ما بعد مهسا.. إيران في مرحلة جديدة وخطيرة
لم تمض أيام على مقتل الفتاة الكردية مهسا أميني بعد تعذيبها على يد ما يسمى شرطة الأخلاق في إيران بحجة عدم الالتزام بالحجاب الشرعي، إلا وشهدت المدن والمحافظات ذات الأغلبية الكردية مظاهرات سادت فيها أجواء من العنف بالاعتداء على المتظاهرين بالسلاح من قبل القوات الأمنية وضرب أفراد من هذه القوات من قبل المتظاهرين وإحراق صور وجداريات والهجوم المباشر على رجال الدين، ولم تتوقف المواجهات عند هذا الحد بل تعدت إلى هجمات سيبرانية وصلت إلى مواقع إلكترونية سيادية ليفرض على الواقع السياسي الإيراني فصلا جديدا ومهما من الخلاف الحقيقي والعميق بين الشعب والنظام.
لقد بينت هذه الحادثة مدى الشرخ الموجود بين الشعب ونظامه الذي يعاني من العديد من الأزمات على المستوى الداخلي والدولي بوجود أكثر من حصار مفروض عليه وصراع من أجل تحقيق أي انتصار يذكر فيما يخص الملف النووي، حيث أهملت إيران العديد من مشاكلها الاقتصادية والسياسية الداخلية لتصب تركيزها واهتمامها بهذا الملف وتتعامل على أساسه مع نفوذها الخارجي في العراق وسوريا واليمن ولبنان وعلاقاتها مع الخليج وتحديدا خلافها مع الإمارات العربية المتحدة، حيث أكدت مؤخرا وبالتزامن مع المستجدات الأخيرة على ملكيتها للجزر الثلاث (طنب الصغرى وطنب الكبرى وأبو موسى)، لتضغط من خلاله على المجتمع الدولي.
ومع أن التظاهرات والاحتجاجات ليست جديدة على الشعوب الإيرانية ولا يمكن إنكار صبر الإيرانيين في هذا المجال بدليل الاحتجاجات التي أسقطت نظام الشاه في عام 1979، لكن المرحلتين مختلفتان ومعطياتهما أيضا لا تقبلان المقارنة وحتى الظرف الدولي يختلف، إلا أن سرعة انتشارها والتعاطي مع الحادثة والاستنكارات التي وصلت إلى أكثر المستويات خطورة ناهيكم عن مظاهرات الجاليات الإيرانية في الخارج ووصول رقعة هذه الاحتجاجات للعاصمة طهران، والتهجم المباشر من قبل النخب على قوات الحرس الثوري، يضعنا أمام نتيجة تؤكد أن الظرف الذي تمر به إيران يكاد يكون إحدى أخطر المراحل السياسية التي تواجه المنطقة برمتها.
الاتصال الهاتفي للرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي بعائلة الشهيدة مهسا وتوعده بمحاسبة مرتكبي هذه الجريمة أمر نادر الحصول وهو اعتراف صريح بأن ما حصل لم يكن أمرا صحيحا على عكس التصرفات السابقة لأية جهة تابعة للحرس الثوري والتي كانت تشنق وتعدم وترمي المئات بالرصاص في إطار محاكمات تسميها بالشرعية وتهلل لها مؤسساتهم متباهية بتنفيذ ما يسمونها بقواعد الشريعة، هذا بحد ذاته تطور مهم على الأقل إعلاميا ومعنويا مع أنه لا يتعدى كونه احتواء لغضب الجموع الكردية الهائجة علنا على النظام، لكن هذا الاتصال وإعلان وزارة الداخلية قبله أنها ستفتح تحقيقا حول هذا الموضوع يبين وبكل وضوح أن النظام بدا يخشى فعلا من ردود الفعل التي من الممكن أن تهدد أركانه، أي أن النظام يشعر حقا بالخطر الذي بدأ يحدق به، هذه المسألة لم تحدث حتى أثناء مظاهرات واحتجاجات أنصار مير حسين موسوي المرشح الرئاسي الذي نافس الرئيس الأسبق أحمدي نجاد على كرسي الرئاسة في عام 2009، حيث كان النظام يضرب بيد من حديد ولا يبالي.
