مقالات

الحليف الأكبر للتحالف العربي

وليد فارس
 
في نقاشاتنا في واشنطن وفي عواصم أخرى، يطرح علينا أصدقاؤنا العرب والشرق أوسطيون، والأميركيون، “من هم حلفاء التحالف العربي الأهم” في دعمه لدى الرأي العام الأميركي والغربي في مواجهة التهديد الإيراني؟ ويتم تقييم الجهات التي تعادي التحالف أو تدعمه معنوياً، لمعرفة وتحديد الجهات والقوى التي تنجح في استمالة أميركا والغرب لدعم التحرك قوى الاعتدال العربي في مواجهة التطرف في المنطقة. وقد تعجب أصدقاؤنا والمحللون عندما أجبت أن أفضل حليف للتحالف العربي، هو مواقف وأعمال التحالف العربي، قبل أي جهة أخرى، أكانت لوبيات أو شركاء، أم أصدقاء. فالغرب عامة، والولايات المتحدة بخاصة، وإن تأثروا بالترويج الإعلامي، أم الضغوطات، هم في نهاية المطاف، يتأثرون بالرأي العام، وهذا الأخير يتأثر بما يعجبه ولا يعجبه، لما يسمعه أو لا يسمعه، بما يراه أو لا يراه، ولكن دائماً بما يتناسب مع قيمه، وقراءته للتاريخ، وتصوراته للمستقبل، ويؤيد الدول والأطراف التي تجسد هذه الاتجاهات، حتى ولو لم تتناسب أو تتقاطع كلياً في بعض الأوقات، كما يحدث مع إسرائيل أو بريطانيا، أو فرنسا.
 
هذا ينطبق على التحالف العربي أيضاً، فالمصالح المالية والاقتصادية التي ينظر الغرب إلى التحالف عبرها هي مهمة ولكنها غير كافية لإسدال مظلة ثقيلة عليه لحمايته كما يفعل مع دوله، لا سيما في أوروبا الشرقية أو دول شرق آسيا. فإذا لم تكن هناك قناعات عميقة وراسخة لدى الشعب الأميركي أن الشريك الخارجي هو حليف استراتيجي وتاريخي، تبقى العلاقة هدفاً للوبيات التي تستشرس ضد صورة هذا الشريك، كما فعلت كتلتا التأثير الإيراني و”الإخواني” بحق التحالف ودوله، بخاصة السعودية والإمارات ومصر والبحرين وغيرها لسنوات.
 
وخاض التحالف العربي معارك إعلامية حامية مع “البروباغندا” الإيرانية و “الإسلاموية” في العقد المنصرم، مع نجاح أحياناً، وانتكاسات أحياناً أخرى، إلا أن ما نراه منذ حوالى عام 2017 هو أن دول التحالف العربي بات لديها حليف قوي يدعمها في ساحة الرأي العام الأميركي، ويمكّنها من التقدم على هذه الجبهة، على الرغم من قوة اللوبيات المعادية وقصفها الدائم لصورة التحالف، وهذا الحليف الجديد والناجح هو مواقف التحالف وقياداته، وأفعاله على الأرض.
 
النجاح الذاتي للتحالف
 
في فبراير (شباط) 2010 نشرت مقالاً عنونته وقتها “ضرورة إقامة قوة عربية مشتركة ضد الإرهاب”، ودعوت لإقامة تحالف عربي لمواجهة الأخطار الإيرانية والتكفيرية، وتابعت الملف لأكثر من عقد من الزمن، وخلصت بعد نقاشات مع خبراء، ومسؤولين، ومشرعين، ووزراء وقيادات عسكرية وأمنية، في الولايات المتحدة والمنطقة، أن قيام التحالف بحد ذاته كان تحدياً صارخاً للمحاور الراديكالية في المنطقة، إلا أن بزوغ التحالف وتطوره تماشى مع تطور شعوب العالم العربي التواقة إلى الأمن والسلام والاستقرار والازدهار. وما قامت به قيادات التحالف كان متماشياً مع مشاعر وتطلعات الشعوب، ولا سيما شبابها، ما أدى إلى نجاحها التاريخي. فأهم ما ساعد هذا التحالف على النهوض هو مضيه باتجاه ما تريده الشعوب، وليس العكس كما هو الوضع مع المحاور الأخرى المتطرفة، التي تواجه شعوبها من بيروت إلى دمشق وبغداد، فطهران وكابول. كيف يمكن قراءة الإنجازات العميقة للتحالف وتأثيرها على رصيده السياسي والإعلامي دولياً وأميركياً؟
 
