حلمُ الإمبراطوريةِ الأمريكية وحق التضحية بالآخر
سميرة رجب
قال إن «التاريخ لا يعيد نفسه»، إنما الواقع يؤكد بأنه يعيد نفسه ولكن البشر ينسَوْن؛ فالذاكرة البشرية تتذكر ما يكتبه المنتصرون، أما الحقائق التي لا يؤرخها ذلك المنتصر فإنها تختفي كزبد البحر. كما أن الذاكرة الحية للبشر قصيرة، ومحددة بعمر الجيل الواحد، فلا تتسع الذاكرة البشرية لتخزين الكثير من التاريخ، فالجديد دائمًا ينسخ القديم، والأولون يموتون وتُدفن معهم الحقيقة، وأجيالهم اللاحقة تنسى… نعم، بكل بساطة ينسى البشر التاريخ الذي لم يعيشوه وهم في غمرة الحياة والتطلع نحو المستقبل والسير في رَكب المنتصر، وفي غمرة أحداث مهولة جديدة، يقف التاريخ عندها مشدوهًا من شدة الهول.
واليوم يقف تاريخ العرب من دون حراك، أمام هول وحجم الدمار المستمر وحروب الإبادة الدموية التي فاقت الحروب العالمية دمويةً.
وسنكتشف بعد عدد من السنوات، لن تكون طويلة، أن تاريخ العرب توقف هناك، عند عام 2003. فما بعده لن يكون تاريخهم، وسيكتبه المنتصرون، أولئك الذين رسموا وخططوا وأبادوا الشعوب العربية، وثقافاتها، واستبدلوها بشعوب وثقافات أخرى… سنكتشف حينها بأن الحالة العربية اليوم تعبّر بامتياز عن حالة «الفوضى الخلاقة» التي رسمها آخرون للمنطقة.
هذه الفوضى التي تعبث في بلادنا العربية، تعني حرفيًا إغراق المنطقة في حالة التدمير الذاتي بصوَرِهِ المتعددة، لتكون محصلتها هدم هياكل الدولة ومواردها وثرواتها وحدودها الجغرافية، وإبادة ما أمكن من شعوبها، وإزاحة من بقي منهم من أماكنهم، وإعادة تشكيلهم، ورسم حدودهم، بجدران إسمنتية، وبخطوط وقوانين، وشعوب، وثقافات جديدة لا علاقة لها بالهيكل الجغرافي والحضاري والثقافي والديموغرافي السابق.
باختصار سيثبت التاريخ أن التدمير الاقتصادي والهيكلي الناعم في بعض بلادنا العربية، أو التدمير الدموي وتدمير البنى التحتية، كما هو حال العراق وسورية واليمن وليبيا، وما يرافق كل هذا الدمار من إزالة لكتل بشرية، وتفتيتها، تارة بالإبادة الجسدية، وتارة بالإزاحة، والإبادة الثقافية، بما لا يسمح بالعودة إلى ما كانت عليه سابقًا، وبذريعة الحرب على الإرهاب، ما هو إلا تنفيذ حرفي لما جاء على لسان كوندليزا رايس في عام 2006. عندما قالت بثقة وفوقية أمام وسائل الإعلام أثناء القصف الإسرائيلي على لبنان (وليس على حزب الله): «… ينبغي أن نكون على يقين من أننا ندفع نحو ولادة شرق أوسط جديد، وأننا لن نعود إلى العالم القديم».
هنا في الشرق الأوسط يعيد التاريخ نفسه… هنا يتم هدم دول وإبادة شعوب وحضارات وثقافات، ليعاد بناء دويلات وثقافات وشعوب جديدة على أنقاضها… هنا يعاد تاريخ حرب الإبادة الجسدية والثقافية التي عمل بها المستوطنون الإنجليز الأوائل، مؤسسو الدولة الأمريكية، ضد الهنود الحمر قبل أكثر من قرنين؛ وضد الشعوب الأسترالية والنيوزيلندية الأصلية، وغيرها من مستعمرات الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، والمنتشرة في أرجاء العالم… وانطلاقًا من عذابات وآلام ذلك التاريخ الذي تأسست عليها الولايات المتحدة، يمكن أن نفهم تلك الثقة والفوقية التي كانت تتحدث بها السيدة رايس في ذلك اليوم بأنها نتاج ثقافة القوة والفوقية والبطش التي غلّفها أولئك المستعمرون بآيديولوجيا القيم المقدسة والرسالية، ليتمكنوا من سلب كل أرض غزوها، ولتبقى الأرض وشعوبها وثرواتها ملكًا لهم من دون منازع.
لطالما كنت أتساءل: بأية ذريعة ثقافية وأخلاقية يعيث الجيش الأنجلوأمريكي فسادًا في الأرض؟!… وبأي مبدأ أو ضمير أخلاقي قُصفت مدينتا هيروشيما وناجازاكي بالقنابل النووية؟؟… لماذا كانت تلك الحرب الهمجية في فيتنام (1955-1975)؟؟… وحرب كمبوديا… أمريكا اللاتينية… رواندا… يوغسلافيا… وغيرها الكثير؟؟.
