مقالات
هل رخت قبضة إيران في العراق؟
عماد الدين الجبوري
بعدما فشلت إيران بالحفاظ على التركيبة التقليدية التي صنعتها في الكتلة الشيعية الكبرى داخل مجلس النواب العراقي، جراء إصرار مقتدى الصدر بإبعاد نوري المالكي من تسنم أي منصب في تشكيل الحكومة الجديدة، لأسباب خلافية متجذرة بينهما ولا مجال للخوض فيها الآن، قام إسماعيل قاآني، قائد “فيلق القدس” بالحرس الثوري، بزيارة إلى العاصمة بغداد في 16 يناير (كانون الثاني) الجاري، استهلها بمحافظة النجف، حيث مقر مقتدى الصدر، ثم عقد اجتماعاً مع قادة “الإطار التنسيقي للقوى الشيعية”، من أجل توحيد الموقف حول تشكيل الحكومة العراقية، ولكنه لم ينجح في تقليص الفجوة بينهما ولا التحالف بين “التيار” و”الإطار”.
وعلى الرغم من أن الموقف الإيراني ينتهج السياسة التناقضية ذاتها، إذ من الجانب السياسي يدعو “الإطار التنسيقي” الموالي له، أن يتقبل نتائج الانتخابات التشريعية، التي خسرها بهزيمة مريرة، وألا يتنافر مع الصدر بسبب المالكي، بينما في الجانب الحرسي الثوري، لغة التهديد واضحة مثل قرص الشمس، خصوصاً عندما التقى قاآني بمسعود بارزاني، رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني في محافظة أربيل، في 30 من الشهر الماضي، حاملاً له رسالة من المرشد الأعلى علي خامنئي، تحتوي على فقرتين رئيستين، الأولى، يطالبه بألا يدعم تشكيل حكومة من دون “الإطار التنسيقي”، والثانية، ألا يتفرد بحسم ملف المرشح لرئاسة الجمهورية من غير الاتفاق مع الحزب الوطني الكردستاني، لأن في ذلك تحدياً خطيراً لأمن إيران القومي.
وعلى ما يبدو أن مسعود بارزاني لم يهتز تجاه هذا التهديد الإيراني المبطن، وأخذ يركز على مبادرته بفتح الطريق نحو الحوار الوطني تمهيداً لوضع برنامج للتغيير والإصلاح، والكشف عن رؤوس الفساد المالي والإداري، وما نتج منه من ديون وفقر وترد في الخدمات بشكل عام، وانتشار الأمية وفقدان الأمن والاستقرار، كما أن بارزاني أشار إلى أن تحالفه مع الصدر ليكون في صناعة القرار السياسي لا المشاركة التوافقية المعهودة في تشكيلة كل حكومة جديدة، والأمر ذاته بالنسبة إلى الكتلة السّنية، إذ طاولها التهديد الإيراني بعد تحالفها مع “التيار الصدري”، من أجل تكوين حكومة غالبية وطنية بعيداً من المحاصصة الطائفية والعرقية.
عموماً، تجاه الموقفين المتنافرين، يبدو أن قبضة إيران على الطبقة السياسية الحاكمة في العراق ليست كما كانت عليه سابقاً، فمعظم الشعب العراقي لم يشارك في الانتخابات، التي أجريت في الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) 2021، وذلك رفضاً للعملية السياسية البائسة والسياسيين الفاسدين والميليشيات الولائية التي استباحت الدم العراقي، وحتى القلة الباقية من العراقيين الذين شاركوا بالانتخابات، فأغلبهم لم يمنحوا أصواتهم إلى الكتلة الموالية لإيران، وإيران تدرك خطورة ذلك على الواقع السياسي، وتداعياته المستقبلية بفك قبضتها رويداً رويداً.
