مقالات

ممر “البوكمال” الحلم الإيراني على طريق المتوسط

 
سوسن مهنا
 
مع سيطرة قوات النظام السوري على منطقة البوكمال في نوفمبر (تشرين الثاني) 2017 وبدعم بري واسع من قبل إيران، وجوي روسي، أعلنت وكالة الإعلام الروسية حينها، نقلاً عن وزارة الدفاع، أن ست قاذفات روسية من طراز “توبوليف-22 أم 3” انطلقت من موسكو وحلقت فوق إيران والعراق لتنفيذ ضربة استهدفت مستودعات إمدادات ومقاتلين من تنظيم “داعش”. وأصبحت تلك المنطقة مركزاً لاستقطاب قوات إيرانية، أو مدعومة منها، بعدما كانت واحدة من أبرز مناطق سيطرة تنظيم “داعش” في سوريا.
 
وزادت طهران من انتشارها في البوكمال، لأن جغرافية المنطقة وموقعها الاستراتيجي سيمكنانها من تعزيز نفوذها داخل سوريا، إضافة إلى أنها أصبح باستطاعتها تهديد إسرائيل عبر الصواريخ التي تمتلكها. وتتمركز المنطقة في محافظة دير الزور، وتقع على الضفة الغربية لنهر الفرات وهي حدودية يمر عبرها نهر الفرات، وآخر نقطة للنهر في سوريا قبل أن يدخل الأراضي العراقية.
 
يقول بعض المحللين العسكريين، “إن إيران عمدت إلى تحويل مدينة البوكمال خلال فترة وجود (داعش)، إلى مستودع صواريخ، وكانت استخدمتها في ضرب مناطق التنظيم بدير الزور، رداً على الهجوم الذي استهدف عرضاً عسكرياً للحرس الثوري في مدينة الأحواز مطلع عام 2018، وقتل فيه 25 عنصراً إيرانياً، حينها”. وحسب المعلومات “فإنها استعملت نوعين من الصواريخ، بينهما “ذو الفقار” الذي يبلغ مداه 750 كيلومتراً، و”قيام” مداه 800 كيلومتر”.
 
منطقة عسكرية إيرانية
شكلت مدينة البوكمال محطة أساسية لوصول تعزيزات كبيرة للميليشيات الإيرانية من عدد من المحافظات السورية، ومعظم هذه التعزيزات انتشرت في نقاط متاخمة لنقاط انتشار “ميليشيات الدفاع الوطني” التي أصبحت ذراع روسيا في المنطقة منذ انسحاب قوات “لواء القدس”.
 
وكان المرصد السوري ذكر ومنذ أبريل (نيسان) الماضي أن الميليشيات الإيرانية عمدت في منتصف مارس (آذار) إلى تخزين أسلحة وذخائر ضمن “قلعة الرحبة” الأثرية في محيط مدينة الميادين بريف دير الزور الشرقي، الأمر الذي يفعله “داعش” خوفاً من الاستهداف المتكرر لمواقعه ومراكز تخزين أسلحته وذخائره. وحسب المرصد، “فإن الميليشيات الموالية لإيران تخزن قسماً من أسلحتها وذخائرها ضمن مناطق مأهولة بالسكان غرب الفرات سواء في الميادين وريفها أو البوكمال وريفها، خوفاً من أي استهداف محتمل من قبل إسرائيل أو التحالف الدولي”.
 
وبدأ التركيز الإيراني على مدينة البوكمال في 17 أبريل، مع قيام أبو عيسى المشهداني قائد ميليشيا “الهاشميون” (المشكّلة حديثاً)، بإنشاء مقر له في شارع الانطلاق في المدينة شرق دير الزور. وانتشر في المقر ما يقارب 50 عنصراً معظمهم من عشيرة المشاهدة وأهالي بلدة السكرية غرب البوكمال.
 
بعد ذلك بفترة قصيرة، بدأت الميليشيات الإيرانية تنفيذ عملية انتشار واسعة تمتد من قرية الصالحية وصولاً إلى الحدود (السورية-العراقية). وذكرت تقارير إعلامية “أن الميليشيات قامت بإنشاء ما يقارب 30 نقطة جديدة بالقرب من نقاط ميليشيا (الدفاع الوطني)، من أجل فرض سيطرتها على أكبر مساحة ممكنة من الأراضي”. وأضافت “أن ميليشيات الحرس الثوري الإيراني استقدمت عدداً من آليات الحفر من البوكمال والعراق، وبدأت عمليات حفر خنادق وأنفاق والتجهيز لزرع حقول ألغام في المواقع الجديدة”.
 
