مقالات
لماذا يوتّر “حزب الله” خطابه في زمن “التسليم” بهيمنته؟
فارس خشّان
تسلّم غالبية اللبنانيين لـ “حزب الله” بأنّه حقق تفوّقاً كاسحاً على جميع القوى السياسية في لبنان، وبات يسيطر فعلياً على القرار الوطني.
وامتاز هذا الحزب، في الفترات السابقة، بأنّه عندما “يرفق في الميدان” يسعى الى تهدئة الخواطر، من خلال اعتماد أدبيات سياسية سلسلة، خلافاً لما تكون عليه وضعيته، عندما يكون مأزوماً.
وهذا يعني أنّ “حزب الله”، في حال صحّ التسليم بمقولة “التفوّق الكاسح”، يجب أن يعتمد أدبيات “تسامحية” و”انفتاحية” و”تواصلية”.
لكن من يراقب أداء “حزب الله” السياسي والإعلامي، منذ مدة، يلاحظ أنّ الناطقين باسمه، إنّما يُكثرون من التسويق لـ “نظريات المؤامرة” ناسبين إيّاها الى “تحالف” الولايات المتحدة الأميركية مع المجتمع المدني اللبناني، ولا يتردّدون في التهويل والتهديد ورفع رايات التحدّي.
هل يعود سلوك “حزب الله” هذا الى إدراك لديه بأنّ مكتسباته مؤقتة، وبأنّ ما يحسبه البعض “إنتصارات” ليس في حقيقته إلّا تحديات جديدة؟
إنّ التدقيق في المعطيات اللبنانية يمكنه أن يعين على فهم استنفار “حزب الله”، ذلك أنّه، وإن كان صحيحاً أنّ غالبية اللبنانيين يسلّمون له بتفوّقه على سائر القوى السياسية، إلّا أنّ هذه الغالبية لا تستسلم له، فهو، منذ سنتين تقريباً، يواجه، مقابل “التراخي” السياسي، موجات مرتفعة من المعارضة الشعبية، حتى بات جميع من يرغبون باقتحام النادي السياسي في لبنان، بمن فيهم هؤلاء المنضوون تحت راية المجتمع المدني، مضطرين الى رفع خطاب معاد للحزب، ليحصلوا على بطاقات التأهيل الشعبية.
المازوت الإيراني ومعابر التهريب
ويمكن للمراقبين أن يلاحظوا، من دون كبير عناء، أنّ “حزب الله” لا يخطو خطوة يعتبرها “ضربة قاضية”، إلّا ويتصدّى لها اللبنانيون، مظهرين أنّها تعدّ عليهم وعلى مصالحهم وعلى دولتهم وعلى مستقبلهم، الأمر الذي يضطر هؤلاء الذين جاء بهم الى مواقع السلطة إمّا الى التنصل، كما هي عليه حال رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، وإمّا الى الصمت، كما هي عليه حال رئيس الجمهورية ميشال عون.
ولقد تحوّل إدخال “حزب الله” المازوت الإيراني الى لبنان، بطريقة “غير نظامية”، إلى وبال على صورته، بعدما روّج له على أساس أنّه فعل قوة إستثنائي.
بمناسبة إدخال هذا المازوت الإيراني الى لبنان، إكتشف الجميع المعابر التي يعتمدها “حزب الله” في تواصله مع سوريا. هذه المعابر التي أدخلت المازوت الإيراني، هي نفسها التي كانت تخرج كل المواد المدعومة من لبنان الى سوريا، مستنزفة ما تبقى من احتياطات مصرف لبنان، وتالياً النذر المتبقي من أموال المودعين في المصارف اللبنانية.
لقد سمحت “معابر البطولة” للبنانيين أن يشاهدوا بأم العين الطريقة التي كانت بها تُسرق أموالهم العامة. هم كانوا يعرفون بأمر التهريب، ولكنّهم لم يكونوا يعرفون سبله.
أكثر من ذلك، لقد كشفت طريقة توزيع المازوت الإيراني الشخصيات والمرجعيات الفعلية التي يعتمدها “حزب الله” في سعيه الى وضع يده على لبنان. وهذا الإنكشاف الناتج عن محاولة “حزب الله” رشوة الهيئات الشعبية الناخبة علّها تنتقل الى ضفة داعميه، إنقلب وبالاً عليه. وقد أشارت تقارير لم يتم التعامل معها بما تفترضه من أهمية، بسبب “الحذر السياسي”، الى أنّ أكثر من جهة أهلية وحزبية إرتدت ضد المازوت الإيراني، وعمد البعض، كما في بلدة غريفة في قضاء الشوف، إلى حرقه، رفضاً لدلالاته السيئة.