وإلى جانب الحراك العراقي، يأتي الحراك العربي، وفي مقدمته السعودية، إذ ما إن أعلنت إيران وقف مدّ الكهرباء إلى العراق، حتى سارعت السعودية باستعدادها لمنح الكهرباء مجاناً إلى الشعب العراقي، لتتلقى إيران صفعة إن لم تكن رفسة أربكت عليها حساباتها وما تخطط له داخل العراق والدول العربية التي وصل إليها المشروع الإيراني التدميري.
بلا شك، لن تسمح إيران بتراخي قبضتها بتلك السهولة، وستعمل بكل الوسائل لكي يستمر الوضع السياسي العراقي على ما هو عليه، مع أن كل المؤشرات تدل إلى بداية رخوة واضحة، وأن استعراض قاآني للقوات المسلحة والفصائل الولائية في مدينة سامراء في شمال بغداد، لا يعني إمكانية فرض السيطرة السياسية باستخدام القوة العسكرية، وإلا لتمكنت قبلها قوات الاحتلال الأميركي، كما أن استعراض القوة بعد التراجع السياسي، يعني النزع الأخير لتلك القبضة التي تظن إيران بأنها ستبقى متماسكة، وهذه من أوهام النظام، فما يجري في العراق لا يبتعد عما يجري في اليمن وسوريا ولبنان، ومفاوضات الملف النووي التي تدور حول نفسها بسبب المراوغة الإيرانية، وليونة إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن.
ليس هذا فحسب، بل إن انفتاح إيران الاقتصادي على الصين في السنوات الـ 20 المقبلة، لا يضمن لها ديمومة مشروعها في المنطقة من جهة، وظهور بعض التعثرات مع جهة أخرى، فالصين تروم الاقتصاد فحسب، بينما إيران تبرز السياسة بهذا التقارب.
كما أن الإهانتين التي تعرض لهما الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي من طرف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في زيارته الأولى إلى موسكو في 19 يناير 2022، إذ جعله ينتظر نحو 20 دقيقة في قاعة الاستقبال، ولم يستقبله في الكرملين بل أوفد بعض الدبلوماسيين لاستقباله. كأن رسالة روسيا إلى إيران بأنه لا يمكنها أن تتجاوز حجمها، وتلعب بالمحيط السياسي الدولي كيفما تشاء.
إن تباشير انفكاك القبضة الإيرانية في العراق ستزداد مع تصاعد المشكلات، خصوصاً إذا تم إبعاد نوري المالكي نهائياً من أي منصب حكومي، إذ سيعرضه إلى الكثير من المسائل التي تتعلق بالفساد المالي، والانهيار العسكري والأمني الفجائي، الذي مكّن تنظيم “داعش” من الدخول والسيطرة على المحافظات ذات الغالبية السّنية، ومجزرة “سبايكر”، وعشرات التفجيرات في العاصمة بغداد، وغيرها الكثير بما يخص بقية المحافظات، خلال ترؤس المالكي رئاسة الوزراء لفترتين (2006-2014). لذلك، لم يتوانَ قاآني من أن يطلب من الصدر ألا يتعرض المالكي لأي إجراء قانوني، فكشف تلك الملفات ستطاول أيضاً يد إيران الملطخة بدماء العراقيين، وتسيير الاقتصاد الإيراني على حساب الاقتصاد العراقي… إلخ.
وهذا القلق الإيراني سينعكس بدوره على مسكة قبضتها داخل العراق، المتجه نحو الابتعاد من هيمنتها على القرار السياسي العراقي، وإن دعمها “الإطار التنسيقي” لن يعيد لها سنوات حكم المالكي، كما أن الفصائل المسلحة الولائية لا رصيد لها في المجتمع العراقي قط، بل إن الشعب ناقم عليها بسبب إجرامها وقمعها الدامي للشباب المنتفض ضد إيران ومواليها. وعليه، سترخو قبضة إيران في مقبل الأيام إذا كانت إرادة السياسيين صادقة في ثباتها ولا تتراجع تحت أي ضغط.
* نقلا عن ” اندبندت عربية”