وتمركزت في المدينة، التي تصل الأراضي السورية بالعراقية عبر معبر “البوكمال-القائم” الحدودي، مجموعات من المقاتلين الإيرانيين، الذين لا تعلن أعدادهم، بينما تفضحهم أنشطتهم، والاستهدافات الإسرائيلية المتكررة لمواقع عسكرية إيرانية في المدينة. إذ يرجح أن وجود الأسلحة هو سبب للضربات الأميركية والإسرائيلية التي استهدفت منطقة البوكمال خلال العامين الماضيين، ووجود قواعد تبنيها إيران، منها قاعدة “الإمام علي” التي تعد نقطة ارتكاز لها في البوكمال.
 
البوكمال ممر إيراني على طريق المتوسط
في دراسة لموقع “إيران إنسايدر” نشرت في مايو (أيار) الماضي، تقول إنه من أبرز الأهداف التي حققتها طهران في دير الزور هو سيطرتها على البوكمال ومعبرها الحدودي مع العراق، الأمر الذي مكنها من تحقيق حلمها منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية عام 1979، بفتح ممر بري، من البحر الأبيض المتوسط ولبنان عبر سوريا والعراق. ولسنوات، ظل هذا أحد أهم الاهتمامات الإقليمية، إذ تخشى الدول العربية وإسرائيل من أن تشدد إيران سيطرتها على الطرق البرية الممتدة من العراق إلى البحر الأبيض المتوسط، وبالتالي تسيطر على عقدة نقل بري مهمة، كما يخشى المجتمع الدولي من نفوذ إيران في البوكمال خشية أن تصبح جسراً للبلاد. أيضاً من خلال هذا المعبر تمكنت من توزيع المهام بين ميليشياتها على الأرض لضمان الحفاظ على المكاسب واستمرار نفوذها.
 
الميليشيات الإيرانية الموجودة في المنطقة
قامت إيران بتعزيز ميليشياتها في المنطقة منها:
 
– “الحرس الثوري الإيراني”، إذ تم نشر آلاف المقاتلين والمستشارين العسكريين في سوريا، لكن طهران تعترف فقط بالمستشارين الذين يساعدون قوات الأسد.
 
– “الميليشيات الشيعية العراقية”، مجموعات تقاتل إلى جانب قوات النظام السوري بطلب من إيران، وقد انتشروا بشكل أساس على الشريط الحدودي بين العراق وسوريا منذ انتهاء العمليات ضد داعش في (2018-2019)، بالإضافة إلى وجود بعض الميليشيات العراقية في البوكمال، ومن أبرز هذه المجموعات كتائب حزب الله، وكتائب بدر، وحركة النجباء.
 
– “حزب الله” اللبناني، يعتبر أقوى قوة عسكرية مدعومة من إيران في سوريا، وتشارك الجماعة المتشددة بشكل علني في القتال إلى جانب قوات النظام منذ عام 2013، وتراجع عدد قوات حزب الله خلال العامين الماضيين مع تراجع حدة المعارك واستعادة قوات النظام السيطرة على نحو ثلثي البلاد. وفي دير الزور، بدأ “حزب الله” بالتركيز على التجنيد وتوفير التدريب العسكري والمساعدة للقوات المحلية المعروفة مجتمعة باسم “المقاومة الإسلامية”.
 
– “لواء فاطميون” الأفغاني و”لواء زينبيون” الباكستاني، أنشأ الحرس الثوري اللواءين مع مقاتلين شيعة أفغان وباكستانيين، شاركوا في العديد من المعارك الرئيسة في سوريا، ويحافظون على وجود كبير في دير الزور اليوم، نحو 2500 مقاتل في المجموع، وفي مناطق أخرى وجميع أنحاء البلاد.
 
– “قوات الدفاع المحلي”، جندت إيران مقاتلين من محافظات حلب ودير الزور والرقة تحت مسمى قوات الدفاع المحلي. وتعد قوات الدفاع المحلية جزءاً من جيش نظام الأسد، ولديها أكثر من 50 ألف مقاتل، ومن أبرز الميليشيات العاملة في دير الزور، لواء الباقر وجيش المهدي ولواء الإمام المهدي.
 
