مقالات

كل دروب العملية السياسية في العراق تؤدي إلى طهران

 

فاروق يوسف

كل آمال التغيير تبخرت بعدما أكد الأطراف كلهم أنهم معنيون بالدفاع عن النظام السياسي القائم، بمن فيهم دعاة بناء الدولة الوطنية التي لن تقوم إلا من خلال إنهاء الهيمنة الإيرانية التي تمثلها أحزاب الأغلبية السياسية الشيعية التي سعى الناخبون العراقيون إلى إخراجها من العملية السياسية.

لقد تبيّن عملياً أن التخلي عن بنية النظام السياسي القائم على المحاصصة الطائفية هو اعتراف بفشل العملية السياسية برمتها. وهو ما يعني العودة إلى الوراء عشرين سنة ومحاكمة كل رموز السياسة الذين لوثوا سمعة العراق بالفساد وأدت سياساتهم إلى أن يسقط ثلث سكانه تحت خط الفقر في وقت تعلن حكومته عن نحو سبعين مليار دولار فائضاً في مصارفها. تلك العودة لن تكون ممكنة في ظل وجود ميليشيات، كان الهدف من تأسيسها حماية النظام الملحق بإيران وإن طفت على السطح تصريحات تؤكد عكس ذلك.

وبغض النظر عن الطابع الاستعراضي الذي يتميز به ظهور ممثلي التيار الصدري في مجلس النواب وهم يرتدون الأكفان كما لو أنهم ذاهبون إلى معركة مصيرية سيكون مقتلهم فيها حدثاً يفخرون به، فإن ما جرى من مفاوضات طويلة النفس، سواء داخل البيت الشيعي المنقسم على نفسه أم مع الحزبين اللذين يمثلان الأكراد والعرب السنّة (وهو مصطلح مستعار من اللغة السياسية العراقية) من أجل الوصول إلى صيغة مقبولة لإخراج العملية السياسية من قعر القارورة، قد اتسمت بالحذر ورغبة الجميع في أن لا تذهب الأمور في اتجاه القطيعة النهائية التي تستدعي تدخلاً إيرانياً مباشراً كما كان يجري أيام قاسم سليماني الذي كان يتدخل في الأوقات العصيبة إما لمنع صدام شيعي – شيعي أو لفرض املاءات إيرانية لم تكن تحظى بالإجماع لدى الأحزاب الشيعية.

يومها كان سليماني شخصياً يملك القدرة على فرض ما لن يتمكن قآني من فرضه في الظروف الحالية، لكن ذلك ليس معناه أن إيران قد فقدت هيبتها لدى ذلك الطرف الشيعي أو ذاك. وهنا يخرج مفهوم الهيبة عن طابعه العقائدي التقليدي ليتخذ صورة القرار السياسي المدعوم باشتباك المصالح الاقتصادية بين الطرفين الإيراني والعراقي في دولة تقوم السلطة فيها على إدارة الصفقات المالية الكبرى التي تشكل اقتصاداً مجاوراً لا يمر بالموازنة إلا من أجل اكتساب نوع من الشرعية التي تضفي على غسيل الأموال طابعاً قانونياً. وهو ما ينطبق على قرار رئيس الوزراء المنتهية ولايته مصطفى الكاظمي فتح باب الاستيراد على مصراعيه.

تملك إيران موقع الدولة ذات الأفضلية بالنسبة الى التعاملات الاقتصادية. فإضافة إلى اختراق إيران للسوق العراقية واحتكارها فإنها تدير السوق المجاورة الخاصة بشراء العملات وتهريبها خارج الحدود سواء إلى مصارفها أم إلى المصارف اللبنانية التابعة لـ”حزب الله”.

بناء على كل تلك الاعتبارات، لا يمكن لأحد أن يفكر بإزعاج إيران. لا الصدر ولا سواه من أركان النظام السياسي الذي يجب أن يبقى متماسكاً بغض النظر عن الخلافات البينية التي تنشأ داخل البيت الشيعي المنهار أو بين الزعماء الأكراد أو السنّة. فالعملية السياسة التي تُدار من خلف حُجب لا يمكن أن تكون مستقرة من غير حماية إيرانية.

تلك المهمة التي أنيطت بـ”الحشد الشعبي” وهو فصيل مسلح تابع لـ”الحرس الثوري” الإيراني.

مَن يفكر بإزعاج إيران عليه أن يغادر العملية السياسية برمتها. ذلك ما جرى للكثيرين الذين اختفت أسماؤهم ونسيهم الناس فيما كانوا من رواد التطبيع مع الاحتلال والتبشير بنعمه والثناء على بركاته. لقد ارتكبوا خطأ كبيراً حين اعتقدوا أن الاحتلال كان عملية أميركية خالصة ويمكن القفز على إيران والتعامل مباشرة مع الولايات المتحدة. لقد باءت محاولاتهم بالفشل لأن الولايات المتحدة نفسها قد اعتبرت إيران شريكاً لها في الاحتلال.

بعد هذه المعلومة يمكن النظر إلى كل التيارات السياسية التي ظلت قائمة بتوجس وبقدر لافت من الريبة باعتبار أن البعض منها والذي كان يظهر كما لو أنه يسعى إلى الإعلان عن وطنيته رافعاً شعار “العراق أولاً”، كان في الوقت نفسه يحمل العصا من الوسط. فإن كان الحديث عن الاحتلال الأميركي مسموحاً به فإن الحديث عن احتلال إيراني هو من المحرمات التي يمتزج من خلالها الديني بالسياسي بطريقة تجعل من الحفاظ على النظام باعتباره الصيغة المثلى لوضع المذهب في مكانه القيادي في السلطة. بمعنى أن وجود الأحزاب الشيعية في أعلى مراتب السلطة ما كان من الممكن الحفاظ على استقراره لولا الحماية الإيرانية التي هي بالنسبة للطائفيين من الشيعة تعبير عن الخوف على المذهب. وهي كذبة تم العمل على استثمارها بعد الاحتلال الأميركي رغم أن شيعة العراق لم يتعرضوا للتمييز منذ تأسيس الدولة العراقية في عشرينات القرن الماضي إلى أن تم إسقاط الدولة الوطنية عام 2003. تلك كذبة صارت بمثابة حقيقة، عملت الأحزاب الشيعية على ترسيخها. لقد كان هناك من الشيعة قياديون في حزب “البعث” والسلطة معاً.

نقلاً عن “النهار”

موضوعات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى