عشرون عاما بعد الغزو
خالد اليماني
كانت أصداء الذكرى العشرين للغزو الأميركي للعراق في الصحافة الأميركية أكبر بكثير من أصدائها في الصحافة العربية والدولية الأخرى، وشكلت حالة مراجعة وصحوة ضمير لمجتمع حي ومتفاعل يمارس نقد الذات ولو بعد حين، في الوقت الذي أشارت فيه بعض التعليقات إلى أن العراقيين فضلوا عدم الاكتراث بالذكرى رغبة منهم في طي صفحة ذلك الكابوس الذي ما زال يؤرق حياتهم حتى اليوم، بعد أن هوى العراق من قمة قائمة الدول في مؤشرات التنمية البشرية للأمم المتحدة إلى دولة فاشلة تنهشها التنظيمات الإرهابية، والميليشيات الطائفية، وتتنازعها النخب الفاسدة.
ويقول الكاتب إيشان طرور في تحليل بالـ”واشنطن بوست” بعنوان “كيف حطمت أميركا العراق؟”، “إن حرب العراق التي كانت مدفوعة بغطرسة إدارة الرئيس جورج بوش الابن، ومدعومة من مؤسسة الحكم في واشنطن، لم تكن إلا عملية إراقة دماء انتقاماً لأحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، نزولاً عند رغبة الانتقام التي سادت المجتمع الأميركي حينها، والتي ينظر إليها اليوم باعتبارها خطأ ارتكبه ذلك الجيل من الأميركيين”.
وبحسب رصد صادر عن جامعة براون في “رود آيلاند” الأميركية، فإن الحرب أودت بحياة 306 آلاف نسمة غالبيتهم مدنيين، إلى جانب تشريد قرابة عشرة ملايين مواطن عراقي، فيما يعيش اليوم 13 مليوناً من أصل 42 مليون عراقي تحت خط الفقر. وانتقلت إحدى أغنى دول الشرق الأوسط من فساد الديكتاتورية الصدامية إلى الفساد الشامل، حيث تشير منظمة الشفافية الدولية إلى أن العراق اليوم في المرتبة 157 في قاع أكثر الدول فساداً في العالم.
وفي واقع الحال فإن نظام صدام حسين ارتكب كثيراً من الفظائع في حق الشعب العراقي، وتحديداً ضد الأكراد والشيعة، ومع هذا فإن حكومة العراق حينها كانت تجسد الإحساس العام بالوحدة الوطنية وبالهوية المشتركة التي لم تعد اليوم هي عنوان العراق الجامع، حيث يرى العراقيون أن الغزو الأميركي أزاح ديكتاتوراً، ولكنه استبدل به مجموعة لا تحصى من الطغاة الصغار.
حتى شعارات مكافحة الفساد التي يسمعها العراقي مع وصول كل حكومة جديدة، وجهود استعادة المليارات التي نهبها الساسة وهربوها خارج العراق، لم تعد تلقى آذاناً صاغية لدى أبناء العراق الذين خرجوا في عام 2019 في انتفاضتهم العظيمة ضد الطائفية السياسية، ومن أجل بناء عراق ديمقراطي مستقل وغير طائفي.
تبريرات الغزو
اليوم يجدد العالم التأكيد أن عملية “حرية العراق” الذي كلفت تريليوني دولار أميركي، جاءت في لحظة غضب لإمبراطورية قوية تعرضت للهجوم الإرهابي في عقر دارها في الحادي عشر من سبتمبر 2001، واستهدفت أبرز رموز عظمتها، فكان الرد عبر تنفيس ذلك الغضب العارم، الذي وجد في العراق ونظامه المستبد، كبش فداء جاهز تحت لافتة امتلاك بغداد أسلحة دمار شامل.
وفي حين لم تقم أميركا بتقديم الرابط الواضح بين العراق وهجمات الحادي عشر من سبتمبر، إلا أن الإدارة فضلت التلميح مراراً وتكراراً إلى وجود صلة بينهما، بغية حشد دعم الرأي العام الأميركي لصالح مشروع الغزو، بما في ذلك القول الفانتازي بأن حكومة صدام بصدد استخدام مسيرات تمتلكها لإيصال أسلحة الدمار الشامل البيولوجية والكيماوية إلى الساحل الشرقي للولايات المتحدة. وهذه الفبركات الفانتازية وغيرها استخدمها وزير الخارجية آنذاك كولن باول في الجلسة المغلقة لمجلس الأمن، وعاد بعد سنوات للاعتذار عنها.
حتى قرار مجلس الأمن رقم 1441 الصادر في نوفمبر (تشرين الثاني) 2002، والذي اعتبرته أميركا مبرراً للغزو، فإن خبراء القانون الدولي على اختلاف مشاربهم لم يجدوا فيه تفسيراً يسمح باستخدام القوة. وكانت قمة جزر الأزور البرتغالية التي جمعت الرئيس الأميركي بوش ورئيس الوزراء البريطاني طوني بلير قبل أيام من بدء الغزو، قد أكدت عدم الاكتراث بالقانون الدولي، حينما أصدرت إنذارها النهائي لمجلس الأمن لتوفير التفويض القانوني للغزو، أو أنها بصدد التحرك دون ذلك التفويض الذي لا تحتاج إليه، مهددة أن أميركا وحلفاءها البريطانيين بصدد القيام بالغزو حتى وإن غادر صدام حسين وعائلته العراق.
