ما وراء تصريحات ظريف
سام منسى
يبقى الحدث الرئيس في المنطقة مرتبطاً بإيران وأنشطتها مباشرة أو مداورة. فقد شهد الأسبوع الفائت زيارة وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف إلى بغداد، حيث تحدث عن استعداد بلاده لحوار إقليمي، وعاد إلى الواجهة الإعلامية تكرار ظريف كلامه بشأن دور العسكر في رسم السياسة الإيرانية وتطبيقها، لا سيما دور «الحرس الثوري» في سياسة بلاده الخارجية، وذلك في تسجيل صوتي مسرب غير معد للنشر خلق بلبلة في إيران وخارجها. والعنوان الثالث والأخطر هو استمرار تصاعد التوتر بين إسرائيل وإيران جراء العمليات العسكرية المتبادلة وبأكثر من وسيلة.
اللافت في الحدث الأول هو تأكيد ظريف لنظيره العراقي الدعوة لحوار إقليمي على أساس حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية. والكلام «الظريف» من الوزير ظريف طالما رددته إيران، ويرسخ أخطر ثوابت السياسة الإيرانية المتدخلة في شؤون الإقليم عبر بيئاته المحلية، لتسوّق أنها قوى محلية فاعلة حليفة وليست أذرعاً تأتمر بأوامرها. وتلمح إيران عبر هذا الكلام لأنه لن يكون لديها دالة أو تأثير على حلفائها المحليين جراء تسويات أو اتفاقات قد تتوصل إليها مع الغرب والولايات المتحدة بخاصة، ما يجعلها قادرة على التملص من شرط ممارسة الضغوط عليهم وتركهم على غاربهم في بلدانهم بما يعيد الأمور إلى المربع الأول في الدول التي تعاني من ممارسات هذه الأذرع المسماة حلفاء. والحد الأقصى الذي يؤمل من الضغوط الإيرانية المتوخاة لأصابعها الخارجية هو تهدئة تخديرية مؤقتة ونسبية لأنشطتهم الأمنية والعسكرية، إنما تبقى الأمور على حالها باعتبارها شؤوناً محلية لا قدرة لإيران على التأثير فيها. ويعني ذلك هروب إيران من تناول جدي ومسؤول للملفات الإقليمية الشائكة في لبنان وسوريا والعراق واليمن.
العنوان الثاني هو تسريب التسجيل الصوتي لحديث ظريف بشأن دور قائد «فيلق القدس» قاسم سليماني الذي قتل بغارة أميركية في العراق في سياسة إيران الخارجية، وقد ناقض مضمون ما قاله في بغداد، إذ اعتبر أن بلاده «ضحت بالدبلوماسية لصالح الميدان العسكري» الذي يحكم. الثابت أن التسريب ليس بريئاً، لا سيما أنه يأتي مع انطلاق مفاوضات فيينا الهادفة لعودة واشنطن إلى الاتفاق النووي، وقبيل بدء حملات انتخابات الرئاسة المرتقبة بين أجنحة النظام. فما هي أهداف التسريب مع تأكيد الرئيس حسن روحاني أنه هدف إلى إثارة خلافات داخل المنظومة الحاكمة، وأدى بحسب المعلومات المنشورة إلى إقالات ومنع سفر لعدد من المسؤولين، وتوقيع النواب على مسوّدة قانون ينص على محاكمة الرئيس حسن روحاني وظريف؟
تقول صحيفة «الغارديان» البريطانية إن وراءه دولاً عربية أو إسرائيل، وذلك للتقليل من أهمية دور ظريف وحرقه في دلالة على إحكام المتشددين قبضتهم الحديدية على البلاد، واعتباره وأعوانه مجرد واجهة لا أكثر. وجيّر آخرون هذا التسريب لـ«الحرس الثوري» بغية التخلص من ظريف وجماعته ومقارباتهم للمفاوضات مع واشنطن. وبمعزل عن صحة المعلومات هذه أو عدمها، يبقى أن منظومة إيران نفسها عصية على الفهم، وليس سهلاً اعتبار أن ظريف ساذج ليقول ما قاله من دون توقع نتائجه في الداخل والخارج. ولا نستغرب أن تكون إيران وسياساتها قابلة لتغيير اللون أو الجلد وفق الحاجة والظروف المحيطة، وذلك جزء مما يوصف بـ«التقية»، وهي سمة إيرانية بامتياز.
ولا نحتاج لشرح أن طهران تستميت لإنجاح مفاوضات فيينا لرفع العقوبات، أو بعضها، وفك العزلة عنها بما يعطيها متنفساً اقتصادياً ومالياً هي بأمس الحاجة إليه. وتُعزز مواقف كمواقف ظريف فاعلية الوفد المفاوض وتدفع واشنطن أكثر للإسراع بالعودة إلى الاتفاق، ورفع ما يمكن رفعه من العقوبات المفروضة.