بأي مبرر إنساني سُرقت أرض فلسطين واستُبدِلَ شعبها بشعب آخر وحضارتها وثقافتها بأخرى؟… بأي حق وضمير يتم احتلال العراق واستبدال شعبه بشعب آخر وإبادة ثقافاته وحضاراته وتاريخه واستبدالها بثقافة الإجرام والإرهاب والفساد والجهل؟!.
ويا رب الكون، ما القيَم التي سمَحَت لمادلين أولبرايت أن تؤمن وتعترف بأن تدمير العراق يستحق التضحية بنصف مليون طفل عراقي ماتوا في ظل الحصار الاقتصادي الهمجي الذي فرضته بلادها على العراق؟!.
وما تلك النزعة الحيوانية التي تجعل أقوى جيش في العالم يمارس اغتصاب وافتراس البشر في كل أرض يجتاحها، فلم يكن اغتصاب مليون امرأة فيتنامية في تلك الحرب الوحشية حالة استثنائية، بل تكرر، ولا يزال يتكرر في غرف التعذيب المنتشرة من جوانتانامو إلى «أبوغريب» وغيرها من سجون النظام الدولي الجديد في أنحاء العالم؟!.
ربما لم أتمكن هنا من وصف كل الجرائم والوحشية الغربية التي عاصرتها وقرأت عنها طوال حياتي منذ أن تعلمت القراءة والتفكير، إلا أن هذه الأسئلة البشعة لم تتوقف، بل مازالت تكبر ككرة الثلج، لتصعد على سطحها جريمة الإبادة الجماعية التي شاهدنا فصولها في الموصل وتجري أحداثها اليوم في تلعفر والرقة في ظل تعتيم رهيب، مع سقوط كل القيم الإنسانية في صراعات القرن الأمريكي الجديد.
قد أزعم أنني وجدت ضالتي ببعض الإجابات على تساؤلاتي من مرجعين موسوعيتين للبروفيسور العربي الأمريكي منير العكش، «أمريكا والإبادات الجماعية» و«أمريكا والإبادات الثقافية» (دار رياض الريس للكتب والنشر، بيروت 2002 و2009)، اعتمد فيهما الكاتب على مئات المصادر العامة وصناديق الوثائق الحكومية الأمريكية، وسجلات مفوضي المحفوظات الوطنية، ووزارة الداخلية، ووثائق مكتب الشؤون الهندية، ومحفوظات الكونجرس الأمريكي، والمنظمات التاريخية وغيرها.
يُعد الكتابان عملين دراسيين جادين لفهم «هذه الأمريكا التي تمسك بخناق حاضرنا ومستقبلنا»، ومحاولة جادة في تأسيس دراسات أمريكية وصيغة أكاديمية لفهم أمريكا من الداخل. ومحاولة لرسم الصورة الواقعية للمؤسسة الأمريكية الحاكمة وفهم طريقة صناعة القرار السياسي فيها، بما قد «يعين المخلصين من أولي أمرنا في العالم العربي على بناء إستراتيجية واقعية لا تصادرها التشنجات والمواقف المسبقة من جهة ولا تقوم على الأوهام والتمنيات من جهة ثانية»… لذلك سيكون الكتابان مصدري الاقتباسات التي سيجدها القارئ في هذا المقال، ما لم يتم الإشارة إلى مصدر آخر.
يذكر الدكتور العكش أنهم استعاروا معنى كلمة «الحضارة» التي يكثرون من تردادها واستهلاكها، من أسطورة تأسيس الرجل الأبيض للولايات المتحدة على أنقاض جثث الشعب الأصلي، ثم نُسجت من تلك الكلمة التصورات والمعايير والقيم الأخلاقية التي تُمارَس اليوم بواسطة قوة سلاح الدمار الشامل في أرجاء العالم، وهي القيم التي تزعم، فيما تزعم، أن «احتلال أرض الغير واستبدال شعب بشعب وثقافة بثقافة وتاريخ بتاريخ عمل مقدّس أمر به الله، وبالتالي فإنه يسمو على أخلاق البشر، وأعراف البشر، وقوانين البشر، وحياة البشر، وحريات البشر».
إن قيم «الحضارة» الأمريكية، التي تمتد في كل أنحاء المعمورة تزعم، أيضًا بأن «فكرة أمريكا تجسد مشيئة الله…»، وأن المستوطن الإنجليزي المحتل أرض الغير ما هو إلا «استثناء وجودي» يمثل إرادة الله وهو من له حق تنفيذ هذه الإرادة… أما معاملة السكان الأصليين فلا تخضع «للقوانين الأخلاقية أو الإنسانية أو المبادئ العقلية»، بل تخضع إلى حكم الأساطير الذي نسجها العقل الإنجليزي بعد نجاح تجاربهم المتتالية في قتل شعوب مستعمراتهم، وهذه الأساطير رسّخت اعتقادهم بأنهم «شعب مختار» لأداء هذا الدور الحضاري في سبيل الله.
