
عملية مسقط نهاية… وبداية جديدة!
إيران خاضت معارك الانتصار الشكلي إلى الآخر لكنها رضخت إلى جدول الأعمال الأميركي
طوني فرنسيس
“مباشرة أو غير مباشرة، في غرفة واحدة أو في غرفتين”. تحت هذا العنوان قادت إيران معركتها السياسية الإعلامية الأخيرة في شأن اللقاء مع وفد أميركي في مسقط، وذلك منذ اللحظة التي حسم فيها الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وهو يستضيف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، موعد اللقاء ومكانه وشكله وجدول أعماله.
كانت طهران طوال المرحلة التي سبقت إعلان ترمب، خصوصاً منذ تلقيها رسالته الشهيرة مطلع مارس (آذار) الماضي تخوض تمارين “المرونة البطولية”، استعداداً للرد على مطالب ترمب الصريحة. في البداية رفض المرشد علي خامنئي التفاوض مع “المكر الأميركي” وسعى إلى تعبئة داخلية في مواجهة احتمال الحرب أو إثارة الاضطرابات، لكن “الأشياء السيئة” التي حذر ترمب من حصولها لإيران وأرفقها باستعراض عسكري ضخم، وسبقتها عودة إلى تدابير الضغط الاقتصادي الأقصى، جعلت القيادة الإيرانية تستجيب لعرضه التفاوض، فأرسلت ردها على رسالته عبر مسقط قبل أن يضرب ترمب ضربته التالية فيحدد موعد ومكان المفاوضات ومستوى التمثيل العالي فيها.
بعد إعلان ترمب السبت المقبل موعداً للقاء عالي المستوى انصرفت الأجهزة الإيرانية إلى خوض معركة هامشية حول شكل هذا اللقاء، فأصرت أنه لن يكون هناك لقاء مباشر بين ستيف ويتكوف ممثل الرئيس الأميركي وعباس عراقجي وزير الخارجية الإيراني، بل سيتم تبادل الحديث عبر الوسيط العماني المتنقل بين صالتين، في إشارة إلى استحالة الظهور المشترك لمسؤولي البلدين، وحرص مسؤولو الإعلام الإيراني على منع بث أية صورة قد تجمع بين الأميركيين والإيرانيين.
ضخمت طهران مسألة شكل التفاوض إلى حد جعل رفضها الجلوس سوية مع الأميركيين انتصاراً تسجله في سياق عملية قال الرئيس الأميركي إنه يجب إنهاؤها ضمن فترة زمنية محددة. وعشية السفر إلى مسقط عممت وكالة “مهر” الإيرانية الرسمية بياناً تعبوياً موجهاً إلى جمهور المرشد في الداخل والخارج بعنوان” كيف فرضت طهران شروطها على واشنطن لبدء التفاوض”، عددت فيه الأسباب التي قادت إلى “رضوخ” الأميركيين وأبرزها التدريبات العسكرية الإيرانية المتواصلة. وإفشال محاولة ترمب أن يفعل مع إيران ما فعله مع أوكرانيا “لإجبارها على التفاوض المباشر في ظل ظروف غير مشرفة”، ورد المرشد على رسالة الرئيس الأميركي، مما جعل وتيرة التطورات بين البلدين أكثر اختلافاً “وذلك بفضل سياسة خامنئي”، إضافة إلى أن “المدة التي استغرقها الرد الإيراني على رسالة ترمب تدل على مستوى رائع من الثقة بالنفس والشجاعة”، وإيران لم تسع لكسب الوقت وإنما “قدمت رداً شاملاً”.
ومن الأسباب أيضاً قولهم إن إيران أصبحت هي صاحبة اقتراح المفاوضات النووية، “أما في مجال المفاوضات” في شأن فصائل المقاومة فلم تقع إيران في فخ التصميم الدبلوماسي الأميركي فحسب، بل حاولت تحويل فصائل المقاومة بصورة مستقلة إلى قنوات وقدرات جديدة للدبلوماسية، مما زاد من مستوى استقلالها السياسي ووزنها الدولي”. وحددت طهران خطوطها الحمراء في ردها على ترمب إذ لم تعترف” بأية عقبات جيوسياسية أمام أفعالها ضد القواعد والمصالح الأميركية”، وأن خامنئي أحبط مشروع فريق ترمب لإشاعة “الاضطراب في إيران” عندما قال في خطبة عيد الفطر “لا نعتقد أن أي شر سيرتكب من الخارج”. والإشارة إلى أن المرشد “غير ظروف المفاوضين الإيرانيين وعليهم أن يحترسوا”، فهو “لن يتسامح مع الدخول في ظروف غير مشرفة”.
ويوضح البيان الإيراني أسلوب ورغبات إيران كما يكشف بعض جدول أعمال المفاوضات الذي حاولت التخلص منه، خصوصاً موضوع المقاومة (الأذرع)، الذي يحرص قادة إيران في تصريحاتهم على نفي أن يكون مطروحاً للنقاش، إضافة إلى موضوع الصواريخ الجاهزة “لاستهداف القواعد الأميركية في المنطقة وإسرائيل”.
