مقالات
مفاوضات فيينا: أزمة نظام أم أزمة مفاوض؟
حسن فحص
لم يكن التسريب الصوتي الذي انتشر في يناير (كانون الثاني) 2021، لوزير الخارجية الإيرانية محمد جواد ظريف والذي تحدث فيه عن رؤيته للعمل الدبلوماسي وإدارة التفاوض والعلاقات الخارجية للدولة الإيرانية، مجرد تسريب يقف عند ما كشفه من صراع، يدور في كواليس النظام وغرف القرار حول آليات الإدارة الدبلوماسية وحدود دورها وطبيعة مهاماتها.
بل جرس إنذار عما تحمله المرحلة المقبلة من سعي تيار السلطة والمؤسسة العسكرية للاستحواذ على كل مفاصل القرار في النظام وإلغاء الأصوات المعارضة أو التي تملك رؤية مختلفة عن رؤية هذه السلطة.
الثابت في ما هو موجود ومتعارف عليه حول طبيعة العمل الدبلوماسي ووظيفة الشخصية الدبلوماسية التي تمثل حكومتها في المحافل الدولية والمفاوضات، أن تلتزم بالسياسات التي ترسمها مؤسسة الدولة والنظام، وأن الهامش الذي تتمتع به تحت هذا السقف أن تكون قادرة على إظهار حكمتها وحنكتها في إدارة العمل الدبلوماسي والتفاوضي لتحقيق الهدف الذي يؤمن مصالح البلاد وسيادتها وترسيخ علاقات خارجية سليمة وواضحة وصحية مع الدول الأخرى على مبدأ خفض التوتر وعدم إثارة العداء والنزاعات.
ولدى تولي محمد جواد ظريف أو قبوله تولي منصب وزير الخارجية في النظام الإسلامي الإيراني الذي يجلس على قمة السلطة فيه ولي الفقيه المطلق الصلاحيات، كان يدرك أنه يدخل إلى ساحة ينطبق عليها المفهوم “الهوبزي” (توماس هوبز) الذي اعتبر في نظريته حول العقد الاجتماعي أن “المجتمع السياسي قام نتيجة تعاقد بين البشر، وبمقتضى هذا التعاقد فوضوا أمرهم نهائياً إلى سلطة مطلقة هي سلطة الحاكم الذي تقع عليه مهمة إقامة الأمن والسلام”.
لكن مع ميزة خاصة في النظام الإيراني، هو أن سلطة الحاكم في هذا النظام مستمدة من الذات الإلهية وليس من البشر الذين اعتبرهم هوبز مصدر شرعية الحاكم عن طريق انتخابه لهذه المهمة.
وكان يدرك أيضاً– ظريف– أن لا مكان لنظرية جان لوك التي تعتبر العلاقة بين الحاكم والمحكوم علاقة تعاقدية بين طرفين متكافئين يحترم كل منهما التزاماته قبل الطرف الآخر، ولا يحق له الخروج عليها أو إنكارها وإلا بات العقد مفسوخاً، لجهة أن صلاحيات الحاكم مطلقة وفوق جميع السلطات والمسؤوليات (المادة 110 من الدستور) ويعود له القرار في التقرير ورسم السياسيات العامة والخاصة، على صعيد المجتمع والفرد، انطلاقاً من الصبغة التي تربطه مباشرة أو بشكل غير مباشر بالغيب كونه “نائباً للنبي المعصوم” التي تسمح له وتعطيه هذه الصلاحية “النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم” (الأحزاب، 6).
ما يعني أنه عليه خلع كل المقولات التي يحملها عن طبيعة العمل الدبلوماسي الذي تمرس به لعقود، ونزع تأثراته والأفكار الليبرالية والديمقراطية التي تنظم العلاقات الدولية، قبل الدخول إلى مباني وزارة الخارجية، ووجوب الالتزام بالرؤية الشمولية التي تفرضها القيادة المطلقة والمؤسسات التي تتولى ترجمة هذه السلطة في الدولة والاجتماع، وتقبض على المسارات الداخلية والخارجية والمصالح الاستراتيجية والوطنية.
