ما وراء الرعاية الإيرانية للإرهاب السنّي؟
يوسف الديني
الأحداث والتحوّلات سريعة في عالم اليوم من حيث تأثيرها وإيقاعها السريع الذي يأتي بعد خيبة الظنّ التي يعيشها العالم اليوم من توقّعات سريعة وحاسمة في ملف التعافي من جائحة «كورونا»، إلا أن جوائح السياسة أيضاً لا تقل في ضراوتها ومفاجآتها؛ من انبعاث الإرهاب مجدداً ونشاط التنظيمات المسلحة بدءاً من عودة «داعش» في العراق إلى محاولات «الحشد الشعبي» قبلها وبعدها، وصولاً إلى تفعيل طهران لذراعها النشطة في اليمن وقيام ميليشيا الحوثي بمحاولات عابثة لاستهداف أمن السعودية والخليج، وبالأمس انفجارات ضخمة تعلن عودة تنظيم «القاعدة» من خلال وكلائه في الصومال؛ «تنظيم الشباب» الذي قام بتفجير سيارة مفخخة وتبادل إطلاق النيران مع قوات الأمن.
بعيداً عن حوادث الإرهاب التي أشعلت نيرانها خلال الأيام الماضية، فإن التحول الأكبر تجلّى في ولادة سوق سياسية سوداء ضخمة لرعاية التطرف وإلغاء الحاجز الآيديولوجي والمذهبي، حيث لا لون ولا عقيدة للإرهاب غير الدم، وذلك بعد أن قرر جناح الصقور في إيران تحويل مسألة الانتقام لتصفية قاسم سليماني من شعارات إلى عمل مؤسسي على وقع ما يعتقدونه انفراجة في التجاذب مع الولايات المتحدة ما بعد بايدن، وصولاً إلى الخبر اللافت الذي نقلته وكالات الأنباء، ومنها «رويترز»، عن استضافة طهران لزعيم «طالبان» الأفغانية في إيران بعد تعثر مفاوضات السلام مع الحكومة الشرعية الأفغانية المدعومة من الولايات المتحدة وتوقف المفاوضات في الدوحة، وبحسب وصف «رويترز»، فإن إيران الشيعية التي لطالما كانت عدواً شرساً لحركة «طالبان» السنّية هي اليوم في ضيافتها، وهو ما يعكس تحوّلاً كبيراً في معادلة الإرهاب والتنظيمات المسلحة والخروج من الأجندات السريّة إلى العلن، ضاربة بكل الاشتراطات والمسلّمات الآيديولوجية والعقائدية عرض الحائط الانتهازي، بالطبع «طالبان» تقامر خصوصاً على مستوى قواعدها الشعبية لدى المتعاطفين مع التنظيمات الإرهابية والمؤيدين لآيديولوجيتها الفكرية، وفي المقابل يضيف ملالي طهران إلى كنف رعايتهم للإرهاب فصيلاً جديداً ومؤثراً، بعد أن خاضت تجربة رعاية تنظيمات سنيّة مسلحة في فلسطين وتأييداً لتيارات الإسلام السياسي، الذي خرج من المشهد السياسي ليدخل مرحلة الكمون وإعادة ترتيب الصفوف في مقاعد الآيديولوجيا وأروقة العمل السرّي والهجرات الجماعية، ومن هنا سيكون التحدّي الأمني كبيراً على دول المنطقة بشكل عام والخليج والسعودية، خصوصاً في المرحلة المقبلة، حيث سنشهد في اعتقادي أضخم حركة وكالة ورعاية في السوق السوداء للسياسة والعنف والإرهاب، خصوصاً مع تلاشي الرافعة الآيديولوجية والفكرية ودخول لاعبين جدد وإدارة أميركية بشعارات انتخابية جاذبة وأجندات تصالحية.
