نصرالله وتعديل النظام في لحظة الارتطام
علي شندب
صدم موقف زعيم حزب الله من ادعاءات المحقّق العدلي بانفجار مرفأ بيروت، الوسط السياسي والشعبي عامة، وأهالي ضحايا الانفجار المشؤوم خاصة. وبدت عبارة “التوظيف السياسي” التي دمغ بها نصرالله قرارات القاضي طارق بيطار أشبه بعملية اغتيال معنوي لهذه الادعاءات. إنه الاغتيال الذي ساهم في إجبار المحقق العدلي السابق فادي صوّان على التنحي بذريعة ظاهرها “الارتياب المشروع”، وباطنها تعرضه للتهديد “بالذبح مثل البسين” الذي عثر عليه أمام باب منزله. ولا يستغربن أحد أبداً إذا ما عثر القاضي بيطار ذات يوم على ما يدفعه إلى التنحّي أيضاً.
ورغم أن الوزراء السابقين والنواب الحاليين علي حسن خليل، غازي زعيتر ونهاد المشنوق، قد وضعوا أنفسهم بتصرف المحقّق العدلي الذي اتسمت إجراءاته بالتزام الأصول القانونية في مسارات طلب رفع الحصانات النيابية والأذونات بالنسبة للقادة العسكريين والأمنيين، وشى وكأنّ المنظومة الحاكمة كانت مسبقاً في جو ادعاءات المحقق العدلي، التي كانت محل تقدير أهالي ضحايا الانفجار الذين يريدون معرفة الحقيقة، حقيقة من اشترى واستورد نيترات الأمونيوم، ومن خزّنها ومن أخرج بعضها من المرفأ، وصولاً إلى من أهمل وقصّر في أداء واجباته لمنع انفجار بيروشيما.
وحده نصرالله شذّ عن إجماع الارتياح العام الذي عكسته إجراءات المحقّق العدلي، التي تشكل رأس جبل الجليد الذي ستذيبه الاستجوابات التحقيقية مع المسؤولين رفيعي المستوى كمدّعى عليهم منزوعي الحصانة، وصولاً لمعرفة كامل فصول ومسارات شحنات الأمونيوم والمتورطين فيها استيراداً وتصديراً وتخزيناً وتفجيراً. وبدا تجرؤ نصرالله في موقفه النافر هذا، وكأنّه يتجلبب وحزبه عباءة “يكاد المُريب يقول خذوني”. وقد بدا استعجال زعيم حزب الله الملحاح في ضرورة إعلان نتائج “التحقيق الفني” الذي يحدّد سبب الانفجار، وكأنه يريد أن تطوى صفحة ملف الانفجار وبسرعة كبيرة. وبدت عبارته “ما زالت العدالة بعيدة والحقيقة مخفية” وكأنّها تستبطن تجاسراً على إخفاء الحقيقة التي يريد نصرالله حصرها في الأسباب الفنية للتفجير، بعيداً عن كشف أصحاب شحنات الأمونيوم ومساراتها وصولاً الى انفجارها في مرفأ بيروت.
وبدا نصرالله في تعقيبه الأولي على قرارات المحقّق العدلي، وكأنه يغرف من خبرة اكتنزها من دفاع وإنكار مماثل في قضية اغتيال رفيق الحريري الذي أُدين به القيادي الحزبلّاهي سليم عيّاش، رغم أن أهالي ضحايا انفجار المرفأ لم يتهموا الحزب صراحة، بل ضمناً. لكنهم أشاروا بإصبع الاتهام إلى رئيس الجمهورية الذي صرّح بأنه “كان يعلم”.
ورغم معرفة نصرالله أن ملف انفجار المرفأ محل متابعة دولية، وأيضاً محل مطالبة أهالي الضحايا بتحقيق دولي، لقناعتهم بعجز القضاء اللبناني المتورط بعضه، وأيضاً بعض الأجهزة الإدارية والعسكرية والأمنية، كما بيّنت مروحة ادعاءات المحقّق العدلي، فإنه وبكلامه عن التوظيف السياسي، وكأنه يصادر حق أهالي ضحايا الانفجار بمعرفة حقيقة الانفجار في جمهورية الأشلاء.
