أبعاد “استنجاد” لبنان بمَن هجاه نصرالله “القوي جدّاً”!
فارس خشان
ما إن وردت الأنباء عن وصول سفينة استخراج الغاز “انرجيان باور” الى حقل “كاريش”، حتى بادرت “الترويكا” الرئاسية اللبنانية إلى إجراء ما يلزم من اتصالات، من أجل يعود الوسيط الأميركي أموس هوكشتاين في أسرع وقت ممكن الى بيروت، بهدف إحياء المفاوضات مع إسرائيل لترسيم الحدود البحرية.
وكان هوكشتاين قد انقطع، منذ شباط (فبراير) الأخير عن زيارة لبنان، بعدما قدّم للمسؤولين اللبنانيين “عرضه الأخير”، طالباً منهم دراسته واتّخاذ الموقف المناسب منه، حتى يرى إن كان ثمّة جدوى من مواصلة المهمة التي أوكلتها إيّاها إدارة الرئيس جو بايدن، أم لا!
ولكنّ المسؤولين اللبنانيين الذين بحثوا في عرض هوكشتاين لم يتوصّلوا الى بلورة موقف رسمي من هذا العرض، فغاب الوسيط الأميركي ذو الباع الطويلة في هذا المجال، إذ إنّه عاد مع الإدارة الجديدة الى لعب أدوار كان قد بدأها، في العام 2013، في عهد إدارة باراك أوباما.
وحلّ التنمّر مكان الجواب، فراح “الممانعون” يركّزون على “إسرائيلية” هذا المسؤول الأميركي، وعلى يهوديته، وتالياً على انحيازه لمصلحة إسرائيل.
ولم يبق هذا التنمّر محصوراً بمقالات نشرتها “وسائل الدعاية” وصفحات مواقع التواصل الاجتماعي الخاصة بـ”محور الممانعة”، بل “توَّجَه” الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله نفسه حين قال، في بداية أيّار الأخير: “إنّ المقاومة هي ضمان ثروة الغاز في البحر، لا هوكشتاين ولا فرنكشتاين ولا أينشتاين”.
ووصف نصرالله الوسيط الأميركي بأنّه “غير نزيه ومتواطئ وداعم لإسرائيل”.
وأضاف: “يأتي الأميركيون للتفاوض حول الحدود لأنّهم يعرفون أنّ في لبنان مقاومة ستدفّع العدو ثمناً إذا منع لبنان من الاستفادة من حقوقه وثرواته”.
ولكن بمجرد أن لامست السفينة “انرجيان باور” حقل “كاريش” الغازي، اختفى “التنمّر”، ولم يعد “الأميركيون هم من يأتون” بل أصبح المسؤولون اللبنانيون يستنجدون بهم حتى… يأتوا!
لماذا؟
في لبنان، لا يجد المسؤولون أنفسهم بحاجة الى تبرير ما يُقدمون عليه أو يُحجمون عنه، مهما تضخّمت الأضرار التي يُلحِقونها بالمصلحة العامة، ولهذا فإنّ اللبنانيين لا يملكون تفسيراً رسمياً لهذا الاستخفاف بهدر الوقت الثمين الذي انقلب الى استعجال بعدما لاحت سفينة “انرجيان باور”.
قد تكون وراء استخفافهم، وهذا مرجّح، ثقة كبيرة بفاعلية التهديدات التي يوجّهها نصرالله، اعتقاداً منهم أنّ إسرائيل لن تقترب من حقل “كاريش” الغازي، وكذلك الشركات التي سوف تتعاقد معها، خوفاً من لجوء “حزب الله” الى استعمال آلته العسكريّة.
ولا غرابة في اعتماد هذا التفسير، إذ إنّ هؤلاء المسؤولين يديرون شؤون لبنان وشجونه، وفق “هوى” نصرالله، فإنّ هدّدهم أحجموا، وإن استاء رجفوا.
وليس أدلّ على ذلك سوى التدقيق في الأدبيات التي استعملها هؤلاء المسؤولون في بياناتهم الأخيرة ذات الصلة، فرئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، على سبيل المثال لا الحصر، قال إنّ اتفاقه ورئيس الجمهورية ميشال عون على دعوة هوكشتاين للعودة الى لبنان واستكمال الوساطة هدفه “منع أيّ تصعيد لن يخدم حالة الاستقرار التي تعيشها المنطقة”.