ومن الاحتمالات الواردة أيضاً ودائماً في إطار الغموض الذي يلف أدوار ومواقف السياسيين وصناع القرار في إيران، ألا تكون هذه التسريبات بعيدة عن الحملة الانتخابية. إنما يصعب فهم كيف ستصب نتائجها لصالح ظريف إذا تمكن من النجاح في مفاوضات مثمرة أم ضده، وتؤدي إلى خسارته وإقصائه عن الساحة. كما يمكن لإيران محاولة الإفادة من الكلام المنسوب لظريف بهدف حشر إسرائيل في هذا الوقت جراء ضغوط غربية عليها، بخاصة أميركية، لتفادي مواجهة واسعة في الإقليم.
ويقودنا ذلك إلى العنوان الثالث والأخطر، وهو ارتفاع حدة التوتر بين إسرائيل وإيران على أكثر من جبهة، من حادثة مفاعل نطنز وتوجيه أصابع الاتهام إلى إسرائيل، إلى حرب السفن المتصاعدة وسقوط صاروخ قرب مفاعل ديمونا، وآخرها تفجير السعودية لمركب مفخخ ومسيًر آلياً قرب ميناء ينبع.
لا شك أن إسرائيل وإيران كلتاهما متوترة ولأسباب مختلفة. التوتر الإسرائيلي مرده تدني منسوب ثقة رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بواشنطن جراء الخوف من العودة إلى الاتفاق السابق مع إيران بلا اعتبار لهواجس إسرائيل، لا سيما توسع انتشار الصواريخ الباليستية الإيرانية والصواريخ الدقيقة على حدودها وتمدد النفوذ الإيراني عبر الميليشيات الحليفة. لن تألو تل أبيب جهداً لتجنب عودة واشنطن إلى الاتفاق السابق ولو أدى ذلك إلى مزيد من التوتر مع إدارة جو بايدن ولن تتورع حتى إلى دفع واشنطن للتورط في نزاع إقليمي خطير. إنما المرجح ألا تقدم إدارة بايدن على ذلك في هذه المرحلة، لأن اهتماماتها منصبة على أكثر من ملف داخلي رئيس وخارجي خطير، أبرزها أولويات بايدن التشريعية، إضافة إلى هموم انتخابات الكونغرس المقبلة، التي قد تؤدي إلى خسارة الديمقراطيين للغالبية، وتالياً إعاقة سياسات بايدن في منتصف ولايته.
أما توتر طهران فطبيعته مختلفة لأنها تسعى للإفادة القصوى من عدم رغبة واشنطن الانزلاق إلى نزاع مسلح في المنطقة واستكمالها لسياسة الانسحاب منها، لدفعها أولاً باتجاه العودة إلى الاتفاق ورفع العقوبات، وثانياً لمواصلة توسيع نفوذها قدر ما تستطيع، ولو على حساب أمن دول الإقليم واستقرارها. هذه السياسة درجت عليها طهران منذ عقود ولم تردعها لا سياسة العقوبات القصوى التي انتهجها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، ولا القوة الناعمة والدبلوماسية والاتفاق النووي التي اختارها باراك أوباما، ويبدو أن الإدارة الحالية تميل إليها ولو بقدر كبير من الحذر والتردد.
من الصعب التكهن برد فعل واشنطن على كل ما يجري وما يسرب، لكن المتوقع ألا تخضع لضغوطات إسرائيل وإيران المختلفة والمتباينة، لا سيما أن البلدين مأزومان داخلياً؛ إيران جراء طوق العقوبات وتفشي داء «كورونا» وتنامي التململ الداخلي من النظام إلى حد النقمة، ومواجهة انتخابات مهما كانت شكلية وممسوكة من المتشددين، تبقى لها تداعيات جانبية لا يجوز إغفالها.
أما إسرائيل، وبخاصة نتنياهو، الذي يبدو على مشارف الخروج من الحياة السياسية أيضاً، فهي مأزومة جراء التشرذم السياسي في الداخل مضافاً إلى قلق لا يخفى من التغيير في المزاج السياسي الأميركي بخاصة والغربي بعامة تجاه سياسات اليمين الإسرائيلي المسيطر منذ أكثر من عقد.
يبقى الترقب سيد الموقف طالما أن مناخ التأزم والتوتر السائد لدى قوتين إقليميتين فاعلتين ومتسرعتين لا يبشر بالاستقرار، والقوى الكبرى والقادرة منشغلة بهمومها الداخلية وبإدارة النزاعات فيما بينها على حساب شعوب المنطقة واستقرارها.
نقلا عن الشرق الأوسط