذه الميليشيات الإيرانية الولاء ترفض دخول وزراء عراقيين، مثل وزير الداخلية أو وزير الدفاع أو وزير العدل، إلى معسكراتهم التي يزورها بين فترة وأخرى قادة عسكريون من «فيلق القدس» الإيراني الذي يشرف على الميليشيات.
وشهدت مظاهرات واعتصامات النشطاء السياسيين في بغداد منذ أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي حملات عنف شديدة، شنتها الميليشيات الموالية لإيران، لتصفية أبرز النشطاء من الجنسين، ومعظمهم دون العشرين عاماً من العمر الذين كانوا يطالبون بطرد إيران من الساحة العراقية، وإيجاد وظائف لمئات الألوف من الشباب العاطل.
وقدمت الباحثة هانا بلوداو في «مركز جنيف الدولي للعدالة» تقريراً تضمن توثيقاً لمقتل أكثر من 800 متظاهر، وإصابة أكثر من 25 ألف متظاهر، وخطف أكثر من 700 ناشط، في إيغال واسع داخل دائرة القمع الممنهج الذي وصل إلى مستوى الإخفاء القسري للشباب من الجنسين. وقد عجز رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي القائد العام للقوات المسلحة عن إيقاف العنف القاسي باستخدام الرصاص الحي والغازات السامة، ثم تبين أن أوامر الفتك بالمتظاهرين كانت تصدر من مكتبه مباشرة. وتكرر الموقف في عهد رئيس الوزراء الحالي مصطفى الكاظمي الذي كان يحضر مجالس الفاتحة على أرواح ناشطين تم اغتيالهم، على أمل أن يُلقى القبض على القتلة الذين قال إنهم معروفون ومن أعضاء الميليشيات. لقد أثبت الناشطون العراقيون أن القتل مجاني وأرواح الشباب رخيصة في بلد الحضارات.
الأمم المتحدة لا تملك عصاً سحرية لمواجهة الإخفاء القسري؛ خصوصاً أن أمينها العام أنطونيو غوتيريش قال إن جريمة الإخفاء القسري منتشرة في أكثر من 85 دولة، وهي لا تقتصر على السياسيين، وإنما تشمل حتى المدافعين عن البيئة! وترى الأمم المتحدة أن هذه الجريمة السوداء «أكثر من مجرد انتهاك لحقوق الإنسان، فقد تم استخدامها في كثير من الحالات، كاستراتيجية لنشر الرعب في المجتمع بأسره”.
قبل مظاهرات أكتوبر 2019، كانت الميليشيات والبعض في السلطات الأمنية يمارسون هذه الجريمة؛ ليس ضد المتظاهرين فقط كما حدث ويحدث منذ أكثر من عام، ولكن في حصار المدن والقرى الآمنة في المحافظات التي تسكنها أكثرية سنية، إذ يتم جمع كل الرجال والفتيان من عمر 15 عاماً فأكثر، ونقلهم إلى منطقة ريفية في حزام بغداد الجنوبي تدعى «جرف الصخر»، كانت الميليشيات الإيرانية الولاء قد صادرتها من أصحاب البساتين والمزارع وأحواض تربية الأسماك التي تشتهر بها المنطقة، وكلهم من المكون السني، وحولتها إلى معتقل رهيب يشبه ما قرأناه في الأدب الروسي عن معتقلات سيبيريا في زمن الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين.
وفي عملية «تحرير» الموصل من تنظيم «داعش» تم اعتقال آلاف الرجال المدنيين الأبرياء في تلك المحافظة التي نُكبت ثلاث مرات؛ مرة في عهد نوري المالكي رئيس الوزراء الأسبق الذي حاصرها وجَوَّعَ سكانها، ومرة في عهد «داعش»، ومرة بعد «تحريرها» وإخلاء المدينة من السكان؛ حيث تم نقل النساء والأطفال إلى مخيمات نائية غير إنسانية، بينما تم ترحيل الرجال بمختلف الأعمار في قوافل إلى «جرف الصخر» ومعتقلات أخرى اختارها قاسم سليماني قائد «فيلق القدس»، قبل أن يلقى جزاءه على أسوار مطار بغداد الدولي في أوائل العام الحالي، بغارة جوية تحمل توقيع الرئيس الأميركي المنتهية ولايته دونالد ترمب.
ومما يثير القلق بشكل حاد، أن مرتكبي جرائم الإخفاء القسري ثم الاغتيال ينجحون في الإفلات من العقاب على نطاق واسع. وفي الحالة العراقية، فإن إيران، الدولة الجارة، توفر ملاذاً آمناً وسريعاً للقتلة، عبر الحدود المفتوحة التي تسيطر عليها الميليشيات؛ خصوصاً أن الأجهزة الأمنية الإيرانية نفسها تمارس سياسة الإخفاء القسري للمعارضين والمتظاهرين الإيرانيين إلى حد الموت على رافعات المشانق.
عن “الشرق الأوسط”