وحينما احتل الجيش الأميركي العراق وظهرت للعالم جلياً كذبة أسلحة الدمار الشامل، تحول الموقف الأميركي من اليقين المطلق بامتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل إلى القول إن الاتهامات الموجهة للعراق كانت مبررة باكتشاف معدات يمكن استخدامها لإنتاج أسلحة دمار شامل، ثم ركزت السردية الأميركية على حق أميركا للقيام بحرب وقائية لمهاجمة أي دولة لديها أسلحة فتاكة بكميات كبيرة. وتسبب التراجع وتخفيض معايير القراءات القانونية لمفهوم اللجوء إلى استخدام القوة، والضرب عرض الحائط بالقانون الدولي ومعاييره إلى انهيار الحجة المعلنة للغزو.
من الاحتلال الأميركي إلى الإيراني
صحيح أن الغزو الأميركي للعراق كان عملية خاطفة، فلم ينقضِ الشهر إلا وصارت بغداد تحت سيطرة الإدارة العسكرية الأميركية، إلا أن الولايات المتحدة لم تكن تملك استراتيجية للتعامل مع ما بعد الغزو، وما يتصل بمستقبل العراق، ولم تبعث خبراء إعادة الاعمار بدلاً من السياسيين الذين لم يكونوا على معرفة بالشعب العراقي، ولم يفقهوا خصوصياته الثقافية، ولا الجيوسياسة المحيطة، على رغم أن البعض قد يختلف معي في هذا الطرح بالقول إن أميركا قد ذهبت ولديها فكرة مسبقة لتقسيم العراق طائفياً وفق قراءات لطالما انتشرت في مراكز الدراسات الغربية آنذاك، أو أنها ذهبت للعبث بمستقبل مصادر الطاقة.
ولكن الحقيقة التي لا تقبل التشكيك، هي أن أميركا حققت نصراً لصالح إيران على منافسها القوي العراق الصدامي، بعد أن عانت الأمرين في حرب السنوات الثمان، فقد ضمنت إيران عودة عناصر المعارضة الشيعية التي عاشت وترعرعت في كنف نظام الملالي، إلى بغداد، تحت الحماية الأميركية، والقفز إلى قيادة الدولة العراقية، كما ضمنت عدم استخدام أميركا للعراق كمنصة مستقبلية للتغيير في إيران. ومن خلال “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري أنشأت العشرات من الميليشيات مثل “حزب الله العراقي”، و”عصائب أهل الحق”، و”الزينبيون”، و”سرايا الخرساني”، و”الفاطميون”، تم اختراق المؤسسة العسكرية والأمنية، وهي ملتزمة الولاء المطلق للولي الفقيه في طهران.
إن الفراغ الاستراتيجي الذي أحدثه الغزو الأميركي للعراق شغلته إيران، ما منحها القدرة على الانتشار الاستراتيجي في سوريا ولبنان واليمن، وتطورت قدرات “فيلق القدس” لنقل الأسلحة، والصواريخ، وتجارة المخدرات، وغسل الأموال عبر العراق إلى “حزب الله” في البقاع اللبناني. وما استخدام المنظومة المالية العراقية لصالح تهرب إيران من العقوبات على حساب المصالح الحيوية العليا للشعب العراقي، مثل تجربة “بنك البلاد الإسلامي”، ونقله ملايين الدولارات بتوجيه من “فيلق القدس” لصالح “حزب الله”، إلا غيض من فيض.
اليوم، بعد عشرين عاماً على الغزو الأميركي، ما زال العراقيون يلتفتون يمنة ويسرة بحثاً عن مخارج لأزماتهم اليومية المستعصية. فالعراق العظيم بكل معايير التاريخ والجغرافيا الاستراتيجية يتطلع للتحرر من الاحتلال الإيراني غير المرئي، فيما يتطلع الملايين من الشباب العراقي الذين لم يشهدوا سنوات النظام الصدامي والذين خرجوا في انتفاضة 2019 وواجهوا بطش الأجهزة الأمنية والنظام الطائفي، مما أودى بحياة 600 منهم، من أجل عراق خالٍ من السيطرة الخارجية، والتحرر من سيطرة القبيلة، والطائفة، والعرق والصراع بينهما، والعودة إلى فكرة الدولة الجامعة.
إن شباب العراق يرون أن المدخل إلى هذه الدولة الجامعة ينطلق من تعديل دستور 2005 الذي كتب تحت وصاية الاحتلال، والذي عزز ممارسة الهوية الطائفية كأداة سياسية لإدارة الدولة وفق المحاصصة، ولن يتأتى ذلك إلا من خلال لجنة للحوار والمصالحة الوطنية تتخذ الخطوات الكفيلة بإلغاء الطائفية السياسية، وقطع دابر التدخل الإيراني، والحفاظ على مقدرات العراق، وتعميق مفهوم العراق العربي مقابل محاولات تغيير المجتمع العراقي، وبناء اقتصاد لا يعتمد على موارد النفط، والاعتذار من الأخطاء التاريخية التي اقترفتها الإدارة الأميركية الانتقالية وأحدثت شرخاً عميقاً في المجتمع العراقي، وأودت بالعراق والعراقيين إلى هذا الوضع الصعب.
اندبندنت عربية