كردستان وتحديات الأمن والازدهار
كفاح محمود
يدرك العراقيون من البصرة حتى الموصل، أن إقليم كُردستان منذ استقلاله الذاتي بعد انتفاضة ربيع 1991، وصدور قرار مجلس الأمن الدولي 688 باعتبار تلك المنطقة ملاذاً آمناً للسكان ومحميةً بموجب قرار مجلس الأمن، لم تكن ملاذاً للكردستانيين فحسب، ونجحت إدارتها التي انبثقت إثر إجراء أول انتخابات حرة وعامة في 1992، التي رفضتها بداية معظم دول الإقليم المحيطة بها، بل حتى بعض الدول الصديقة، ورغم ذلك أصرت على إجرائها، مما دفع الجميع، بما فيهم المعترضون والمتخوفون، إلى إرسال مراقبين عبر المنظمات الخاصة بحقوق الإنسان الدولية والصحافيين ومراقبين من مختلف دول العالم. وقد كانت مبهرةً العمليةُ الانتخابيةُ وتنظيمها والأعداد الهائلة من المشاركين دونما أي مشكلات أو مناكفات، ناهيك عن شفافيتها التي أعطت المعترضين عليها فرصة لإعادة النظر في تقييمها، خصوصاً بعيد ظهور النتائج، وكيفية التعامل معها، حيث استطاعت قيادات الفعاليات السياسية، في مقدمتها الزعيمان برزاني وطالباني استثمار تلك النتائج في إعلان أول برلمان كردي منتخب نجح في تشكيل أول حكومة كردستانية في تاريخ المنطقة.
هذا النجاح حوّل الإقليم إلى ملاذ آمن، ليس للكرد فقط، بل أصبح ملجأ وملاذاً لكل العراقيين، في مقدمتهم معارضو نظام الرئيس صدام حسين بكل مشاربهم وتوجهاتهم، هذا الملاذ أقلق في البداية إيران وتركيا، وكان ذلك القلق بالنسبة لقيادة الإقليم أول تحدٍ تواجهه رغم الحصار المزدوج الذي فرضه نظام الرئيس السابق صدام حسين والأمم المتحدة على الإقليم، مما دفع السياسيين الكرد إلى الإسراع في إتمام تشكيلات مؤسساتهم والعمل الجاد على تعويض المواطنين رواتبهم التي قطعتها بغداد وإعادة الحياة إلى عجلة الاقتصاد في أسواق الإقليم، وذلك بفتح الأبواب للشركات والبضائع التركية والإيرانية في محاولة ذات بعدين؛ الأول إزالة التخوف من الإقليم، والثاني تنشيط حركة التصدير والاستيراد بين الإقليم وبينهما، وعبر الإقليم بين العراق وكل من تركيا وإيران، خصوصاً في نقل النفط العراقي بقوافل من الشاحنات خارج ضوابط الحصار المفروض على تصديره، وبهذين العاملين نجحت حكومة الإقليم في تجاوز الأزمة الخانقة التي كانت تهدد كيانه من جهة، ومن جهة أخرى أقنعت الدولتين بكيانها الإيجابي الذي لا يشكل أي خطر على أمنها القومي وسيادتها، خصوصاً وهي تعاني من إشكاليات تعدد المكونات.
ورغم أن الإقليم تجاوز أزمته الاقتصادية نوعاً ما ونجح في تكريس علاقات جيدة مع جارتيه، إلا أنه واجه تحدياً أكثر خطورة، وذلك في الصراع الذي انفجر بين الحزبين الرئيسيين «الديمقراطي» و«الاتحاد» بين عامي 1993 و1997، الذي تحول إلى اقتتال داخلي عنيف لعدة سنوات كاد أن يقسم الإقليم إلى قسمين، كما أدى إلى تدخل كل من إيران وحكومة صدام حسين بشكل مباشر في الصراع، مما دفع الولايات المتحدة إلى التدخل السريع في تقريب الطرفين من بعضهما البعض، وإنهاء الصراع العسكري، وتوقيع اتفاقية واشنطن التي أنهت ذلك الاقتتال، وهيأت لمرحلة جديدة وتحالف استراتيجي بينهما يقوم على أساس حكومة موحدة يتقاسم فيها الحزبان إدارة الإقليم على كل المستويات.
لقد تخلى الكرد عن امتيازاتهم في الاستقلال الذاتي منذ 1992 حتى احتلال العراق وإسقاط نظام الرئيس صدام حسين في 2003 وسارعوا إلى بغداد لوضع أسس الدولة الجديدة على ركام دولة منهارة في كل الميادين، مع المعارضة العراقية، أبرزها من الإسلام السياسي الشيعي، التي نجحت خلال سنتين في بلورة تحالف سياسي ضم معظم القوى الشيعية مقابل تحالف كردستاني ضم هو الآخر كافة القوى الكردستانية في كتلة واحدة، بينما فشلت القوى السنية في لملمة قواها في جبهة قوية موحدة بعد أن رفض معظمها المشاركة في أول انتخابات حرة يجريها العراق بعد 2003 لتأسيس برلمان وحكومة وطنية عراقية، رغم إلحاح القوى الكردستانية، خصوصاً «الحزب الديمقراطي الكردستاني» بزعامة مسعود بارزاني الذي دعاهم في عدة اجتماعات ومؤتمرات عقدت في أربيل إلى المشاركة الفعالة، وعلى أن لا يخطئوا كالشيعة في بداية تأسيس مملكة العراق بعدم المشاركة مطلع عشرينات القرن الماضي ويخسروا الحكم طيلة ثمانية عقود، ورغم كل تلك الدعوات كانت مشاركتهم ضعيفة ومقاطعتهم هي الأوسع مما منح القوى الشيعية مساحة أكبر لتكثيف السلطتين التنفيذية والتشريعية بيديها.
