العراق وثمن التوقيع الإيراني على الاتفاق النووي
فاروق يوسف
كان من المفترض أن لا يكون العراق ثمناً لتوقيع إيران على الاتفاق النووي الجديد. ما شهده العراق في العام 2019 من احتجاجات شعبية مليونية قدم صورة عن عراق مختلف عن ذلك العراق الجديد الذي اخترعه الأميركيون بعد احتلالهم باعتباره بديلاً من العراق التاريخي.
غير أن تلك الصورة لم تكن حاضرة في مفاوضات فيينا من جهة ما تشير إليه على مستوى مصير المنطقة والصراع المحتمل إذا ما استمر الإيرانيون في سياساتهم في تبني الميليشيات المسلحة ودعمها. فالأميركيون الذين يحثون النظام الإيراني على التوقيع على الاتفاق الجديد الذي سيكون كما تقول التسريبات نسخة معدلة من الاتفاق القديم، لم يقدموا لدول المنطقة الخائفة، التي ليس من ضمنها العراق، أي ضمانات تتعلق بإمكان أن تقوم معادلة سياسية في المنطقة يتخلى النظام الإيراني بموجبها عن سياساته العدوانية القائمة على التوسع من خلال أتباعه الذين يحاربون بالوكالة عنه.
في ظل ذلك الوضع الغامض الذي توحي إيران بأنها ستخرج منه منتصرة، سعى العراقيون بما يمكن أن أسميه “أضعف الإيمان” لكي يدخلوا جزءاً من النظام السياسي القائم في امتحان أخير، حدوده القصوى تقع في الإصلاح ومحاربة الفساد. ومن أجل ذلك الهدف لم يقاطع الجميع انتخابات عام 2021. ذهب إليها المستفيدون من نظام المحاصصة إضافة إلى فئة قليلة من الشعب المحتج تدفعهم الرغبة في الوصول إلى اللحظة الأخيرة في النزاع. فإما يقرر النظام بكل تركيبته غير المنسجمة الانتحار وإما يطفو على السطح جزء منه وتغرق الأجزاء الأخرى.
ما حدث أن التيار الذي يقوده مقتدى الصدر أنقذ النظام من السقوط مرة أخرى، لكنه هذه المرة فرض شروطاً عسيرة على منافسيه الشيعة الذين هم في الوقت نفسه خصومه. كان انتصاره كما اتضح في ما بعد بثمن. ذلك الثمن ينبغي على إيران أن تتحمل جزءاً من تكلفته، بالرغم من أنها لو خرجت من الاتفاق بحزمة تعويضات فإنها لن تكون في حاجة إلى الأموال التي يتم تهريبها يومياً من العراق إليها.
قبل أن يُعلن عن تشكيل الحكومة الجديدة، كان جزء مهم من مفاوضات المنتصرين والمهزومين داخل الشيعية السياسية قد تركز على مستقبل المصارف الوهمية التي تدير عمليات شراء العملة وغسيل الأموال وتهريبها إلى إيران. حتى حكومة مصطفى الكاظمي المستقلة لم تتجرأ على الاقتراب من ذلك الخط الأحمر الذي يمكن أن يؤدي تجاوزه إلى تداعيات خطيرة في ظل انتشار السلاح الذي لا يقع تحت سيطرة الحكومة أو “الحشد الشعبي”.
وإذا كان الصدر قد جر خصومه إلى المنطقة الحرجة فلأنه يسعى إلى تسجيل نقاط مضافة عليهم، رغبة منه في إظهار ضعفهم، ليس أمام الشعب العراقي فحسب، بل وأيضاً أمام إيران. علينا أن لا ننسى أن قوة الصدر المستلهمة من نفوذه في المناطق المحرومة كانت في جزء عظيم منها تتوزع بين محاباة إيران والغضب على سياستها المنحازة في العراق.
لقد بدا واضحاً أن المهزومين هم أحباب إيران. وبالرغم من أن أولئك الأحباب سعوا قدر ما يملكون إلى إخفاء نقاط الخلاف الحقيقية، فإن الصدر كان ذكياً حين سرب الجزء المتعلق بتهريب الأموال الصعبة إلى إيران وإمكان أن تكون مساءلة المصارف التي تولت القيام بذلك أولى خطوات الإصلاح.
ولكن إيران مقيمة في العراق، ليس لأنه موّلها بالعملة الصعبة بطرق شرعية وغير شرعية عبر سنوات الحصار الأميركي الذي فُرض عليها فحسب، بل وأيضاً لأنه يشكل أهم جبهة من بين جبهات حربها العقائدية المفتوحة ضد العالم العربي. ولأن العراق لا يمكن أن يستعيد ثقله في إطار محيطه العربي إلا إذا محا شبهات ارتباطه بالمشروع الإيراني فقد انصب اهتمام المحتجين الشباب عام 2019 على رفض أي شكل من أشكال الهيمنة الإيرانية ومن ضمنها الميليشيات التي قد تتخلى إيران عن الهبات المالية مقابل الإبقاء عليها.
لقد أزعجت تلك الميليشيات الولايات المتحدة حين قصفت قواتها التي كانت موجودة على الأراضي العراقية وقصفت محيط السفارة الأميركية في بغداد ولكنها حين أحالت بعضها إلى ملف الإرهاب فإنها قامت بذلك بحياء. لا أحد في الولايات المتحدة بعد غياب ترامب يريد أن يزعج إيران.
كان الصدر يومها قد ركب موجة الاحتجاج وصار أتباعه يصرخون في الشوارع “إيران بره بره” بمعنى المطالبة بإنهاء الوجود الإيراني، ولكن ذلك قد لا يكون سوى مناورة من أجل جذب انتباه إيران التي أولت المهزومين كل رعايتها. وبغض النظر عما يقوله الصدر عن عروبته فإن غيرته على المذهب تدفعه إلى عدم التفريط بالعلاقة بالنظام الإيراني. ولكن الرؤية الأميركية تظل دائماً هي الأساس في حالة بلد كالعراق. إن كانت الولايات المتحدة قد تخلت نهائياً عن العراق في مفاوضات فيينا فإن ذلك يعني نهاية الحلم العراقي باستعادة السيادة. ذلك ما يعني أن أي حديث عن الإصلاح ومحاربة الفساد سيدخل في إطار سرقة الوقت والتسلية المؤلمة وأن أفق التغيير بالطرق السلمية سيكون مسدوداً إلى أجل غير معلوم.
يتمنى المرء لو أن كل ما قيل عن الاتفاق النووي الجديد مجرد تكهنات. أمّا لو صحّت فإن العراق سيكون في مواجهة دورة عنف هي الأشد في تاريخه المعاصر.
نقلا عن “النهار”