الحرب لا تزال مشتعلة وسط طموح إيران الإقليمي
في تقرير لصحيفة “الغارديان” البريطانية، بعنوان” الحرب لا تزال مشتعلة في بلدة حدودية سورية في قلب طموح إيران الإقليمي” نشر بتاريخ 9 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، تناولت فيه التنافس الواقع في مدينة البوكمال، إحدى أهم مدن دير الزور، بين مزيج من اللاعبين والمتنافسين على القوة والنفوذ وعلى رأسها الميليشيات الشيعية من العراق وإيران ولبنان، بينها “حزب الله”، والمرتزقة الروس ورجال القبائل السنية والجيش السوري، أما القوات الكردية فهي حسب التقرير تراقب المشهد من بعيد.
 
يقول التقرير “إن المنطقة تشهد القليل من التحركات في حرارة النهار، وتنبض الحياة ليلاً، وكذلك مدينة البوكمال، حيث أخذ المهربون وأعضاء الميليشيات والجماعات التي تعمل بالوكالة والمرتزقة وجيوش الدول الثلاث حصصاً بارزة منذ هُزِمَ طاغوت (داعش) في تلك المنطقة قبل ثلاث سنوات. أصبحت هذه المدينة، التي تقع على الحدود بين العراق وسوريا، الجيب الأكثر استراتيجية، لأن من يسيطر عليها يكون له الكلمة الأقوى على جانبي نهر الفرات. ويقول ضابط كردي من فوق قمة جبل الباغوز، المطل على المدينة، الزاوية الأكثر جدلًا في الشرق الأوسط، (لهذا السبب نحن هنا، نراقب المشهد. كل تلك الأرض التي أمامنا ستشهد قتالاً لسنوات مقبلة)”.
 
في أواخر أغسطس (أب) الماضي، استيقظ الأكراد في المدينة ليلاً على دوي الانفجارات من مسافة متوسطة. وقال ضابط آخر “كنا نسمع صوت الطائرات. علمنا لاحقاً أنهم كانوا إسرائيليين. ضرباتهم مختلفة عن نظيرتها الأميركية”.
 
يتابع التقرير، “على مدى السنوات الثلاث الماضية، أصابت الضربات الجوية الإسرائيلية بانتظام البوكمال ومداخلها، وكذلك بلدة القائم الواقعة على الحدود العراقية. والأهداف كانت مواقع مرتبطة بميليشيات مدعومة من إيران تستخدم المدينة لنقل الأسلحة والأموال من العراق إلى سوريا. وأصبحت البوكمال الطريق الرئيس لمشروع إيراني عمره ثلاثة عقود يهدف إلى تأمين قوس نفوذ من العراق عبر سوريا إلى البحر الأبيض المتوسط. كان الهدف من إنشاء مثل هذا المعبر، أن يعزز جسراً لحزب الله (الميليشيا اللبنانية) في سوريا، وهدفاً استراتيجياً للجنرال الإيراني قاسم سليماني وحليفه أبو مهدي المهندس، اللذين اغتيلا في غارة جوية أميركية في بغداد أوائل عام 2020”.
 
في أكتوبر 2016، كشفت صحيفة “الأوبزرفر” البريطانية خطط إيران لإنشاء هذا الممر بين العراق وسوريا عبر مدينة البوكمال للمرة الأولى. ومنذ ذلك الحين، تكثفت الجهود في السنوات الخمس التالية لوقف هذه الخطط. يقول الضابط الكردي، “الضربات الجوية الإسرائيلية منتظمة إلى حد ما. إنها قصيرة للغاية وعادة ما تكون ضارة للغاية. يعرفون ما يريدون ضربه”.
 
مشهد المدينة تغير بعد هزيمة “داعش”
تركت الاضطرابات المتداخلة مناطق كثيرة من محافظة دير الزور مدمرة وغير قابلة للتسوية. ولا يزال العديد من السكان في عداد المفقودين أو النازحين، ولا تزال الحرب ضد الجماعة الإرهابية محتدمة. وعلى الطرق الرئيسة السريعة، تفسح الجرارات والناقلات الطريق لقوافل من شاحنات القتال الأميركية والروسية. وتحلق طائرات هليكوبتر هجومية فرنسية وأميركية في الأجواء، حيث لا تزال قوات التحالف الخاصة تحتفظ بقواعدها.
 
يقول أحد الجنود الأكراد، “لا تزال توجد الكثير من عمليات التهريب عبر المدينة”. بينما يقول سكان البوكمال “إن البلدة تغيرت بشكل كبير منذ هزيمة داعش”. ويضيف أحد العمال، “عندما انتقل الشيعة إلى المدينة كان لدينا القدر نفسه من الخوف من داعش. الإيرانيون لديهم أموال طائلة لينفقوها، وقد أثروا في القبائل، لكنهم ليسوا الأسوأ، قوات الحشد الشعبي هي التي تخيف الجميع، إنهم شيعة وطائفيون للغاية”.
 