عندما دخل ظريف والإدارة التي يمثلها برئاسة حسن روحاني المسار التفاوضي مع الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن إضافة إلى ألمانيا، كانت المنهجية التي حكمت المسار الانفتاحي على المجتمع الدولي غير محصورة في البعد أو الهدف النووي والأزمة الناشئة عن برنامجه ذي الطابع الغامض والمثير للقلق، بل كان المسار يهدف إلى إنجاز اتفاقيات دائمة تؤدي إلى علاقات وطيدة وطبيعية تعزز الثقة المتبادلة، رؤية لا تعتمد المرحلية أو الوقتية بل هي “نهج متصل”، بحسب تعريف الكاردينال ريشيليو لمفهوم الدبلوماسية، غير مستغرقة في الشعارات ومنحازة لمنطق الدولة والمؤسسات والمصالح العليا والسيادة، وإدارتها ببراغماتية مرنة من دون المساس بالبعد الأيديولوجي للنظام. لذلك كانت صدمته واضحة في ذلك التسريب الصوتي الإشكالي الذي مهد الطريق لما يشبه “الإعدام السياسي” له وإخراجه من دائرة الفعل والتأثير ووضعه على حافة المحاكمة بتهمة الخيانة. وهي صدمة نتجت عن نسيانه أو تناسيه قدرة السلطة السياسية المطلقة بتسخير الأجهزة البيروقراطية والعسكرية التي تضمن لها الاستمرارية والإمساك بالمسار السياسي والقرار الاستراتيجي منع أي جهة تحت سلطتها من استثمار أي منجز قد يشكل تهديداً كامناً لوحدانية القرار ومرجعيته، منعاً لأي تطور قد يؤدي لإحداث متغير في آلياتها، أو يفتح الأفق أمام بروز مراكز قوى إلى جانبها.
وعلى الرغم من أن ظريف وزير لخارجية الدولة الإيرانية ونظامها الإسلامي، فإنه لم يخرج عن قواعد اللعبة الدبلوماسية التي تحدد دوره في ترجمة السياسات العامة والكلية والاستراتيجية للنظام.
وعلى الرغم من المنجز الذي حققه في التفاوض حول الأزمة النووية ومعضلة العقوبات الاقتصادية التاريخية والمتراكمة على مدى أربعة عقود، واستطاع أن يحدث خرقاً في جدار الموقف الدولي الذي يمارس الحصار على إيران بما تعنيه من شعب ودولة ومؤسسات، فإن الخطأ الذي ارتكبه، أنه فكر بمنطق المصالح القومية والوطنية، واستبعد عن أدبياته- دون إلغاء- مفهوم الثورة التي تتمسك به السلطة وتعتبره مصدر شرعيتها في الاستمرار بالحكم، خصوصاً أن السلطة تضع ما تتعرض له من حصار وضغوط في إطار استهداف للثورة ومفاهيمها وقيمها وإبعادها، وما تصفه من تأثيرات هذه الثورة خارج حدودها الجغرافية بكل أشكال النفوذ سواء في الجماعات الموالية لها أو في القدرات العسكرية التي تضمن لها التفوق أو تحقيق التوازن في مواجهة ما تعتبره تهديداً لوجودها.
أن تعود مفاوضات فيينا بقيادة فريق جديد يعتبر الأقرب إلى رؤية السلطة والثورة بعد انقطاع دام أكثر من خسمة أشهر، للانطلاق من النقطة التي انتهت إليها مع فريق ظريف وبقيادته، يعني أن الأزمة مع ظريف وفريقه كشفت لهذه السلطة إمكانية الخروج من حالة التوتر والعزلة بأقل الأثمان، وتحقيق بعض المكتسبات، بقليل من الانفتاح والبراغماتية التي لا تتعارض مع منطق الثورة وتصب في خدمتها وخدمة أهدافها.
وإن المنجز الذي سيتحقق قد يتحول إلى مدخل لبروز مراكز قوى من داخل المنظومة الحاكمة قد تشكل بديلاً لكل ما هو دون موقع ومقام المرشد وصلاحياته المطلقة، لكنه يغلب علانية منطق الدولة وأهدافها ومصالح الشعب بما هو مصدر السلطات والشرعية. ما استدعى استنفاراً لقوى السلطة وبرضى قيادتها وسكوتها، واستعمال العنف السياسي والاقتصادي لمحاصرة هذا التهديد وضمان مصالحها واستمرارية قبضها على السلطة وإعادة الأمور إلى القنوات الشرعية التي وضعتها، وبالتالي الإمساك بالمسار التفاوضي لتكون قادرة أن تسجل إنجاز الاتفاق باسمها وتحويله إلى رصيد يدعم بقاءها على حساب الآخرين، إبعاد الخطر التغييري الكامن الذي بدأ يتمظهر في أدبيات وخطاب القوى السياسية غير الموالية، كون هذه السلطة هي الأقدر على تقديم النتازلات وتطويع الأسلحة التي استخدمتها في وجه منافسيها.
*نقلاً عن “اندبندنت عربية”