وما يصح على وصف تداعيات إدخال المازوت الإيراني الى لبنان، يصح أيضاً على تداعيات الوقوف في وجه المحقق العدلي في ملف انفجار مرفأ بيروت طارق البيطار.
ومنذ اليوم الأوّل لهذا الإنفجار اتّخذ “حزب الله” موقفاً معادياً لمطلب إحالة ملفه على تحقيق دولي، وكان له ما أراد، برعاية الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، في اجتماع قصر الصنوبر الذي حضره الى جانب ممثلي القوى السياسية اللبنانية، رئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد.
يومها، استعان “حزب الله” بالإنطباع السلبي لدى مجموعة واسعة من اللبنانيين ضد نتائج إحالة ملف اغتيال الرئيس رفيق الحريري على المحكمة الخاصة بلبنان، لتبرير وجهة نظره، لكن مع القرارات التي اتّخذها المحقق الأوّل فادي صوّان، ودعّمها ووسّعها المحقق العدلي الحالي طارق البيطار، دخل “حزب الله”، بشكل سافر، على خط التهويل للتعطيل، فبدأ بخطابات أمينه العام حسن نصرالله قبل أن ينتقل الى تهديدات تولّاها المسؤول فيه وفيق صفا.
وقد انقلب هذا التدخّل ضد “حزب الله”، إذ إنّه ترك انطباعاً لدى غالبية اللبنانيين بأنّه، فعلاً، متورّط بانفجار المرفأ وبكمية نيترات الأمونيوم التي جرت المحافظة عليها، في عملية تواطؤ جماعي، على الرغم من التحذيرات التي شدّدت على خطورتها العالية جداً.
وهذا غيض من فيض من الملفات الداخلية التي تعاطى معها “حزب الله” على أساس أنّها “إنجاز” فاكتشف أنّها “فشل”.
“الإنفتاح” على الأسد
وفي الملفات الإقليمية، فإنّ “حزب الله”، على الرغم من مواقفه المعلنة، إلّا أنّه يتوجّس شرّاً من إمكان استكمال الإنفتاح العربي على النظام السوري، ذلك أنّه يعرف عمق المعرفة أنّ هذا الإنفتاح ليس انكساراً استراتيجياً، بل هو نتاج تفكير هادئ لا تبتعد عنه لا الولايات المتحدة الأميركية ولا روسيا الإتحادية ولا حتى إسرائيل، ذلك أنّ التواصل القائم بين عدد من الدول العربية والنظام السوري محكوم بثابتة لا يمكن أن يجهلها بشّار الأسد ويقفز فوقها “حزب الله”، وهي تقليص النفوذ الإيراني في سوريا إلى أدنى حد.
ويعرف “حزب الله” أنّ هذا الإنفتاح يبقي باب الضربات الإسرائيلية في سوريا مفتوحاً على مصراعيه، وهو يخشى أن يتعزّز التعاون الاستخباراتي ضدّه وضد “الحرس الثوري الإيراني”.
إنّ الدول العربية التي تتولّى تسويق الإنفتاح على نظام بشّار الأسد، حالياً لا تفاجئ العارفين، فهي وقفت الى جانبه، منذ اللحظة الأولى لاندلاع الثورة السورية في العام 2011، ولكنّها لم تستطع أن تسوّق لهذا النظام إلّا في الآونة الأخيرة، وعلى قاعدة أنّ الإنقطاع عنه إنّما يصب في مصلحة تعزيز نفوذ إيران في سوريا و”حزب الله” في لبنان.
من هنا، فإنّ “حزب الله” الذي يهمين على لبنان، بقوة الأمر الواقع، يخشى، أمام المعطيات الشعبية اللبنانية وأمام الحراك الإقليمي الناشط، من أن يعجز عن إطالة أمد هذه السيطرة إلى ما بعد الانتخابات النيابية التي بات يستعجلها، بعدما كان رافضاً لها سابقاً، ولهذا يلجأ الى خطابه المتشنّج ضد القوى اللبنانية الجديدة المناهضة له ناسباً إيّاها الى الولايات المتحدة الأميركية التي، وإن صحّ أنّها تموّل بعض المنظّمات غير الحكومية، فمن أين له أن يصرخ ويندّد ويستنكر، وهو الذي لولا جنسية المنتسبين إليه، ليس فيه أي أثر لبناني، بدءاً بعقيدته، مروراً بتمويله، وصولاً الى “أجندته”؟
* نقلا عن “النهار”