مواجهة الإرهاب التكفيري
 
أهم موقف اتخذه التحالف منذ أكثر من نصف عقد، كان له تأثير عميق على جزء مهم من الرأي العام الأميركي والدولي، كان من دون شك الالتزام بمواجهة المنظمات الإرهابية التكفيرية من دون هوادة في طول وعرض المنطقة. فمنذ ضربات سبتمبر (أيلول) 2001، والعمليات الإرهابية التي تلتها لـ 20 سنة، تحرك المجتمع الدولي بكل أطرافه ليواجه وينهي هذه الشبكات (المعروفة بالجهادية المقاتلة) في مختلف أنحاء العالم. والجدير بالذكر أن كل الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، وعشرات الدول تعرضوا لهجمات تنظيم “القاعدة”، والجماعات التكفيرية المقاتلة على مدى السنين، وركزت الحكومات والمجتمعات المدنية في العالم على دور الدول العربية والإسلامية في تحركاتها ضد هذا الخطر الدولي، لأنها الأكثر خبرة في الموضوع من الأردن والمغرب والجزائر وتونس منذ التسعينات، إضافة إلى البحرين والجيش الوطني الليبي وغيرهم منذ “الربيع العربي”، إلا أن الدول الثلاث الأكثر مواجهة للمجموعات التكفيرية القتالية حجماً هي السعودية ومصر والإمارات، المثلث الحربي العربي، الذي تحول إلى قلب للتحالف منذ 2013 تقريباً.
 
مصر كانت الأقدم في صراعها مع التكفيريين منذ ما قبل اغتيال أنور السادات في عام 1981 واستمرت من دون هوادة، ولا سيما في سيناء، حتى الآن. الإمارات شاركت في الحرب على الإرهاب على مختلف الجبهات ضد التكفيريين من سوريا إلى اليمن. أما المملكة العربية السعودية فقد تحولت إلى القوة المركزية في الصراع العربي والإسلامي ضد الإرهابيين “الإسلامويين”، والقيادة الدبلوماسية في مواجهتهم. وعلى الرغم من أن التحالف لم يكن موجوداً في المرحلة التي تلت 11 سبتمبر مباشرة، فإن تكوكب أطرافه حول القيادة السعودية تدريجاً لما لها من مشروعية في هكذا مواجهة، جعل من فكرة التحالف حتمية، وجعلها حقيقة ميدانية في المنطقة، إلا أن ظهور التحالف وترسيخ صورته لدى الشعب الأميركي كان عبر قمة الرياض التاريخية في مايو (أيار) 2017، حيث ألقى الرئيس الأميركي دونالد ترمب خطاباً تشجيعياً للتحالف مطالباً قياداته “بإخراج الإرهابيين من تلك الدول”، فدخل التحالف صلب الاستراتيجية الأميركية ضد الإرهاب، وبات يشكل في المنطقة حليفاً شبيهاً بـ “الناتو” في الشرق الأوسط، ودخلت صور وخطابات قمة الرياض إلى بيوت الأميركيين عبر تغطية مكثفة شكلت صورة إيجابية عن الحلف الأميركي العربي الجديد، هذا كان العامل الأول في تعزيز صورة التحالف.
 
مواجهة الفكر الإرهابي
 
الإنجاز الثاني للتحالف العربي كان ضد الفكر الإرهابي وجذوره التكفيرية المنتشرة في المنطقة وعبر العالم، بواسطة الشبكات “الإسلاموية” و”الإخوانية”. الثورة المصرية في عام 2013 انفجرت ضد هذه الأيديولوجيا الراديكالية، بدعم فكري من الأزهر، والمثقفين المصريين، ووقفت المملكة العربية السعودية والإمارات إلى جانب مصر في إصلاحاتها العميقة في التربية والإعلام ضد التطرف، وفي عام 2014 نشرت أبو ظبي أطول لائحة إرهابية تضم مروجي الفكر الإرهابي في العالم العربي والإسلامي، ذهبت إلى أبعد من كل اللوائح الأميركية والغربية، أما المملكة قد فاقت إصلاحاتها كل التوقعات الدولية، محدثة صدمة إيجابية في أوساط مكافحة التطرف في واشنطن، وذهبت القيادة السعودية إلى إجراء تعديلات تنظيمية داخلية، أبعدت من خلالها أي محرك أو ناشر للفكر المتطرف من مراكز مؤثرة أكانت تربوية، أو سياسية، أو إعلامية، وبعدها أقدمت الرياض على إجراء أكبر عدد من الإصلاحات الداخلية بنصف قرن على الأقل. وانتقلت المملكة إلى تنسيق حملات مع شركائها في التحالف لتوعية الرأي العربي والإسلامي على مخاطر التطرف، فتحول التحالف إلى المركز العالمي لهذه الجهود، سابقاً كل الجهود الغربية لمواجهة الإرهاب الفكري منذ 11 سبتمبر. وبالطبع، أثبتت الحرب الفكرية العربية على أيديولوجيا التكفير أن أفضل جهة قادرة على دحر التطرف هي قوى المنطقة المستنيرة، وشكل ذلك نقاطاً إضافية لمصلحة التحالف عالمياً، لأنه يقوم بمهمة يستحيل تنفيذها بجهود غربية بحتة.
 