لكن أهالي ضحايا الانفجار، ولأنّهم يعون حقيقة وخطورة ووعورة المعوّقات التي ربما تمنع وتعترض مسارات العدالة النظيفة، عمدوا إلى مأسسة حراكهم واستحصلوا بعد معاناة مهينة مع وزير الداخلية محمد فهمي، على علم وخبر لتأسيس “جمعية” تتبنى قضيتهم قانونياً وترفع مطالبهم إلى المحافل المعنية.
لكن الذي بات يشغل بال زعيم حزب الله ويحتلّ حيّزاً واسعاً من أطروحاته هو العقوبات الاقتصادية والجوع، وكلّنا يذكر مقولته الشهيرة بالخصوص “لن نجوع، ولن نسلم سلاحنا، وبسلاحنا سنقتلك، سنقتلك، سنقتلك”.
ويبدو أن نصرالله قد نزل عن صهوة مكابرته، وأقرّ بانتشار الجوع بين ظهرانيه وعلى امتداد لبنان. لكنه عمد بطريقة منفوخة إلى تحميل الولايات المتحدة المسؤولية عن الحصار الذي يتعرض له لبنان، بهدف وحيد وهو تحريض الشعب اللبناني، وخصوصاً “بيئة حزب الله” على حزب الله.
ولعلّ نصرالله محق في توصيفه الذي تغيب عنه الأسباب الموجبة، فهو لطالما ادعى قدرته على رسم معادلات المنطقة، وهي القدرة المتناسلة من قدرة إيران على تدمير إسرائيل خلال 7 دقائق ونصف، تماماً كما ادعى قدرته على مواجهة الجوع، الذي أخرج بالأمس مدينة طرابلس عن طورها في احتجاجات ظلّلتها مظاهر مسلحة، رغم موقف شهير ضد الجوع لرئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي “طرابلس لن تجوع”. لكن طرابلس كما الضاحية الجنوبية يفترسهما الجوع، الذي لم تنفع فيه مسكنات الانتصارات التي يتحدث عنها نصرالله في معالجة آفته. فالناس كانوا يضعون حجراً على بطونهم بسبب الجوع، وسيّد حزب الله يريد منهم أن يملأوا بطونهم انتصارات. كما أنّ الناس، وبحسب البطريرك الماروني بشارة الراعي، لا يأكلون ولا يعتاشون من الصلاحيات، أو كما أشعر نزار قبّاني يوماً “ونحن هنا نجلس القرفصاء، نبيع الشعارات للأغبياء، ونحشو الجماهير تبناً وقشاً، ونتركهم يعلكون الهواء”.
لكن الطلقة الزلزالية التي أطلقها نصرالله، كانت في كلامه العاري من أي التباس حول “أزمة النظام”، واعتباره أزمة الحكومة متناسلة من أزمة النظام. إذن في لحظة الارتطام قفز حسن نصرالله إلى الكلام عن أزمة النظام، في الوقت الذي سبق ونفى في سياق طمأنة شريكه غير المختلف إيديولوجياً مع إسرائيل جبران باسيل، سعيه إلى “المثالثة”. فأزمة النظام كما جحّظها نصرالله بالأمس، تستدعي تعديلات تتجاوز المثالثة الواضحة أو المقنّعة التي لا يحتاجها زعيم حزب الله، الذي بيده وكما بات معلوماً، مفاتيح قصر بعبدا، والسراي الحكومي، وعين التينة، وأسماء ساكنيها.
