لبنان وإمكانيات تجاوز الأوهام
رضوان السيد
اعتبر أنصار ما يسمى بالمجتمع المدني في لبنان أنهم حققوا في الانتخابات النيابية انتصاراً، إذ نجح منهم حوالى الخمسة عشر نائباً من مختلف المناطق والطوائف من أصل 128 عضواً في المجلس النيابي. بيد أنّ تلك القوى فشلت في الاختبار الأول لانتخاب رئيس مجلس النواب الجديد ونائبه وأمين السر. ترشح لرئاسة المجلس للمرة السابعة نبيه بري عن الثنائي الشيعي. وقد علت أصواتٌ من التغييريين وحزبي «القوات اللبنانية» و«الكتائب» ضد إعادة انتخابه.
والأمر بالطبع رمزي، إذ لم يترشح لرئاسة المجلس شيعيٌّ غيرَه، وبذلك فإن لم يفز بالدورة الأولى بالأكثرية (64 صوتاً +1) فسيفوز بالدورة الثانية بأي عدد. إنما البارز أنه فاز في النهاية بـ65 صوتاً بالفعل، والـ63 الذين لم يصوّتوا له توزع اعتراضهم في الاقتراع السري بين الأوراق البيضاء، والعبارات المهينة المكتوبة على الأوراق للتشنيع على رئيس المجلس شخصياً أو للتذكير بتفويتات النظام السياسي اللبناني: عدم التحقيق باغتيال لقمان سليم قبل عامين، وتعرقل التحقيق بجريمة تفجير المرفأ والتي تسببت في مقتل 220 شخصاً ودمار ثلث مدينة بيروت!
من أين جمع بري أصوات الحد الأدنى لإعادة انتخابه؟ في انتخابات عام 2018 اجتمع لـ«حزب الله» والعونيين 74 مقعداً بالمجلس، وجرت إعادة انتخاب بري بأكثر من 90 صوتاً. فبالإضافة إلى التحالف العوني مع الثنائي الشيعي، صوَّت لبري نوابُ «تيار المستقبل» (19) ونواب وليد جنبلاط (8). أما هذه المرة فقد صوت لبري من خارج التحالف الباقي نواب جنبلاط التسعة، ولا نواب لتيار المستقبل بسبب اعتزال الرئيس سعد الحريري للانتخابات.
ولأنّ التقديرات أنّ العونيين والثنائي الشيعي لا يزيد عددهم على اثنين أو ثلاثة وخمسين، ولأنّ التغييريين الخمسة عشر لم يصوتوا لبري، فلا بد أن الأصوات أتت من «المستقلين»، وهم قرابة عشرة أفراد من سائر الطوائف (باستثناء الشيعة)، وقد نجحوا بأموالهم، إذ هم جميعاً من كبار الأغنياء! وبعض هؤلاء من أنصار الحريري السابقين، أو من الإسلامويين الذين فازوا في الدوائر السنية دافعين ومدفوعين، أو من المسيحيين الذين تجاوزوا بأموالهم سطوةَ الأحزاب المسيحية والتغييريين. الانتخابات ذات الدلالة على المتغيرات كانت انتخابات نائب رئيس المجلس إلياس بوصعب، وهو من الطائفة الأرثوذكسية بحسب تقسيمات المناصب والمواقع بين الطوائف، ومن ضمن التحالف العوني- الثنائي الشيعي. لذا ما كان من المتوقع أن يحصل على أكثرية الحد الأدنى، إذ لم يصوّت له الجنبلاطيون، ولا الأحزاب المسيحية.
المرشح ضدّه غسان السكاف محسوب على التغييريين وقد كان المتوقع أن تصوّت له الأحزاب المسيحية المعارضة وكل التغييريين فيفوز حتى ولو لم يصوّت له «المستقلون». والمفاجئ أنه في حين صوّت له الجنبلاطيون، ما صوتت له الأحزاب المسيحية ولا «المستقلون» ولا كل التغييريين(!). ولذلك دلالاتٌ لا تخطئها العين المتفحصة: أولاً: أن أكثر من مائة نائب (من 128) ما يزالون من نواب الدورة السابقة، سواء من الثنائي الشيعي- العوني أو من معارضيه. ويدل ذلك على صلابة القوى الطائفية المكوِّنة للقوى السياسية التقليدية رغم ارتفاع أصوات التغييريين بعد تظاهرات عام 2019. ويدل على جمود الأحزاب المسيحية المعارضة كونُها لم تصوّت للسكاف التغييري الذي يتفق معهم في معظم التوجهات، كما لم يصوت نواب «الكتائب» لأمين السر «القواتي». فالمصلحة الحزبية مقدمة على المطالب الوطنية الكبرى! وثانياً وأخيراً: مجلس النواب والانتخابات، كل ذلك مهم في لبنان باعتباره من آثار وبقايا الديمقراطية والحرية. لكنها آثار وبقايا بالفعل، لأنه في الأمور الكبرى يقوم الثنائي الشيعي وحلفائه بإقفال المجلس أو تعطيله أو تعطيل الحكومة. وحتى إذا اشترع المجلس فإنّ جبران باسيل كان يقول إنه لن ينفذ القوانين التي اشترعها المجلس!
إنّ كل هذه التفاصيل المقصود بها الدعوة للانتصار على الأوهام بشأن إمكانيات التغيير البنّاء في النظام اللبناني سلمياً. فالانهيار على شتى المستويات مستمر. وهناك تحديان كبيران قادمان؛ تشكيل حكومة لإدارة البلاد، وانتخاب رئيس للجمهورية. وكلا الأمرين شديد الصعوبة وسط الانقسام والتشرذم وسيطرة السلاح!
نقلا عن الإتحاد