والحال أنه منذ صعود نجم الإرهاب بشعارات دينية ودوافع سياسية في منتصف السبعينات وهو يفرز أنواعاً معقدة وجديدة من الطرائق والاستراتيجيات مستفيداً من التطور الهائل الذي يعيشه العالم، وغير مكترث للحرب عليه، لأنه في النهاية يستهدف الكوادر العنفية ويستثمر في تناقضات وتحوّلات عالم السياسة، ليطل برأسه مجدداً من دون أن يمسّ المداميك الصلبة للجانب العقائدي لديه. ما يحدث اليوم تحوّل على مستوى هويّة المقولة العنفية والفكرة الإرهابية وتحررّها من قواعد اللعبة الداخلية وشعارت التجنيد والاصطفاف، وأسهم في ذلك أيضاً تحوّلات في الفضاء الديني العام وتبعات انقلاب الإسلام السياسي على المرجعيات التقليدية التي كعادة التحوّلات الفكرية والاجتماعية لا تظهر آثارها إلا بعد فترة من الزمن لا تتلاءم والأحداث السريعة وإيقاعها الذي يعيق كثيراً من الأصوات المستعجلة واليقينية في إعلان موت ظاهرة أو الانتصار عليها، اليوم لا يمكن تفسير دينامية الإرهاب عبر حصره في التطرف الفكري الديني فحسب، بل يجب أيضاً قراءة ظاهرة الانزياح نحو الفناء الخلفي للسياسة والاستخبارات والمشاريع التي تقودها دول لرعاية الإرهاب والاستثمار فيها لصالح أجنداتها. التطرف الفكري اليوم في وضعية الإرهاب العابر للدول والأفكار والمذاهب لم يكن سوى أحد المفاتيح من جملة عشرات لفهم هذه الظاهرة المتنامية والمعقدة والمتحوّرة إذا ما شئنا الاقتباس من ثقافة «كورونا» في الشيوع.
الحرب على الإرهاب هي حرب وجود وعدم لا يمكن تأطيرها بإطار زمني. العالم اليوم وهو يحاول التعافي من وقع الجوائح الكبرى قد يغفل عن ظاهرة انبعاث الإرهاب، لا سيما مع مؤشرات غير إيجابية وارتباك ظاهر للعيان بات مقلقاً، ليس لحلفاء الولايات المتحدة بل للأصوات العاقلة في الداخل الأميركي الذين يأملون أن يعقلن مجلس الشيوخ تلك النزعات الانتقامية من مرحلة ترمب.
الأكيد أن الخطابات المتطرفة والتنظيمات الإرهابية اليوم تنتقل إلى نموذج العولمة في وقت تنكفئ الدول فيه ما بعد «كورونا» على الذات وتحاول أن تنبعث بشكل جماعي وتبحث عن رعاة ووكلاء حتى مع التمايز العقائدي أو التباين الفكري، كما أن حواضن التطرف والإرهاب الاجتماعية باتت في مناطق غير متوقعة بعد أن أخذ الخليج بشجاعة، وفي مقدمته السعودية، قرار القطيعة مع الأفكار قبل التنظيمات وبشكل حاسم، نجد اليوم أصوات التطرف ومجتمعاته في أزقة وشوارع الغرب وضواحيه أكثر من البلدان العربية والإسلامية، وفي معسكرات الإنترنت الافتراضية ومنصات العالم الموازي بشكل يتجاوز في قدرته التخريبية وتطوره وتكيّفه مع الملاحقة الأمنية كل التوقعات.
نجاح ملالي طهران في تصدير ثورتهم وضبطها وبراغماتية بعض القوى الغربية في التعامل مع ذلك لأسباب اقتصادية، ينضاف إليه اليوم استثمارات هائلة في الإرهاب السنّي والتنظيمات المسلحة، تريد إيران اليوم تقديم نفسها مع حلفائها وأذرعها السياسية في المنطقة ككتلة واحدة كبيرة قابلة للتفاوض؛ تم ذلك برافعة طائفية عبر تصدير التشيع السياسي سابقاً، واليوم تريد تكريسه من خلال مشروع تحشيدي انتهازي وتحالف هجين مع التنظيمات السنّية في نظري يمكن أن يرتد بشكل كارثي على المنطقة، لكنه يعزز في شقه الإيجابي مسألة انكشاف للفكر المتطرف وشعاراته وأوهامه التي تضمر مشاريع انقلابية فحسب.
ما يقوله الإرهاب اليوم بوضوح هو أنه بلا لون أو جنسية أو دين أو مذهب أو عقيدة أو أرض، وما تصدح به كل عملية إرهابية تكلف الأرواح والدماء وتضرب بفوضاها أي جزء من العالم، هو ترسيخ الاعتقاد بأن التطرف والعنف حالة مستقرة تتسم بالديمومة تترقب مسبباتها لتنفجر مجدداً وليست مجرد احتقان أو موجة عابرة… تختلف المرجعيات وتتباين الدوافع، لكن يظل المحرك والخطاب النظري متشابهاً، حيث التعصب وإرادة التدمير والهيمنة لا دين له ولا مذهب.
نقلا عن الشرق الأوسط