خطة إيران حيال أفغانستان
ما إن أعلنت إدارة الرئيس جو بايدن عن قرارها في الانسحاب الكامل من أفغانستان في 11 سبتمبر (أيلول) المقبل، حتى بدأت الأنظار تتجه إلى معرفة ماذا ستؤول إليه الأوضاع في تلك البلاد ما بعد الانسحاب، لا سيما أن الحرب بين حركة “طالبان” والحكومة لم تنته بعد. هل ستسمر الحرب بعد الانسحاب الأميركي؟، من سينتصر؟، من سيتدخل؟، كلها أسئلة مهمة لا بدّ من الإجابة عليها لما لها من تأثير ليس فقط على تلك البلاد، بل وعلى المنطقة والعالم.
جدية الانسحاب؟
هل مشروع بايدن للانسحاب من أفغانستان جدي؟ وهل يمكن مقارنته بمشروع الرئيس السابق دونالد ترمب؟، بتقديري، قرار انسحاب بايدن هو أكثر جدية من قرار ترمب، فهذا الأخير كان يعلن عن قراره بسحب القوات الأميركية المنتشرة في ساحات المعارك بعد انتهاء مهامها، وتنفيذاً لعقيدة ما، أطلق عليه مبدأ إنهاء “الحروب اللامتناهية”، أكان ذلك في أفغانستان، أو بالعراق، أو في سوريا، أو في مكان آخر تنتشر فيه قوات أميركية، لكن الرئيس السابق كان في كلّ مرة وعد فيها بالانسحاب، أضاف أنه سيستمع لقادة البنتاغون العسكريين، وهذا ما سمح له أن يفسّر لماذا يؤخر قراره بالانسحاب، بناء على طلب القيادة العسكرية.
أما إدارة بايدن فهي جادة بقرارها هذا، بالجدية نفسها لقرار الرئيس باراك أوباما في عام 2011 عندما أعلن انسحاب القوات الأميركية من العراق. فعلى الرغم من تحذيرات العسكر من أن انسحاب متسرع من دون تمكين القوى السيادية في العراق من إمساك البلد، سوف يؤدي إلى سيطرة إيرانية وعودة للتكفيريين، قرر أوباما بالخروج في 2011، لكي يصل إلى تفاهم مع إيران، تحول إلى الاتفاق النووي الإيراني في 2015، وفي هذا العام 2021، تعود سياسة أوباما لتتجسد في سياسة بايدن حيال أفغانستان، بالتالي، فهي جادة، وسيتم تنفيذها ما لم تكن هنالك كوارث تمنع ذلك.
ما وراء ومن وراء الانسحاب؟
عقيدة الانسحاب من أفغانستان عمرها سنوات عدة، من عمر الحرب التي بدأت في أكتوبر (تشرين الأول) 2001، عندما أعلن الرئيس السابق جورج بوش على إثر ضربات 11 سبتمبر، أن أميركا ستزيل حركة “طالبان”، وستواجه “الإسلامويين الراديكاليين”، وعندما أعلن في فبراير (شباط)، 2002 أن إيران، بالتالي “حزب الله”، هما جزء من “محور الشر”. وقد أيّده معظم الديمقراطيين (المعتدلين وقتها) في مقاربة كهذه، وتم إسقاط “طالبان” في نهاية 2001، وبدأت إشارات عن عزم لدى إدارة بوش لاجتياح العراق، ووضع ضغط على نظام الأسد.
وبعد إسقاط صدام حسين في 2003، شعر الراديكاليون في المنطقة، من نظام الملالي إلى الإخوان، أن الولايات المتحدة، وحلفاءها العرب هم في موقع الهجوم الشامل لإسقاط مشاريعهم وأيديولوجياتهم، فتحركوا بقوة لإسقاط ما اعتبروه استهدافاً لهم ولمشاريعهم، فبادروا إلى شنّ حملات معقدة، منها الأمنية الردعية، (سموها “مقاومة”)، ومنها الإعلامية والسياسية، ومنها الترغيبية المالية، وكلها بهدف واحد، أي إخراج الولايات المتحدة من العراق وأفغانستان، واستبدالها بقوى متحالفة مع المحاور الراديكالية.
وقد رأينا ذلك بوضوح في ما يخص العراق، حيث قام اللوبيان الإيراني و”الإسلاموي” في الغرب، وفي أميركا بضغط هائل لإسقاط شرعية “الاحتلال الأميركي” تحت إدارة بوش، والتواصل مع معارضته الداخلية التي انتظمت تحت المرشح باراك حسين أوباما في 2008، للتوصل إلى “تفاهم كبير” في المنطقة، سرعان ما تطور إلى “الاتفاق النووي” في السنوات السابقة لتوقيع الاتفاق في 2015، فتم “تسليف” الانسحاب من العراق في نهاية 2011 كمقدمة لتطبيق الاتفاق في ما بعد، وطهران حصلت على نفوذ كبير في العراق في مقابل اتفاق فيه “خيرات كبيرة” للنخب الاقتصادية في أوروبا وأميركا.
أما أفغانستان، فطالت معادلة الانسحاب لأسباب عدة، أهمها أن الاجتياح الأميركي الأساسي كان “مشروعاً” لأنه كان رداً على مجزرة 11 سبتمبر، كما أن الرأي العام الأميركي كان متعاطفاً مع المهمة هناك، وحلف “الناتو” كان مشاركاً، أما على صعيد ضغوطات اللوبيات في واشنطن، فالضغط الأكبر للانسحاب أتى من ناحية كتل الإخوان، لأن التيار “الإسلاموي” كان له تأثير أكبر على الساحة الأفغانية عبر حلفائه الكبار في الأحزاب الباكستانية المؤيدة، ولكون المستفيدة الأولى من انسحاب الأطلسي سوف تكون حركة “طالبان”، حليفتهم الطبيعية، وقد بات ذلك واضحاً عبر الأصوات الداعية للانسحاب عبر قناة “الجزيرة” لسنوات، أما طهران، فوضعت ثقلها على “جبهة العراق” لما يكّون من هدف حيوي لتحقيق الجسر الأرضي مع سوريا و”حزب الله” في لبنان، بينما “الإسلامويون” ركزوا بغزارة أكبر على أفغانستان لاستعادة ما خسرته حركة “طالبان”.
التحالف الجسر
ومما ساعد تيار “الانسحاب” أن يتجذر داخل أميركا لمصلحة إيران، هو إقامة “جسر” بين نظام طهران وقوى في أقصى اليسار الأميركي، منذ ما قبل اجتياح العراق، ولهذا “المحور” تاريخ مفصل، سنأتي عليه في ما بعد. ولكنه بات فاعلاً في السياسات الأميركية بشكل لم يستوعبه حلفاء أميركا العرب، وأزعج حتى إسرائيل، هذا “المحور” بالتضامن مع مصالح اقتصادية، أنجب الاتفاق النووي تحت أوباما، ويعمل على العودة إليه تحت إدارة بايدن، وهو أيضاً قوة الدفع الأساسية وراء “الانسحاب الأفغاني” الآن، والجدير بالذكر أن هناك سباقاً بين كتلتي ضغط لإقناع القرار السياسي الأميركي بالتخلي عن أفغانستان، اللوبي الإيراني من ناحية، واللوبي الإخواني من ناحية أخرى، ومع كون القوتين متبارزتين على الأرض الأفغانية، إلا أنهما متقاطعتان في ما يتعلق بإخراج الأميركيين. فالوجود الغربي والدولي “يحمي” المجتمع المدني في البلاد، أي أنه بنظر المتطرفين، يدعم المسلمين المعتدلين ضدهم، لذا فما بدا واضحاً في العقد المنصرم هو الضغط المشترك لكتلتي اللوبي الإيرانية والإخوانية على الكونغرس والإدارة، وطبعاً عبر الإعلام، للوصول إلى خروج القوات الأميركية من أفغانستان.
بين أوباما وترمب
العصر الذهبي للوبي الإيراني كان إبان فترة إدارة أوباما، إذ كان له تأثير كبير في ملف الانسحاب من العراق ما بين 2009 و2012، أما حيال أفغانستان، فكان الضغط الأكبر للوبي الإخواني، إذ خفّضت إدارة أوباما القوات الأميركية من جيش واسع إلى قوة عسكرية للمساندة، بعد وثبة ميدانية عُرفت بالـ Surge، إذ إن طهران التي احتفلت بالسيطرة على العراق، كادت أن تخسره من جديد بعد اجتياح تنظيم “داعش” في 2014، بالتالي ركزت على إعادة السيطرة عليه، وقبلت على مضض أن تعود بعض القوات الأميركية إلى بلاد النهرين، ما يفسّر تركيز اللوبي “الإسلاموي” على أفغانستان بينما ركزت قوة التأثير الإيرانية على العراق.
