لبنان في “العصر الحجري”
طوني فرنسيس
كان المبعوث الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان منشغلاً بتوزيع استمارات استطلاع رأي على الكتل النيابية اللبنانية لمعرفة توجهاتها في شأن حلول الأزمات اللبنانية ومواصفات رئيس الجمهورية المنتظر، عندما تصاعدت التهديدات بين إسرائيل و”حزب الله” وعلت نبرة الوعيد بالدمار الشامل وإعادة لبنان وإسرائيل إلى العصر الحجري.
وليس تبادل الخطابات النارية جديداً على الطرفين فقد بات ضرورياً لكليهما تفرضه في هذه الآونة خصوصاً، الظروف الداخلية لكل منهما، في إسرائيل انقسام عميق يجد متنفساً له في إعلاء لغة الحرب ضد التهديد الخارجي، وفي لبنان أزمات يتحمل “حزب الله” جزءاً أساسياً من المسؤولية عن تفاقمها، فيلجأ إلى خطاب الحرب هروباً واختباء منها وتبريراً لوجوده كتنظيم مسلح خارج الدولة.
منذ أكثر من عقد تهدد إسرائيل في معرض ردودها على خطابات الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله بتدمير لبنان شعباً وأرضاً فوق رأس هذا الحزب، وولدت “لازمة” إعادة لبنان إلى “العصر الحجري” ضمن هذه الردود، وافتتح الوزير الإسرائيلي يسرائيل كاتس (مواليد 1955/ ليكود) حملة “العصر الحجري” في تصريح عام 2014 وعد فيه بجعل نصرالله “تحت الحجارة”، ثم انتظر أربع سنوات ليكرر القول ذاته، وكان نصرالله حذر في نوفمبر (تشرين الثاني) 2014 بقصف موانئ إسرائيل ومطاراتها، فرد عليه كاتس قائلاً “من الأجدر أن يعلم نصرالله المتبجح الذي يتحدث من مخبئه بأن خياراً كهذا غير وارد، فإذا نفذ هذا السيناريو فإن إسرائيل ستدمر لبنان… وستعيده إلى العصر الحجري”.
ويكرر كاتس تهديده حرفياً في فبراير (شباط) 2018، فيقول إنه في حال اندلاع مواجهة عسكرية “سيعود لبنان أعواماً كثيرة إلى الوراء. هناك من يقول إنه سيعود للعصر الحجري ومن يقول إنه سيعود لعصر الكهوف”، ويشرح من موقعه كوزير للمواصلات أنه “لن يكون أي هدف في لبنان محصناً، وسنمس البنى التحتية كافة التي يستخدمها حزب الله”.
أقوال كاتس سيتبناها زميله في “الليكود” وزير الأمن يوآف غالانت (مواليد 1958).
كان غالانت نائب رئيس الأركان السابق، وزيراً للبناء عام 2017 عندما أعلن في سبتمبر (أيلول) أن “لبنان سيعود للعصر الحجري في حال بادر حزب الله بالحرب”، وبعد خمس سنوات كرر غالانت في أغسطس (آب) 2023 بصفته وزيراً للأمن يتفقد الجبهة الشمالية، تحذيره لنصرالله وحزبه من أنه “في حال ارتكاب أي خطأ… سنعيد لبنان إلى العصر الحجري”.
جاء هذا التصريح في صيف المنطقة الحار ليوقد نار نصرالله فيردّ بالمثل قائلاً “إذا اختارت إسرائيل الحرب سنعيدها إلى العصر الحجري. نحن من سيعيدها إلى العصر الحجري… وإذا تطورت المعركة إلى حرب مع محور المقاومة لن يبق شيء اسمه إسرائيل”.
في الواقع، وعلى رغم الخطابات والتصريحات النارية المتبادلة، فإن هدوءاً فعلياً ساد ويسود المنطقة على جانبي الحدود منذ حرب صيف 2006 التي اعترف أمين عام “حزب الله” بخطئه في شأنها قائلاً “لو كنت أعلم”، على رغم أنه يواظب على الاحتفال بها بوصفها انتصاراً تاريخياً. لقد خرقت تلك الحرب سلاماً حذراً ساد المنطقة إثر الانسحاب الإسرائيلي من لبنان عام 2000، لكنها أثمرت وقائع جديدة أبرز ما فيها صدور قرار مجلس الأمن 1701 الذي فرض انتشار الجيش اللبناني للمرة الأولى منذ اندلاع الحروب الداخلية في الجنوب اللبناني وإلى جانبه قوات دولية معززة تابعة إلى الأمم المتحدة.
يخطر في البال سؤال لدى سماع التهديدات المتكررة عن دفع بلاد مسافة طويلة إلى الوراء وصولاً إلى العصر الحجري، عن أي عصر يتحدث سادة الخطابات؟.
هناك عصران حجريان، القديم والحديث، ففي العصر الحديث قبل نحو 15 ألف سنة، نشطت الزراعة وصناعة الأواني الفخارية في الإقليم نفسه (فلسطين ولبنان وبلاد الشام)، المهدد اليوم بإعادته قسراً إلى الزراعات البدائية وطبخ الفخار أباريق وجراراً وكان لبنان البلد الأول الذي يدفع منذ عقود ثمن التهديد.