مواجهة الانفلاش الإيراني
 
الإنجاز الثالث للتحالف، وهو الأكثر تأثيراً في التوازنات الجيوسياسية في المنطقة، هو التصدي للمشروع الإيراني على مختلف الجبهات، من اليمن، إلى العراق، فسوريا، وصولاً طبعاً إلى الخليج، بينما تراجع الغرب عامة عن مواجهة المشروع الإيراني في الشرق الأوسط، واستمر التحالف في التصدي وصعّد ضد الميليشيات، ويرى الرأي العام الأميركي والأوروبي أن للتحالف مشروعية في المقاومة ضد الخمينيين، أكبر من مشروعية الغرب، لأن إيران تحتل أربع دول عربية، ولأن شعوب هذه “المستعمرات” تناضل ضد هذه السيطرة، بالتالي، دول المنطقة معنية في دعم تلك الشعوب. وقد تحرك التحالف بموازاة المجتمعات المدنية التي تعاني من السيطرة الإيرانية بدءاً باليمن، حيث وقفت الرياض وأبو ظبي إلى جانب الشرعية والجنوبيين، بوجه الحوثيين، كما وقف التحالف مع المجتمع العراقي بوجه “الميليشيات الإيرانية”، وساند الثورة السورية بوجه بشار الأسد، ودعم “ثورة الأرز” ضد “حزب الله” في لبنان، وحيّا المعارضة الإيرانية ضد النظام.
 
إن تموقع التحالف حيال إيران يبدو أكثر مشروعية من قمع النظام الإيراني لهذه الشعوب، لذا فسجل التحالف، على الرغم من قوة اللوبي الإيراني، نقاطاً لدى الرأي العام الغربي، لم تكن موجودة غداة 11 سبتمبر.
 
السلام الإبراهيمي
 
الإنجاز الرابع للتحالف هو إنجاز وإطلاق معاهدة “إبراهيم” من قبل بعض أعضائه، بمبادرة من الإمارات والبحرين، وعدم معارضة السعودية، إن تحريك عملية السلام، كما كتبنا سابقاً، لم يقتصر على التقدم على محور “كامب ديفيد” فقط، على خطى مصر والأردن، بل تخطي السلام البارد، إلى السلام الدافئ، إلى التعاون التجاري، فالتكنولوجي وصولاً إلى إنتاج مشترك لصناعات إلكترونية وعسكرية. السلام الإبراهيمي أذهل العالم، وهو لم يكن ممكناً لولا وحدة التحالف وبعد نظر قياداته، وساهم التفاهم الإبراهيمي بتفجير مشاريع اجتماعية ومبادرات متعددة ولا يزال، وبسبب المعاهدة، انجرف جزء من الرأي العام كان بعيداً من تأييد العرب في العقود الماضية، إلى دعم التحالف العربي، والوقوف إلى جانبه.
 
الإنماء الاستراتيجي
 
الإنجاز الخامس لأعضاء التحالف العربي هو الوثبة الانمائية الاستراتيجية التي تتحقق في مختلف الدول الأعضاء ولا سيما في السعودية، ومصر، والإمارات، والبحرين. إن المشاريع الانمائية، لا سيما في مناطق نائية في المملكة، باتت تفاجئ العالم، الذي بدأ يتساءل حول انتشار المواقع الأثرية والسياحية، والترفيهية، العالية الجودة في قلب الصحاري والجبال الصخرية، من المكلا، إلى “نيوم”، إلى الرياض. الناس العاديون لم ينظروا إلى السعودية بهذا الشكل في الماضي. الإمارات نظر إليها أنها مشايخ شيّدوا ناطحات سحاب في الصحراء، أما الآن، وإذ باتت مشاريعها الدولية تضاهي الغرب، بات هذا الأخير ينظر إليها أنها اليابان الجديدة. البحرين أصبحت مركزاً عالمياً للحوار والثقافة، وبات ينظر إليها أنها دافوس الجديدة، وأخيراً وليس آخر، مصر التي عرفها الغربيون لأكثر من قرن كبلد الأهرام وأبو سمبل، ورحلات النيل، تتطور تدريجاً إلى برازيل جديدة، أو حتى ربما إيطاليا مستقبلية بسبب تركيزها على الصناعات والمشاريع الاستراتيجية. دول التحالف العربي تتغير، والنظرة الدولية تتغير تجاهها.
 
في الخلاصة، التحالف لم يأت بحليف خارجي له، ينشله من الفجوة إلى العلى، لقد بنى بنفسه رصيده الاستراتيجي ويعلو بناؤه مع الوقت، والمفارقة أن التحالف يتقدم وهو تحت نار المحاور المعادية في المنطقة، طبعاً العلل كثيرة، والمشكلات متعددة، والنكسات تتالت، ولكن الاتجاه العام يؤكد أن الشعوب المنضوية تحت هذا التحالف، كما كانت شعوب أوروبا بعد الحرب، مصممة على النهوض، على الدفاع عن نفسها بوجه الإرهاب، لتمتين الاستقرار، ونشر الازدهار، والأهم أن أبوابها مفتوحة للشعوب الأخرى التي تسعى إلى التطلعات نفسها. فأفضل حليف للتحالف العربي هو إنجازاته الذاتية.
 
نقلا عن “إندبندنت عربية”

موضوعات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى