سلام لأرض ما رأت يوما سلاما
خالد اليماني
سرعان ما تداعت قطع الدومينو على الجغرافيا السياسية الإقليمية، فور توصل مباحثات بكين بين الرياض وطهران إلى اتفاق لتطبيع العلاقات بين الجارتين الأكبر في المنطقة. وسرعان ما تحرك ملف الأزمة اليمنية المستعصية، وهو واحد من ملفات عدة بقيت ملتهبة ين البلدين، ولكنه ربما كان الأكثر تأثيراً من زاوية أبعاده الأمنية. لقد كان قرار الرياض حاسماً، وأعلنت بصوت جهوري منذ أكثر من عامين نهاية الحرب اليمنية. وبعد الاتفاق مع طهران بات السلام في اليمن على مرمى حجر، بانتظار التعاطي مع التعنت الحوثي.
وبموازاة اتفاق العاشر من مارس (آذار) الماضي في العاصمة الصينية، جرت المياه لتدفع ملف تبادل الأسرى الذي ظل يراوح طويلاً منذ اتفاق ستوكهولم، كما تحركت الوساطة العمانية التي استمرت أسيرة الإشارات من طهران وصنعاء، وظلت تراوح في مكانها لأشهر عدة، وبدأ الحديث عن نتائج إيجابية توصلت إليها المفاوضات في مسقط، وأفضت إلى أول زيارة رسمية لوفد سعودي – عماني مشترك للعاصمة اليمنية الواقعة تحت سيطرة الحوثيين.
الأفكار التي تناولتها ورقة توافقات مسقط، والتي تم تداولها في تسريبات عدة منذ شهر فبراير (شباط) الماضي، عرضت على مجلس القيادة الرئاسي، ولقيت تزكيته المباشرة، مع وضع التحفظات اللازمة من واقع تجربة السنوات الثماني الماضية، حول “جدية” الطرف الحوثي في السير قدماً في طريق السلام. واتضح من خلال الترحيب الدولي منقطع النظير باتفاق مسقط، أن الحديث يدور حول اتفاق ناجز، وأن زيارة الوفد المشترك السعودي – العماني لن تكون إلا إجراءً بروتوكولياً وحسب، يسبق إعلان التوافقات، والشروع في تنفيذها.
ولكن اتضح خلال الأيام الستة التي استمرت فيها المفاوضات بين الوفد المشترك والحوثيين، وعودة الوفد دون إعلان الاتفاق، أن ما تم الاتفاق عليه في مسقط، عاد ليفتح النقاش حول تفاصيله في صنعاء، وهو ما يؤكد قناعات الحكومة الشرعية، بأن مكتب الاتصال الخارجي للحوثيين في مسقط، والذي يرأسه الأخ محمد عبدالسلام، ليس إلا مكتباً للعلاقات العامة، وأن القرار الحوثي ليس موحداً، وهو يعتمد على تصارع مراكز القوى المنضوية تحت لافتة “الحوثيين”، بقيادة عبدالملك الحوثي، الزعيم الغائب عن المشهد الذي يديره وكلاء عديدون، ويعود له افتراضياً قرار المباركة بعد تلقي الإيعاز من طهران.
كل القرائن تشير إلى أن التوجيهات صدرت من طهران التي تعيش تضارباً في المواقف بين الحكومة ووزارة الخارجية في مواجهة “الحرس الثوري” صاحب المواقف “الفاترة” من اتفاق بكين، الأمر الذي يبرر الإشكاليات التفاوضية مع الحوثيين الذين يتبعون عملياتياً “فيلق القدس” في الحرس الثوري. ولهذا رأينا سيادة الخطاب السياسي والإعلامي المتشنج الذي ميز تصريحات القيادات الحوثية خلال وبعد زيارة الوفد المشترك.
الخطاب الحوثي كان ولا يزال مشحوناً بعبارات النصر، والتفاوض الندي مع السعودية باعتبارها قائدة التحالف، والراغبة في إنهاء الحرب، وهي تنوب عن حلفائها الإماراتيين والأميركيين، كما تسميهم في خطابها، ومن تسميهم أيضاً “الأجراء اليمنيين” (الحكومة الشرعية)، “الذين يعملون بالريال”، كما قال محمد علي الحوثي، أو التلويح بجهوزيتهم للحرب، كما قال محمد عبدالسلام في الأيام الماضية.
ولا يقر الحوثي بوجود شركاء في الوطن، بل إن من دحر مشروعهم خلال السنوات الثماني الماضية ليسوا سوى شراذم من المرتزقة يعيشون في الخارج، ويمكن التعامل معهم بمفهوم “العفو العام”. ولأن منطق الحوثي هو منطق “المنتصر” فهو في حاجة إلى الحصول على ثمن لهذا النصر، انطلاقاً من فرضية مغلوطة أخرى، وهي تمثيله للسيادة اليمنية، وشرعية الشعب اليمني.
ولذا قلنا مراراً، ما لم يعد الحوثي صياغة خطابه المتشنج ليلتقي مع خطاب الإجماع الوطني في حدوده الدنيا، فسيكون بلوغ السلام أمراً مستحيلاً.