جهدت إيران في إثبات “الرضوخ” الأميركي لشروطها، لكن إصرارها على رفض اللقاء المباشر لم يصل إلى غاياته، فقد حصل هذا اللقاء وتم الاعتراف به، لكن الصورة منعت عن مواكبته. ولا معنى لـ”الصدفة” التي جعلت الوفدين يتبادلان “التحية” في ختام اللقاء، سوى أن الخطاب الإيراني التاريخي في التحريض والادعاء وصل إلى نهاياته مرة أخرى، وأن المفاوضات ذاهبة إلى جولة ثانية السبت المقبل، في أجواء “ودية وإيجابية” بحسب إعلان الوسيط العماني وضيوفه. وهذا يعود من دون شك إلى أن التفاوض الراهن يدور في ظروف مختلفة جوهرها أن إيران المأزومة داخلياً وفقدت غالبية أدواتها ووكلائها الإقليميين على يد وكيل أميركا الإسرائيلي كما يقول خامنئي، لم يعد أمامها من سبيل سوى التفاوض للحصول على ما يمكن ضمانه في أسوأ ظروفها.
تحاول إيران، وستواصل محاولة القول باقتصار المحادثات على الملف النووي ورفع العقوبات المفروضة عليها. وسيحتاج هذا الادعاء توضيحات محدثة من الجانب الأميركي بالتأكيد، لكن تصريحات ترمب السابقة وعدد من المؤشرات الأخرى تدل أن جدول أعمال المفاوضات هو أوسع مما يقوله الإيرانيون بكثير، فقد طرح الرئيس الأميركي دور إيران الإقليمي عبر “أذرعتها” وضرورة وقف دعمها لهذه الأذرع، وطرح مصير السلاح الصاروخي الإيراني وتحجيم مداه، من دون أن يغفل توجيه رسائل التودد إلى الشعب الإيراني والدولة الإيرانية التي ستشكل سوقاً كبيرة واعدة بالنسبة إلى رجل يضع الأعمال في مرتبة مساوية للسياسة. ومن دون أن تعلن طهران صراحة استجابتها لمطالب ترمب الإقليمية، بدا أنها استجابت مسبقاً، اضطراراً أو إثباتاً للنيات الحسنة، إلى تلك المطالب، ولو جزئياً، قبل قبولها التفاوض مع” الشيطان الأكبر”.
فهي خرجت مكرهة من سوريا، وتلقت ضربة قاصمة في لبنان. وفي العراق وزعت رسائل متباينة بين تحجيم لدور ميليشياتها وبين تزويدهم بصواريخ عابرة للقارات. أما في اليمن حيث يواصل الطيران الأميركي قصف مواقع الحوثي موجهاً رسائل مباشرة لإيران، فقد عممت طهران خبراً عن سحب عسكرييها مرفقاً بتعميم على أذرعها بضرورة الاعتماد على أنفسهم.
لا شك أن الولايات المتحدة تأخذ هذه التطورات، التي أسهمت في تحقيقها حليفتها إسرائيل، بعين الاعتبار، وهي تضعها في صلب مواجهتها ومفاوضاتها مع إيران، وفي قلب رؤيتها للشرق الأوسط. وضمن هذا المشهد يأتي التنشيط الأخير لمفاوضات غزة والحديث الذي يرافقها عن اقتراب التوصل إلى اتفاق جديد. لقد عاد نتنياهو من واشنطن، إذ “فوجئ” مطلع الأسبوع الماضي بإعلان ترمب الاتفاق على إطلاق المفاوضات مع إيران، ليبلغ حكومته الخميس (الماضي) باقتراح “جديد وجدي لوقف النار في غزة”. وفي الوقت نفسه كان ويتكوف يبلغ أهالي الرهائن الإسرائيليين أن “هناك صفقة جدية للغاية”، بينما سارع ترمب للإعلان بثقة، نحن نقترب من إعادة الرهائن!
حصل كل ذلك عشية اجتماعات مسقط، ولم يخطر ببال أحد أن يرى في الأمر صدفة. فلإيران أيضاً ضلع في غزة، والأميركيون “يضغطون من أجل صفقة رهائن، ضمن تحرك واسع في الشرق الأوسط، والمحادثات مع إيران هي جزء من هذه الخطة الشاملة”، وفق ما نشر موقع “واينت” الإسرائيلي. ومن اليوم إلى موعد الجلسة الإيرانية الأميركية الرسمية التالية سنشهد على الأرجح تطورات وربما مفاجآت. فالعملية الجديدة في المنطقة بدأت وستستمر على أنقاض أعوام التوتير والمغامرات التي كان لإيران حصتها الوازنة فيها.
نقلاً عن اندبندنت عربية