ففي لحظة تفشّي الجوع بين اللبنانيين، ليس ترفاً أن يتحدث نصرالله عن أزمة النظام. كما أنه ليس ترفاً أن يقول عن انفجار المرفأ “ما زالت العدالة بعيدة والحقيقة مخفية”. وليس ترفاً أن يتحدث عن أيّام حاسمة في مسار تشكيل الحكومة. رغم كل هذا فنصر الله المتحكم بالمنظومة الحاكمة، فشل في مواجهة ملف الجوع، والكهرباء والوقود والدواء، وبالتالي غير قادر على إدارة أزمات لبنان وحكمه، لاسيما أنه لم يتعلم من أسلافه السوريين سطراً واحداً في كيفية حكم لبنان وإدارته.
مفارقة التوقيت، تكمن في محاولة ذراع إيران اللبناني، الإفادة من التحوّلات الضخمة في المنطقة، ليس ربطاً فقط بمفاوضات فيينا النووية، وإنما أيضاً في الانسحاب الأميركي من أفغانستان، التي توشك حركة طالبان على ابتلاعها بالكامل تزامناً مع اندفاعة الصين لملء فراغ الانسحاب الأميركي باستثمارات تصل لنحو 62 مليار دولار. كما أن مفارقة التوقيت تكمن (دون إغفال حركة “مسيّرات غامضة” فوق الضاحية الجنوبية)، في ارتفاع وتيرة المواجهات المسلّحة بين الولايات المتحدة وإيران عبر وكلائها في سوريا والعراق ربطاً بتضاريس المفاوضات النووية.
وبالعودة إلى العقوبات الاقتصادية والجوع الذي يلفّ لبنان، فحريّ التذكير بأنّه لطالما اعتمدت الولايات المتحدة العقوبات والحصار الاقتصادي كرأس حربة “القوّة الناعمة” التي وما إن تستنفد أغراضها، حتى تلجأ الولايات المتحدة إلى اعتماد استراتيجية “القوة الخشنة”، كما بيّنت وقائع غزو واحتلال العراق عام 2003 والعدوان على ليبيا عام 2011. وهذا ما بدأ يستشعر مخاطره المحدقة زعيم حزب الله، رغم تغيير الولايات المتحدة لاستراتيجيتها في المنطقة وتوجهها شرقاً باتجاه الصين التي كان نصرالله يريد أن يستبق لبنان الولايات المتحدة إليها.
وأغلب الظن أنّ نصرالله المنهمك بمساجلة السفيرة الأميركية في بيروت دوروثي شيا، استفاق متأخراً على هذه الحقيقة المرّة، وربما اعتقد أن مزايدته وإيران زمن قاسم سليماني في محاربة من يصفونهم بالتكفيريين والإرهابيين، وبغطاء الأباتشي الأميركية والسوخوي الروسية كأقرانهم من ثوار الناتو، سيؤمن لهم الحصانة والحماية اللازمة.
ربما غاب عن بال نصرالله ودهاقنة إيران “أن الإرهاب سيف أميركا تنتقم به ثم تنتقم منه”. لكن التوجّس العميق الذي حاول نصرالله إخفاءه برفع نبرته الصوتية، جحّظته إطلالة رئيس الحكومة المستقيلة حسّان دياب بهدف ظاهره الاستغاثة بالدول الشقيقة والصديقة، فيما باطنه إضفاء التغطية الرسمية على خطاب نصرالله، وقد تبدّا ذلك في تحميل دياب لدول العالم المعنية بالاستغاثة أمام دبلوماسييها مسؤولية الحصار الاقتصادي على لبنان الذي بات على شفير الكارثة، ما جعل سماء السرايا تمطر ردودا تقريعية وتأنيبية ضد دياب والطبقة السياسية، خصوصاً من السفيرة الفرنسية آن غريو التي ردّت على دياب بالقول “العالم لم يحاصر لبنان، بل هب لمساعدته ومساندته بسخاء، ولا يزال، فيما أنتم بعنادكم وجشعكم وأنانياتكم الصغيرة وامتناعكم عن تشكيل حكومة تحاصرون وطنكم وتجوعون شعبكم”، وكان قطع البث المباشر بمثابة الحل السحري لإيقاف البهدلة الدبلوماسية للدولة اللبنانية.
حمى الله لبنان من أشراره.
نقلا عن العربية