مطالب السقوف المستحيلة
وجاءت التصريحات التي ترافقت وتلت زيارة الوفد السعودي – العماني إلى صنعاء لتلخص طلبات الحوثيين “السيادية” في وقف العدوان، ورفع الحصار، وخروج القوات الأجنبية، والتعويضات، وإعادة الإعمار. وفي الحقيقة فهذه عناصر مهمة لمعالجة أي نزاع، وهي مفروضة على “المعتدي”، وهنا يختلف توصيف القانون الدولي للمعتدي، فالحكومة الشرعية، وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة بالأزمة اليمنية، ورؤية المجتمع الدولي الموثقة، ولجان العقوبات الأممية، تسمي الحوثيين وإيران بالمعتدين والمتسببين في الدمار والقتل غير المسبوقين في تاريخ اليمن.
في المقابل، بنظر القانون الدولي فإن عمليات التحالف في اليمن، والتي جاءت بطلب من الحكومة الشرعية، واتخذت كافة المرجعيات القانونية لقواعد الاشتباك في ضربها للأهداف العسكرية المشروعة داخل اليمن، كانت متوافقة مع قوانين الحرب، وحتى الأخطاء والأضرار الجانبية التي تسببت فيها عمليات القصف الجوي، وهي أخطاء مؤسفة لاستهدافها مدنيين، تم تقييمها من قبل لجان تحقيق مستقلة عن قيادة التحالف، اعتمدت المعايير الدولية في التحقيق، والمحاسبة، وجبر الضرر.
وتقول قيادة الحوثي إنها لا تريد هدنة، وإنها تريد التفاوض لإنهاء الحرب، وهي تعرف السبيل الوحيد لذلك، وهو اعتماد وثيقة ملزمة ومعتمدة من مجلس الأمن لإنهاء العدائيات مع الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً، والتي استدعت التحالف الذي تقوده السعودية لوقف التدخل الإيراني وميليشياته في اليمن، ولكنها لا تريد ذلك، بل تريد مرتبات جميع العاملين في الخدمة المدنية والعسكرية والأمنية في مناطق سيطرتها وللسنوات الثماني الماضية، على أن يتم ذلك بإشرافها المباشر.
إن إعلان الحوثي النصر في حرب لم ينتصر فيها هو خلل مفاهيمي، لا ينطلي على أحد ولا يستقيم مع مفاهيم القانون الدولي المستقرة، وعمليات صنع السلام، بل ستقع آثارها الكارثية عليه. وهو في حاجة ماسة إلى مراجعة مقاربته للسلام وتغيير السردية الجوفاء، وليدرك أولاً أن السعودية كانت وستبقى أخاً وعضداً لكل اليمنيين من أجل صنع السلام، وأن صنع السلام الصعب سيكون في الأساس بين شركاء الوطن اليمني جميعاً. وحين يتم الاتفاق، سيكون على الحوثي خوض عملية سياسية ديمقراطية تنافسية بإشراف دولي، بعد أن يتحول إلى حركة سياسية وينزع سلاحه ويقبل بحجمه الواقعي في الوطن.
الفرصة سانحة مجدداً
اليوم نحن أمام فرصة حقيقية لصنع السلام في اليمن، تمكنت السعودية من اقتناص لحظتها التاريخية مع إيران، بفعل السياسة السعودية التي تفضل دائماً العمل بعيداً من الأضواء، ولا تحدث ضوضاء في حراكها، بل هي سياسة تتسم بالهدوء والحكمة. ويعرف الحوثي أن أمر طهران قد صدر، لأن الحكومة الإيرانية في حاجة إلى متنفس، ولهذا ستكون ضامنة لالتزام الحوثيين وقبولهم بشروط السلام، ولا يحتاج الحوثي إلى التفاوض مع السعودية على شروط الحل وتفاصيله، فهذه يتسع مجال بحثها حينما ينتقل ملف توافقات مسقط إلى الأمم المتحدة، ويأتي الحديث عن المرحلة الانتقالية والتسوية السياسية.
والمطلوب اليوم أن يستمع الحوثي إلى أصوات اليمنيين المرتفعة في كل بقعة من اليمن وهم يناشدونه القبول بالدخول في مسار السلام، وإنهاء الحرب، والخوض في تسوية سياسية يكون الجميع فيها منتصراً. وسيكون لكل استحقاق مساحته الكافية من النقاش والبحث المستفيض، وفقاً لخريطة الطريق التي اعتمدتها مفاوضات مسقط، والتي ستشكل دليلاً لعمل الأمم المتحدة في اليمن للسنوات القادمة. اليوم نحن مع إعلان النيات لقلب صفحة مؤلمة استمرت لثماني سنوات، ويتطلع أبناء اليمن لقبول الحوثي لإنجاز كافة القضايا الإنسانية، وإيجاد آلية مشتركة للعمل مع الحكومة اليمنية لتسهيل صرف المرتبات، وتوحيد المالية العامة للدولة لتسهيل انسياب المساعدات الدولية.
ولتتوقف المنطلقات الجوفاء لخطاب الحوثيين التي تقول إن السعودية تتهافت للوصول إلى سلام معهم. فالسعودية طرقت كل الأبواب منذ عام 2015، وليست على عجلة من أمرها لإنهاء حرب اليمن، وتحاورت مع الحوثيين منذ الكويت واتفاق ظهران الجنوب، وذهبت إلى مسقط لتحاورهم، وعملت في مسار متوازٍ مع طهران لحلحلة أزمات اليمن والمنطقة، وهي تنتظر اللحظة التي يكون فيها الحوثي وغيره من القوى الوطنية اليمنية جاهزين لبلوغ السلام. ولا صحة لما نشرته بعض المواقع الدولية التي تريد رؤية السعودية تخوض في المستنقع اليمني أنها باتت اليوم قابلة بتقديم مزيد للحوثيين لشراء خروجها الآمن من اليمن.
اندبندنت عربية