لم تكن هذه البلاد لتصل إلى “جهنم” (العصر الحجري مجازاً) كما بشّر يوماً رئيسها السابق ميشال عون لولا استفراد طرف خارجي أو داخلي يرتبط بالخارج بقرار التصرف بأرضها ومصير شعبها. والحقيقة أن الرحلة إلى العصر الحجري بدأت منذ تكريس لبنان ساحة مفتوحة للعمل العسكري الفلسطيني عام 1969، تحولت إلى أرض معارك بين إسرائيل والفلسطينيين لتتحول بسرعة حرباً أهلية لبنانية، قبل أن ينتهي الحضور الفلسطيني المسلح في ضربة إسرائيلية قاسية عام 1982.
كان النظام السوري يقتسم السيطرة على لبنان طويلاً مع إسرائيل إلى جانب “منظمة التحرير” الفلسطينية، وحرص بعد اتفاق الطائف على إبقاء “حزب الله” ميليشيات مسلحة لمقاومة إسرائيل، فيما أنهى كل الميليشيات الأخرى ومنها من كان مقاوماً للاحتلال الإسرائيلي قبل مجيء الحرس “الثوري الإيراني” لإنشاء “حزب الله” بالاتفاق مع الأجهزة السورية.
وورث “حزب الله” سوريا و”منظمة التحرير” في الهيمنة على لبنان وفي وجهة استعماله، لكنه لم يرث خبرة النظام السوري في إدارة بلد متنوع، ومثلما برّر الفلسطينيون وجودهم المسلح و”مقاومتهم” لإسرائيل انطلاقاً من لبنان بـ”اتفاق القاهرة” بينهم والحكومة اللبنانية وهو الاتفاق الذي جرى فرضه في ظروف انقسام داخلي ورغبة عربية مثلها الرئيس جمال عبدالناصر في جعل الفلسطينيين يلعبون دوراً بعد هزيمة 1967 فطردوا من الأردن وسوريا وحلّوا في لبنان، يبرر “حزب الله” اليوم تمسكه بسلاحه وبـ”جيشه” بالزعم أن اتفاق الطائف وبيانات الحكومات اللبنانية المتعاقبة يقرّان بالحق في المقاومة وبثلاثية “الجيش والشعب والمقاومة”. لكن لا اتفاق الطائف يعطي شرعية حمل السلاح لهذا الحزب تحديداً، ولا الثلاثية الشهيرة المذكورة في بيانات الحكومات ولدت في ظروف طبيعية، فلقد تعرض اللبنانيون للقمع والإرهاب واغتيلت قياداتهم قبل أن “يقتنعوا” بتلك “الصيغة الذهبية” التي لا تسمح لنصرالله بالتأكيد إعلان الحرب وشنها في سوريا واليمن وفلسطين وغيرها.
كان لبنان بلداً مزدهراً متقدماً وواعداً قبل التجربتين الفلسطينية و”الإيرانية” ممثلة بدُرّة “التاج” على وصف القيادة الإيرانية لـ”حزب الله”، وفي وقت كان يفترض أن يستعيد مسيرة نهوضه مُنع من ذلك في حروب لا تنتهي أنجبت فئات من قيادات تنبت في الفوضى وتجارة الاقتتال، وحلت مصلحة الهيمنة الإيرانية في المقدمة بعد انتهاء الهيمنة السورية، وبالتعاون مع سياسيين فاسدين دخل البلد في العصر الحجري من دون حروب هذه المرة.
لا “حزب الله” ولا إسرائيل يريدان حرباً، فهذا ما يقولانه في خطاباتهما، فما الهدف إذاً إذا كان “حزب الله” مكتفياً بالدفاع عن لبنان وإسرائيل لا تريد شيئاً منه؟ يكرر نصرالله وعيده بالصواريخ إذا شن “العدو الصهيوني” الحرب، فيرد العدو محذراً، “لو فعلتها سأدمر لبنان!”.
في الأثناء، تجري مياه كثيرة تحت الجسور، اتفاق لترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل يرعاه “حزب الله”، تليه بداية بحث بتثبيت الحدود البرية واستعانة بالمبعوث الرئاسي الفرنسي لودريان لتهدئة الخواطر على جانبي الخط الأزرق بعد لجوء مماثل إلى رجل الترسيم البحري آموس هوكشتاين لاستكمال مهمته في تثبيت حدود البر.
في هذا المناخ، تصبح التهديدات المتبادلة حاجة مشتركة ضمن حدود ما، في إسرائيل تستعمل لإبقاء مناخ التعبئة والتغطية على الصراعات الداخلية وسياسة حكومة بنيامين نتنياهو في محاصرة القضاء والهروب من المساءلة في قضايا الفساد، وفي لبنان لإبقاء “حزب الله” ميليشيات مسلحة قادرة على ممارسة مزيد من الضغوط على الوضع الداخلي والتقدم خطوة خطوة نحو مشروعها الأصلي في ابتلاع الدولة.
هذه هي معضلة لبنان اليوم والفراغ الرئاسي والحكومي أحد مظاهرها، وفي شهر العودة للعصر الحجري يفترض بلودريان ومجموعة الدول الخمس، وهي تعرف ذلك، الانتقال بسرعة إلى وضع الإصبع على الجرح ومعالجة وضع الدولة والدويلة، كي يتمكن لبنان من وضع رجله على سُلّم التعافي والخروج نهائياً من حال العصر الحجري التي يعيشها منذ فقد سيادته على أرضه.