تحت إدارة ترمب تغيرت المعادلة، إذ إن المجابهة الأميركية- الإيرانية انفجرت، وأخرج ترمب أميركا من الاتفاق، ووضع عقوبات واسعة، وصولاً إلى صدامات مع إيران في العراق وسوريا، عندها صعدت طهران عبر ذراعها الدعائي في الولايات المتحدة من ناحية، وعادت لتضغط على جبهة أفغانستان من جديد، المحور الإخواني اختار طريقاً آخر في ما يتعلق بأفغانستان، وذلك عبر استدراج واشنطن إلى محادثات الدوحة مع “طالبان”، بتأثير كبير من اللوبي القطري في الولايات المتحدة، فوقعت إدارة ترمب في فخ شعارها الانتخابي الداعي إلى “إنهاء الحروب وإعادة العسكر إلى الأراضي الأميركية”، فنجح اللوبي الإخواني القطري المشترك في إقناع البيت الأبيض أن الانسحاب من أفغانستان هو أفضل إنجاز يقدمه ترمب لحملته الانتخابية في 2020!
فذهب الموفد الأميركي الخاص إلى محادثات الدوحة مع “طالبان”، وتوصلوا إلى “اتفاقية سلام”، إلا أن ما أدى إليه اعتراف ترمب بحركة “طالبان”، كان انخفاض تعبئة الأميركيين، وبخاصة الجمهوريين للبقاء والقتال ضد الحركة في أفغانستان، بعد أن أكد مندوب ترمب السفير زلماي خليل زاده أن “طالبان” باتوا “شركاء في السلام”!
هل كان ترمب ليغيّر المسيرة لو انتخب مرة ثانية؟ هل كانت إدارته حسمت على إيران وحررت نفسها من لوبي الإخوان بالنسبة لأفغانستان؟ ممكن، ولكن بايدن هو الذي دخل البيت الابيض في 2021.
تحت إدارة بايدن
إدارة بايدن غيّرت سياسة ترمب حيال إيران، فارتاحت طهران بالنسبة للعراق، واليمن، وأيضاً أفغانستان، وانتقدت الإدارة الجديدة سالفتها حيال أفغانستان سطحياً، ولكنها أبقت على الهدف نفسه: فبدلاً من انسحاب في مايو (أيار) 2021، قررت التاريخ في 11 سبتمبر، رمزياً. المعارضة الجمهورية انجرفت مع التيار وزايدت، انتقدت بايدن لأنه “تأخر” في الانسحاب، وأنه “سرق” فكرة ترمب! وبسحر ساحر، بدت وكأن إيران، وإلى حدّ ما الإخوان، يضحكون على أصحاب القرار في واشنطن لأنهم يتسابقون لتسليم أفغانستان للملالي و”طالبان”، والأسوأ لم يلوح في الأفق بعد.
ماذا تخطط طهران لأفغانستان؟
مما لا شك فيه أن الحرس الثوري قد وضع خطط توغله داخل أفغانستان وينتظر “الجلاء” في سبتمبر، وهي أكثر تعقيداً بسبب تركيبة البلاد، فبينما يعرف القاصي والداني أين ستسيطر “طالبان” والتكفيريون (جهاديون بالمفهوم الغربي)، أي في مناطق الـ”بشتون” ومناطق لاصقة لها، قلائل في الغرب يدركون أن إيران تخطط لجسر بري، وربما جوي إلى المناطق الوسطى من أفغانستان حيث أكثرية الشيعة لا سيما “الهزارة” و”الطاجيك”، وإقامة منطقة نفوذ وسيطرة في وسط البلاد، مبنية أساساً على 20 في المئة من السكان، ولكن مع دعم إيراني استراتيجي مباشر، وكان النظام الإيراني قد مدّ شبكة استخباراته إلى مناطق “الهزارة” وبعض النواحي في مناطق الطاجيك، والأهم من ذلك أن طهران قد جندت أكثر من 20 ألف مقاتل عبر منظمة “الفاطميون”، ونشرتهم في العراق وسوريا، وأقحمتهم في المعارك ضد معارضة نظام الأسد على جبهات عدة، وستكون “عودتهم” إلى أفغانستان بمثابة انطلاق “الدويلة الفاطمية الخمينية” في عمق آسيا الوسطى.
لا ندري كل ما في ملفات البنتاغون من خطط وقائية تجاه هذا التحدي الآتي في الخريف، ولكن نعرف أمرين: قطار انسحاب بايدن من أفغانستان يُصفّر استعداداً للخروج، وقطار إيران يحمل “الفاطميون” استعداداً للدخول.
المصدر انتدبندنت عربية