وأكد ثلاثة من سكان البوكمال ونقلاً عن مسؤول أوروبي، “أن الضابط الإيراني الذي يستخدم الاسم الحركي الحاج عسكر، ويقود اللواء 47 من كتائب (حزب الله) العراقية، يسيطر على معظم المدينة، وأبعدت تلك الكتائب السكان وزعماء القبائل”. ويذكر تقرير”الغارديان”، “أن معظم المجندين المحليين في اللواء 47 ينحدرون من قبيلتي المشاهدة والجغيفي. وبرأي أحد سكان البوكمال، “فإنهم من باعوا البلدة لإيران، وقد فعلوا ذلك بثمن بخس. كما أنهم يساعدونهم في التهريب”.
 
تغيير ديموغرافي
يقول ساكن آخر من المنطقة، “الإيرانيون يشقون طريقهم إلى المنطقة، وينقلون أساليبهم، هناك أناس يصلّون مثل الشيعة. ما يحدث ليس تغييراً في شكل المنطقة ولكن في المدينة كلها. هناك مدارس تعلم التاريخ الفارسي، والزعماء الدينيون الشيعة لهم تأثير كبير في المجتمعات. إنهم أقوى من جيش بشار، الذي يقف مكتوف الأيدي بينما تضع إيران وأصدقاؤها خططهم الخاصة”. يقول أحد الضباط الأكراد، “يعتقدون أنها أرضهم، وآخرون لهم رأي غير ذلك بمن فيهم نحن. لا أرى نهاية للقتال”.
 
روسيا وإيران و”خططهما” لاستقبال إدارة جو بايدن
في تقرير لـ”مركز كارنيغي للشرق الأوسط” نشر في فبراير (شباط) 2021، يقول مع قدوم إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، سعت روسيا وإيران إلى إحداث تغييرات في شكل وجودهما العسكري شرقي سوريا لإيصال رسائل لواشنطن وتل أبيب، في حين موسكو قادرة على ضبط الميليشيات الإيرانية، الأمر الذي يصب لمصلحة طهران التي تعاني قصفاً مستمراً على مواقع نفوذها في سوريا.
 
الجدير ذكره أن القوات الروسية، وصلت للمرة الأولى منذ تدخلها في سوريا إلى الحدود العراقية، عند معبر البوكمال في ديسمبر (كانون الأول) 2020، وكانت تلك المنطقة قد أصبحت حينها تحت النفوذ الإيراني الخالص منذ استعادة السيطرة عليها من تنظيم “داعش” عام 2018. وثمة مؤشرات تقول إن هناك اتفاقاً (روسياً-إيرانياً) لم يعلن عنه، ولم تتضح الكثير من تفاصيله، الأمر الذي يثير التساؤل عن الاعتبارات التي دفعت بهما إلى هذا الاتفاق، وما إذا كان يشكل مقدمة لتغيير أوضاع اللاعبين في منطقة الحدود (السورية-العراقية). وخلال وجود وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، بموسكو في 6 أكتوبر الحالي، تقدم الجيش الروسي باتجاه جنوب سوريا، وأقام نقطة عسكرية بمنطقة قريبة من الحدود مع الأردن، في دلالة على أن روسيا هي المسؤولة عن أمن جنوب سوريا، وستنفذ ما التزمت به حول نفوذ إيران.
 
يرى المحلل السياسي الروسي أندريه أنتكوف، “أن البوكمال منطقة استراتيجية، ولا يستبعد أن يكون الاهتمام بها فقط عند الروس والإيرانيين، بل لدى الولايات المتحدة الأميركية، (حيث تمتلك فيها واشنطن قاعدة بنتها أخيراً، في بلدة الباغوز الكردية المطلة على البوكمال)”، إذ يعتقد أن الوجود العسكري الروسي فيها وعند المعبر الحدودي بين العراق وسوريا يضمن التواصل والتبادل التجاري بين دمشق وبغداد، ويزيل الخطر بأن تصبح هذه المنطقة تحت سيطرة القوى المعادية للنظام السوري وروسيا وإيران. الوجود الروسي في البوكمال لمصلحة موسكو ودمشق وطهران، وفق أنتكوف، الذي يعتبر أن روسيا، عبر خطوة انتشارها هذه، تعيق القدرات الأميركية في سوريا، إذ من المهم لروسيا أن تشكل كل الظروف لعرقلة التحركات الأميركية، والانتشار في البوكمال أحد تلك العراقيل.
 
*نقلا عن”إندبندنت عربية”
 

موضوعات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى