
طرق التفاوض الإيرانية بين صلابة زرادشت ومرونة البازار
م. عبدالله عودة الغبين
في كتابه الصادر حديثًا “قوة التفاوض”، يربط الوزير الإيراني عباس عراقجي بين الاستراتيجيات الفارسية القديمة وتراث البازار، مؤكدًا أن فن المساومة الإيراني – بدءًا من المطالب العالية وصولًا إلى تحديد الخطوط الحمراء – ليس مهارةً مكتسبةً بل هويةً متأصلة. تُجسّد المفاوضات النووية هذه الفلسفة، حيث تحوّلت القدرات التقنية إلى رافعةٍ تفاوضية، بينما تُدار الأزمات عبر فهمٍ عميقٍ لسيكولوجية الخصم، كما حدث في المواجهة مع المفاوضة الأمريكية ويندي شيرمان التي واجهت صلابةً أذابت تكتيكاتها.
لكن هذا النموذج التفاوضي لا يخلو من تناقضات. فالجمع بين الدبلوماسية ودعم الميليشيات الإقليمية يضع مصداقية طهران على المحك، بينما تُعقّد الانقسامات الداخلية والضغوط الإسرائيلية من تحركاتها. رغم ذلك، تظل الثقافة التفاوضية الإيرانية – بجذورها الضاربة في دهاء السياسة ٤بستفيدةً من الجغرافيا والتحالفات غير التقليدية، في عالمٍ يثبت يوميًا أن التفاوض ليس فنَّ كسب التنازلات، بل إدارة المعارك بملامحٍ وديّة.
تستمد الدبلوماسية الإيرانية أساليبها التفاوضية من خليطٍ فريد يجمع بين تراث الإمبراطوريات الفارسية العتيقة وثقافة البازار الحيوية، حيث تتشابك الحكمة التاريخية مع تكتيكات المساومة اليومية. فمنذ عهد الأخمينيين الذين أداروا إمبراطوريةً شاسعةً عبر نظام “الساطراب” القائم على احترام التنوع، وصولًا إلى مفاوضات القرن الحادي والعشرين النووية، تظل المرونة وإدارة التعددية سمةً جوهريةً في المنهج الإيراني. لم تكن الزرادشتية مجرد ديانةٍ قديمةٍ لدى الفرس، بل مصدرًا لقيمٍ عديدةٍ تمثلت في العدل والكرامة، التي تُترجم اليوم إلى إصرارٍ على رفض التنازل تحت الضغوط الخارجية، وكأنما روح كورش الكبير تهمس في أذن الدبلوماسيين المعاصرين بضرورة الحفاظ على هيبة الأمة.
في أسواق البازار المزدحمة، حيث يُحاكي تجار طهران فنون المساومة ببراعة، تُستلهم أدوات التفاوض الحديثة. فإطالة أمد المحادثات لاستنزاف الخصم، والتحوّل السريع بين الخطاب اللين والإجراءات الصارمة – كتخصيب اليورانيوم خلال المفاوضات – ليست سوى انعكاسٍ لثقافةٍ تتعامل مع الزمن كحليفٍ واستراتيجيات المرونة كسلاح. كما في البازار، حيث تُبنى الصفقات على الثقة المتراكمة، تعتمد طهران على نسج العلاقات مع أطرافٍ دوليةٍ حتى في خضم الخلافات، مستفيدةً من تراثٍ تفاوضيٍّ يعتبر الاتفاقيات مجرد محطاتٍ في رحلة تواصلٍ ممتدة.
لا ينفصل الصبر الاستراتيجي الإيراني عن دروس التاريخ الطويل. فالإدارة المتعمدة للتوقعات الزمنية، واستغلال الانقسامات الداخلية لدى الخصوم – كالخلافات داخل الكونغرس الأمريكي – تذكرنا بقدرة الإمبراطوريات الفارسية على الصمود قرونًا أمام الغزاة. يُكمّل هذا النهجَ تعزيزُ القوة التفاوضية عبر التقدم التقني، حيث يصبح البرنامج النووي أو الصاروخي أداةً لخلق توازن القوى، في لعبةٍ دبلوماسيةٍ تجمع بين القوة الناعمة والتهديد المُضمر.
تتجلى الهوية الثقافية في رفض أي اتفاقٍ يُنظر إليه كتنازلٍ عن السيادة، إذ يُعيد الخطاب الرسمي إنتاجَ سردية المقاومة ضد الغزاة منذ غزوات اليونان والرومان إلى الحروب العثمانية، ثم الحروب الحديثة. ولا يخلو الأمر من حكمةٍ تاريخيةٍ في استخدام تعدد الأصوات الرسمية – بين المرشد ووزارة الخارجية – كآليةٍ لاختبار ردود الأفعال الدولية وإبقاء الخيارات مفتوحة، في لعبةٍ من الضبابية المحسوبة.
نجحت إيران في تحويل الصمود إلى مكاسب عبر رفض الاتفاقات المؤقتة في الملف النووي، معتمدةً على لعبةٍ جيوسياسيةٍ ذكيةٍ تعزز تحالفاتها مع موسكو وبكين لموازنة الضغوط الغربية. ولم تكن الوساطة العُمانية سوى فصلٍ من فصول فن الوساطة الشرقية الذي أتقنته طهران، حيث تُحوّل القنوات غير المباشرة إلى جسورٍ لتمرير الرسائل دون فقدان ماء الوجه.
هذه الثقافة المتجذرة في التفاوض، والتي تقع على الحافة بين الخداع والصبر، لم تكن تاريخيًا لتنكسر إلا من خلال القوة، وهي الأسلوب الوحيد الذي أدى إلى سقوط الإمبراطوريات الفارسية الثلاث، وآخرها الإمبراطورية الساسانية التي سقطت على يد المسلمين في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
تُختزل الثقافة التفاوضية الإيرانية في ثنائيةٍ استثنائية تجمع بين صلابةِ التاريخ ومرونةِ البازار، حيث لا تُقبل طهران على الحلول إلا حين تلمس في الخصم قوةً تفرض الاحترام، ورهبةً تُذيب التصلب. فمن عمق الإرث الزرادشتي والإمبراطوريات القديمة، تستمد إيران إصرارها على حماية الكرامة والهيبة، بينما تُوظف دروس البازار في تحويل الزمن إلى سلاح، والمساومة إلى فنٍّ يعيد تشكيل موازين القوى.
ليست المفاوضات الإيرانية مجرد تبادل مصالح، بل معركة وجودية تُختبر فيها إرادة الخصم وقدرته على الصمود. فكما أدرك الأخمينيون والساسانيون أن القوة المفرطة وحدها تكسر الحواجز، ترفض طهران اليوم الانحناء إلا أمام من يثبت – عبر الفعل لا القول – أنه قادر على تحميلها ثمن التنازل. هنا تكمن المفارقة: كلما تعاظمت ضغوط الخصم العسكرية أو الاقتصادية، كلما اشتدت الحاجة إلى قراءة نواياه الحقيقية؛ فالإيراني لا يخشى القوة بل يستثمرها، ولا يهاب التهديد بل يحوّله إلى ورقة تفاوضية.
التاريخ يعيد نفسه؛ فسقوط الإمبراطوريات الفارسية أمام قوى غازيةٍ أكثر تنظيماً وقدرةً يكرّس في الذاكرة الجمعية درساً واضحاً: التفاوض مع إيران لا يُنجحه إلا من يفهم أنها تحترم لغة القوة، لكنها تحتقر الضعف المُقنَّع بالوعود. وهكذا، تظل الدبلوماسية الإيرانية لغزاً لا يُحلُّ إلا بفكّ شفرات الماضي، حيث الصبر الاستراتيجي والتهديد المبطّن يُجسدان روحاً تفاوضيةً ترفض الاستسلام، إلا إذا أدركت أن اليد التي تمتدّ بالسلام، قادرةٌ – في اللحظة ذاتها – على الإمساك بالسيف.
نقلا عن العربية