ومن جانب آخر، فقد أثبتت التظاهرات التي تُبث صورها علنا على مرأى ومسمع من العالم أن الغضب والهيجان العفوي الذي بدأ بالتوسع، يضرب إجراءات الدولة الصارمة عرض الحائط ولا يبالي بها على الرغم من وجود مواجهات بينهم وبين القوات الأمنية ووجود قتلى لا يتم الإفصاح عن عددهم إن كانوا في صفوف المتظاهرين أو القوات التابعة للأمن الإيراني، إذن هل نستطيع أن نقول إننا في بداية مرحلة اهتزاز النظام الإيراني؟
لا يمكن مقارنة هذا النظام بأنظمة المنطقة لما فيها من أسس قوية عقائدية تعتمد على التقية والطاعة واتباع المذهب، ولا نستطيع أن ننكر أن الشعب هو من أراد هذا النظام وأن سقوطه لا يمكن أن يكون بهذه السهولة، ولكن لم يسبق لهذه الدولة أن شهدت مظاهرات عارمة في المدن الكردية وبهذه الطريقة الصريحة والمباشرة، ولم يسبق أن توحدت سقز وسنندج وطهران في استنكار أفعال خاطئة للحرس الثوري، الاحتجاجات كانت دوما مناطقية ومحدودة في طهران أو الأهواز أو أية مناطق أخرى، لكن توحد الفارسي والعربي في استنكار ما حصل لفتاة كردية من سكنة الداخل والخارج الإيراني يبعث برسالة مفادها أن الخطر موجود وقادم وإن كان بطيئا.
وعلى الرغم من تكتم أجهزة النظام على ملف جواسيس الموساد الذين اكتشفوا من قبل أجهزة الاطلاعات وملابسات اغتيال أكثر من عالم ذرة وضابط وهروب واختفاء شخصيات مهمة، إلا أن حادثة مهسا قد فتحت كل هذه الملفات وجعلت كل من يتابع الوضع الإيراني يتأكد جازما بأن مشكلة المغدورة مهسا نقلت الأزمة من حالة التستر والكتمان إلى حالة الغضب الجماهيري الذي من الممكن أن يهز النظام (على الرغم من عدم وجود قيادة أو تخطيط أو حتى خريطة للمستقبل السياسي)، هذا بالإضافة إلى الاستنكار الدولي من دول ومنظمات وشخصيات من كل العالم باتت مانشيتا رئيسيا لنشرات الأخبار وسلطت الضوء مباشرة على إيران وما يحدث فيها حيث من الممكن أن يكون سببا مشجعا لمزيد من التحشيد الجماهيري باتجاه تغيير سياسي للبلا وهو أمر غير مستبعد.
إن إنهاء النظام الإيراني في ظل أزمات وصراعات يعيشها العالم ابتداء من أوروبا والصراع الروسي الأوكراني والذي أثر على أسواق البترول والوقود وصولا إلى الشرق الأوسط، لا يتعدى كونه مسألة وقت ولن يكون الموضوع أصعب من إسقاط نظام صدام على الأقل أميركيا بدليل أن للولايات المتحدة مشاريع كثيرة لإسقاط أنظمة للعديد من الدول ومن بينها كوبا وفنزويلا وكوريا الشمالية وإيران، إلا أنها لا تريد تدخلا مباشرا كما حصل في العراق ولا تعمل على أن تكون في الصورة بل إنها وفي هذه الفترة تحديدا في منتصف مدة بايدن تنتظر أن تحرك أوراقها على أساس نتائج الغضب الشعبي ومخرجاته لتبدي دعما مباشرا لتغيير سياسي جذري في إيران.
ومع أن كثيرا من التوقعات تشير إلى أن هذه الموجة من الغضب من الممكن أن تهدأ في أية لحظة ولأي سبب كان، وهذا من الممكن أن يكون صحيحا، إلا أنها أفرزت أمرا واقعا بات يشكل قلقا بعد مقتل قاسم سليماني وانتهاء قبضته الحديدية على الحرس الثوري، هذا الأمر الواقع يقول وبكل صراحة إن الوضع الراهن هو بداية قوية ومهمة لتغيير من الممكن ألا يكون سريعا، لكنه رسم حقا أساسا مهما للتغيير انطلاقته كانت من سقز وسنندج من كردستان.
نقلا عن العربية