ولكنّ وصول “انرجيان باور” الى “كاريش” هزّ هذه الثقة، فوعيد “حزب الله” انقلب حلماً، بحيث أعلن أنّه ينتظر أن تُحدّد الدولة اللبنانية ما إذا كان الخط 29 يدخل ضمن المنطقة الاقتصادية الخالصة الخاصة بلبنان أو لا، حتى يبنى على الشيء مقتضاه!
وكان بديهياً أن يُثير موقف “حزب الله” هذا سخرية شرائح واسعة في الرأي العام اللبناني الذي أوصلته منهجية حكّامه والمتحكّمين به إلى الجحيم، إذ ذكّرهم بهذا “القبضاي” الذي طالما توعّد “قبضاياً” آخر بالضرب إذا ما شاهده، ولكن حين حضر “القبضاي” المهدَّد إلى الميدان، راح القبضاي المهدِّد، يطلب من رفاقه أن يُحكِموا الإمساك به، حتى لا يضطّر الى تنفيذ وعيده.
على أيّ حال، ما الذي تغيّر حتى يطلب المسؤولون اللبنانيون عودة هوكشتاين “غير النزيه والمتواطئ والداعم لإسرائيل” الى بيروت “للبحث في مسألة استكمال المفاوضات لترسيم الحدود البحرية الجنوبية والعمل على إنهائها في أسرع وقت ممكن”؟
إذا كان لبنان قد توصّل الى بلورة موقف إيجابي من “العرض الأخير” الذي سبق أن قدّمه هوكشتاين، فهذا يعني أنّ لبنان قد انتظر أن تضع إسرائيل خططها قيد التنفيذ، حتى يقبل بما كان يمتنع عن القبول به سابقاً، أي أنّ لبنان الذي يُعاني من واحدة من أسوأ الكوارث المالية والاقتصادية والاجتماعية، يكون قد أهدر الوقت الثمين قبل أن يُعيد إحياء، ومن موقع الضعف، مفاوضات من شأنها أن تسمح بتحرير ثروة ثمينة جداً من قبضة أعماق البحر، يحتاجها كما يحتاج التائه في الصحراء إلى نقطة ماء!
وفي هذه الحالة، يكون الخط 29 الذي يضعه كثيرون في خانة “المطلب الذي لا يمكن التنازل عنه”، قد انتهى الى غير رجعة، لأنّ العرض الأخير الذي قدّمه هوكشتاين لا يتضمّن حصول لبنان على هذا الخط، لا من قريب ولا من بعيد، بل هو يتمحور حول منح لبنان الخط 23 الذي كان “حجر الزاوية” في مطالبه التأسيسية، بعد إدخال تعديلات عليه من شأنها تحرير الحقول التي تطالب بها إسرائيل وتلك التي يتمسّك بها لبنان من أيّ تداخل بين البلدين، وتالياً من الحاجة الى تقاسم الثروات المتوافرة في هذه الحقول.
وكان التوصّل الى مثل هذا الحل، عندما انطلقت مفاوضات ترسيم الحدود لبنان البحرية الجنوبية، يُعتبر إنجازاً، لكنّه اليوم، بعدما وسّعت فئات لبنانية، من دون توافق رسمي، المساحة المطلوبة أصبح الحصول عليه “نكسة” والقبول به “خيانة”.
في واقع الحال، لقد أهدر لبنان على “هدير التهديدات”، سنتين، بعد انطلاق المفاوضات، بعدما كان قد أهدر عشر سنوات للموافقة على مبدأ المفاوضات.
في هذا الوقت، كانت إسرائيل قد أنجزت الكثير على مستوى استخراج النفط وجهّزت نفسها لتستخرجه من حقول تلامس الحدود اللبنانية.
حالياً، لم يبق أمام لبنان، بعدما وضع نفسه أمام الأمر الواقع، إلّا اعتماد حلّ من إثنين: الدخول في مفاوضات بموجب “العرض الأخير” الذي سبق أن قدّمه هوكشتاين في شباط الأخير، أو الذهاب الى الحرب لأنّ إسرائيل قبل أن تصل السفينة “انرجيان باور” الى حقل “كاريش” كانت قد افترضت هذا الاحتمال وجهّزت نفسها له، على كلّ الصعد، بما فيها الاستعداد لتكبّد ما يلزم من خسائر!
نقلا عن النهار