وحدة الساحات… إيران تنهي ما بدأته “وكفى الله المؤمنين القتال…”
حسن فحص
في التراث العربي ينقل المؤرخون والمسفرون قصة عن سيدة كانت تسمى “رايطة” تسكن في قرية “جعرانة” التي تبعد عن مكة 27 كيلومتراً إلى الشرق منها، وقد جاء ذكرها في القرآن الكريم كمثال عمن يخرّب ما عمله عندما وصفها بقوله “ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً…” (سورة النحل، الآية 92)، إذ كانت تعمل في النهار مع جواريها في الغزل، ثم تعمد في الليل وتأمرهن بنقض ما غزلن من خيوط.
وإذا ما كانت العملية التي بدأتها حركة “حماس” على منطقة الغلاف في غزة في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي قد جاءت من خارج التوقيت الإيراني أو محور الممانعة كما أقر بذلك، بصراحة ووضوح، الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله في خطابه الأول بعد شهر على بدء عملية “حماس”. فإن هذا التوقيت بالمعنى العملي قد أطاح المشروع الاستراتيجي الذي عمل على بلورته نصرالله بالتعاون مع القيادة الإيرانية الرسمية والعسكرية (المرشد الأعلى مع قوة القدس)، تحت اسم “وحدة الساحات” ليكون جاهزاً للتحرك في التوقيت الذي تحدده قيادة هذا المحور لبدء المعركة الكبرى من جميع المحاور التي تضم (لبنان وسوريا والأردن واليمن والعراق وقطاع غزة والضفة الغربية)، وما يعنيه ذلك من إتاحة الفرصة لإيران ومحورها من فرض المعادلات التي يريدها في الإقليم، وتحديداً في معادلات الشرق الأوسط وصراع النفوذ والدور بين طهران وتل أبيب.
وحدة الساحات التي احتفل بها وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان مع مسؤولين من “حزب الله” والمحور من “حديقة إيران” في بلدة مارون الراس (جنوب لبنان) التي تقع على النقطة صفر من الحدود اللبنانية المشتركة مع منطقة الجليل وشمال فلسطين في تاريخ 28 أبريل (نيسان) 2023، وإن كانت تصب حينها في إطار الرد الإيراني على توسع النفوذ والدور الإسرائيلي داخل حديقته الخلفية في جمهورية أذربيجان ومنطقة القوقاز الجنوبي، فإنه سرعان ما لجأ الإيراني إلى سياسة التراجع التكتيكي ونفض اليد من “وحدة الساحات” والذهاب إلى سياسة أو موقف التخلي والابتعاد عن المسؤولية مع تصاعد العملية الإسرائيلية البرية في قطاع غزة ضد حركة “حماس” وكتائب القسام.
والوزير نفسه، وفي حديث قبل أيام مع صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية، وتعليقاً على العمليات التي يقوم بها “حزب الله” اللبناني على الحدود الجنوبية، رسم هامشاً إيرانياً ينأى به عن تحمل أية مسؤولية أو توجيه اتهام له بالمشاركة في الأعمال الحربية ضد تل أبيب، من خلال تأكيده أن هذا الحزب هو “حركة مقاومة في المنطقة وهويته مستقلة ولبنانية ولا يتلقى أوامر من إيران”، وهو الموقف الموحد الذي لجأت له طهران والنظام في توصيف علاقتها مع كل قوى المحور الذي تقوده في الإقليم من العراق وسوريا واليمن، وحتى في توصيف علاقتها مع حركتي “حماس” و”الجهاد” الفلسطينيتين، بخاصة في الرد على التحذيرات الأميركية المرتبطة بعمل الفصائل العراقية ضد القواعد الأميركية في العراق وسوريا، وأخيراً في التعامل مع التصعيد الذي لجأت له جماعة الحوثي في اليمن وخطوة الاستيلاء على سفينة إسرائيلية في مياه البحر الأحمر.
تمسك إيران بمقولة الخطوط الحمراء التي قد تؤدي إلى تدحرج التطورات والأحداث، والتي تحولت إلى سياسة ثابتة في الموقف والسياسة الإيرانية باتجاه ما يشهده قطاع غزة والجبهات الأخرى التي تنشط فيها وعليها الفصائل الموالية لها، وإن كانت من ناحية تسعى إلى ايصال رسالة إلى الأطراف الدولية المعنية بحماية إسرائيل وتدعم العملية العسكرية التي تقوم بها ضد القطاع، فإنها أيضاً تحمل رسالة إلى الداخل الإيراني أو الرؤوس الحامية التي تدفع باتجاه دفع النظام للانخراط في هذه المعركة، انطلاقاً من قراءتها مجمل المشهد واعتبار أن التطورات الحاصلة كشفت عن مدى الضعف الأميركي والإسرائيلي، وأن الفرصة سانحة أمام إيران لفتح جبهة واسعة في الإقليم تعقد الأمور على واشنطن وتجبرها على القبول بالشروط والمعادلات التي تخدم مصالح إيران وأهدافها.
هذه التوجهات التي تسعى إلى استخدام معادلة “وحدة الساحات” كشف عنها وزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف، في حديثه عن عشرات الرسائل التي وجهتها شخصيات متشددة إلى المرشد الأعلى للنظام تطالبه بالدخول إلى المعركة، أو هذه الحرب، مؤكداً أن الموقف الإيراني المعتمد يصب في جوهر التزامات النظام، مذكراً أن الدستور الإيراني نص على دعم ومساعدة المستضعفين في الأرض، لكنه لم يقل بوجوب خوض الحرب، وهو موقف ينسجم مع السقف الذي رسمه المرشد منذ بداية الحرب في غزة، وكان سقفاً صلباً لم يسمح لأي ضغوط أو مطالب باختراقه، عندما نفى أية علاقة لإيران أو تدخلها أو أي دور لها في توقيت عملية “حماس”، وهو موقف تحول إلى محور نشاط ومواقف الدبلوماسية الإيرانية التي لم تتنصل من سياسة “الدعم السياسي والإعلامي” لكل حركات “المقاومة” في الإقليم، وأنها ستستمر بهذا الدعم، مع التحذير من استمرار الأعمال الحربية لتل أبيب وتوسيع دائرتها لأنها قد تتحول إلى حرب شاملة لا أحد يريدها أو يرغب بها.
الموقف الذي أعلنه غلام رضا حداد عادل رئيس البرلمان الأسبق والمنسق الأبرز لمواقف التيار المحافظ والمعروف بمدى قربه من المرشد الأعلى ودوائر القرار في الدولة العميقة ومنظومة السلطة، قد لا يكون مستغرباً، بخاصة في انسجامه مع الوزير ظريف، عندما شدد فيه على ضرورة التزام إيران والنظام وجميع مؤسساته العسكرية والأمنية والسياسية والشعبية الموقف المعلن للمنظومة، معتبراً أن “دخول إيران إلى هذه المعركة سينعكس سلباً على القضية الفلسطينية ولا يصب في صالحها”، وأن المصلحة الإيرانية في التزام السقوف إلى رسمتها القيادة وما تعبر عنه الدبلوماسية الرسمية، من ثم فإن معادلة “وحدة الساحات” تقف مفاعليها عند المصلحة الاستراتيجية للنظام، وإن ما تقوم به الفصائل الموالية لإيران من أعمال عسكرية يصب في مبدأ “وكفى الله المؤمنين القتال…” (سورة الأنفال، الآية 33).
نقلا عن اندبندنت عربية