لقد نجحت مبادرات البارزاني في إقناع المكون السني بالمشاركة في الحكم وسلطاته، وتم الاتفاق على صيغة ديمقراطية توافقية تم فيها توزيع المناصب والسلطات بين المكونات الرئيسية الثلاث وإعلان أول حكومة عراقية شرعية دستورية بعد 2003 مع تضخم كبير في الواردات النفطية التي منحت الإقليم استحقاقاته من الموازنة، حيث أقر الدستور العراقي اعترافه بفيدرالية كردستان بكافة مؤسساتها وقوانينها كإقليم يتمتع باستقلال ذاتي ضمن نظام ديمقراطي اتحادي تعددي، مما أتاح للإقليم فرصة ذهبية لإعادة إعماره وبنائه بعد سنوات مريرة من الحصار والحرمان، وهذا ما حصل فعلاً، فخلال سنوات قليلة تحول الإقليم إلى منطقة ذات جذب استثماري دولي ومحلي كبيرين مع تشريع قانون عصري للاستثمار شجع مئات الشركات الإقليمية والدولية على الاستثمار الهائل في مدن الإقليم وعاصمته التي غدت خلال أقل من عقد من أبرز مدن الشرق الأوسط وإلى واحة وملاذ لكل العراقيين وغيرهم.
وخلال أقل من عقد قفز الإقليم قفزة نوعية في الازدهار والتقدم وعلى كافة المستويات الاجتماعية والتربوية والاقتصادية والخدمات، قابل ذلك تقهقر مريب في الخدمات والإعمار خارج الإقليم، وبدأت من هنا الإشكاليات نتيجة للضغوط الشعبية التي كانت تتعرض لها القوى السياسية الشيعية المهيمنة على بقية محافظات البلاد، التي فشلت في اللحاق بمسيرة الإعمار في الإقليم، مما دفع تلك القوى لإثارة المشكلات والإبطاء في تطبيق مواد الدستور، خصوصاً المجلس الاتحادي، وهو القسم الثاني من البرلمان، ناهيك عن عدم تطبيق المادة 140 الخاصة بالمناطق المتنازع عليها وجعلها حجرة عثرة أمام الإقليم، كما أنها رفضت تشريع قانون النفط والغاز وتعطيل أكثر من خمسين مادة دستورية تتقاطع مع توجهات تلك القوى المهيمنة، حتى وصل الصراع الخفي إلى ذروته مع غزوة «داعش»، واحتلال المحافظات الغربية، والهجوم على إقليم كردستان الذي فرض عليه حكومة بغداد الحصار المالي وحرمته بالكامل من حصته السنوية في الموازنة لخمس سنوات متتالية، والبالغة أكثر من 44 مليار دولار، مما دفع الإقليم إلى البدء بتصدير النفط عام 2014 لتغطية نفقاته في الحرب وإدامة عجلة الحياة لشعبه.
كان ملف النفط التحدي الأكبر أمام حكومة وشعب كردستان وواحداً من أهم الإشكاليات مع الحكومة المركزية في بغداد، ورغم كل المفاوضات والعديد من الاتفاقيات التي وقعت مع كل الحكومات المتتالية بقيت تلك المشكلة وحتى يومنا هذا التحدي الكبير بسبب إصرار تلك الطبقة على إيقاف عجلة التقدم في الإقليم، لأن ذلك سيخفف الضغط الشعبي على تلك الطبقة وأذرعها السياسية، علماً بأن استثمار النفط في الإقليم جاء بعد تشريع قانون للنفط والغاز في الإقليم من قبل برلمانه، إلا أن المحكمة الاتحادية الواقعة تحت ضغوط سياسية أصدرت جملة من القرارات ألغت فيها ذلك القانون رغم أنه جاء متوافقاً مع الدستور العراقي الدائم، ولم تكتف تلك الطبقة السياسية بذلك بل قطعت مرتبات الموظفين ولا تزال ولعدة سنوات، ورفعت دعاوى للمحاكم الدولية ضد تركيا في محاولة لإيقاف تصدير نفط كردستان عبر أراضيها وفعلاً نجحت في ذلك، وتم إيقاف تصدير النفط الكردستاني منذ مارس (آذار) 2023 وحتى يومنا هذا مما تسبب في خسارة العراق أكثر من 7 مليارات دولار.
وللحديث بقية…
نقلا عن الشرق الأوسط