كل تلك القيم التي نُسجت بعد نجاح فكرة أمريكا في العالم الجديد جعلت تلك التجربة «مثالا طيبًا يمكن تكراره حيثما اشتهى شعب الله».
إن الثقة والفوقية التي يتحدث بها الساسة الأنجلوأمريكان عمومًا، وتحدثت بها السيدة رايس في مقولتها تلك على سبيل المثال، مستمدة بكل تأكيد من مبدأ امتلاك القوة، وهو أحد ثلاثة مبادئ تعتمدها الإدارات الأمريكية المتعاقبة كركيزة في ميثاق الأمن القومي الأمريكي، منذ نشأة الولايات المتحدة؛ القوة، الدين، القيم، متمثلا في تحالف رجال السياسة والدين والمال لتحقيق مصالحها، وحماية أمنها القومي (د. خليل حسين، «الإستراتيجية الإمبراطورية الأمريكية في وثيقة الأمن القومي الأمريكي»)، تلك القوة التي نجحت بدايةً في بناء الدولة على أنقاض وجثث الملايين من شعوب القارة الأمريكية الأصليين.
ويذكر البروفيسور العكش أنه «لم يغب عن أنبياء أمريكا وجنرالاتها أن احتلال الأرض والإبادة الجسدية ليست كل شيء، وأنه لا بد من كسر العمود الفقري لضحيتهم، ألا وهو لغتهم وثقافتهم وتراثهم الروحي»، والتي وصفها الكاتب بـ«المحرقة الأخيرة للوجود»… لقد توقف تاريخ الشعب الأمريكي الأصلي بدءًا من لحظة تسميتهم بالهنود الحمر، وكأنهم كائنات متوحشة لا اسم لها ولا تاريخ ولا حضارة، واستمر ذلك حتى انتهاء وجودهم الفعلي، وعلى من يرغب اليوم في التعرف على أولئك (الوحوش) يجدهم في بعض المتاحف المنتقاة، بجانب آثار الديناصورات والحيوانات الأخرى المنقرضة. أما ما هو مكتوب عنهم في الكتب المدرسية، أو في أرشيف الدراما الهوليودية، فهو ليس تاريخهم بتاتًا، بل هو التاريخ الذي كتبه المنتصرون بعد حفلات الشواء (الباربكيو) التي أحرق فيها الرجل الأبيض مدنهم وقراهم وبيوتهم، ثم مارس متعته بشواء أجسادهم، واغتصاب أطفالهم حتى النهاية.
في أكثر من 500 صفحة (الكتابان) يحاول الباحث أن يوضح الصورة الواقعية للمؤسسة الحاكمة الأمريكية، بالتفاصيل والممارسات والوقائع البشعة التي أبادت الشعب الأمريكي الأصلي على مدار ثلاثة قرون، وفي التفاصيل حجم مروع من الانحطاط الأخلاقي والألم مما لا يمكن اختزاله في مقال صغير كهذا، ولكن سأحاول أن أختزل للقارئ منه صورتين من آلاف الصور المخزية لممارسات المستعمر الأبيض ضد ذلك الشعب المسالم، لتكوين تصور واقعي حول مدى خطر العقلية التي تحاول الاستفراد بحكم العالم كله.
يقول كاتبنا إنه «على مدى خمسمائة سنة، تعرّض هنود أمريكا لحملات غزو إسبانية وبرتغالية وفرنسية وهولندية وإنجليزية سلبتهم إنسانيتهم، وأنزلت بهم فنونًا عجيبة من القتل والتدمير، ونظرت كلها إلى حياتهم ولغاتهم وأديانهم باحتقار، لكن الإنجليز (…..) وحدهم كانوا الأكثر عنجهية وعدوانية وإصرارًا على تدمير الحياة الهندية واقتلاعها من الذاكرة الإنسانية. وحدهم جاءوا بفكرة مسبقة عن أمريكا، نسجوها من لحم فكرة إسرائيل التاريخية؛ فكرة احتلال أرض الغير، واستبدال شعب بشعب وثقافة بثقافة وتاريخ بتاريخ. فاستنسخوا بذلك أحداثها وتقمصوا أبطالها وجعلوها قدرهم المتجلي».
ويؤكد الكاتب أن هذه الفكرة هي التي أرست «الثوابت التاريخية الخمسة التي رافقت كل تاريخ أمريكا: 1- المعنى الإسرائيلي لأمريكا، 2- عقيدة الاختيار الإلهي والتفوق العرقي والثقافي، 3- الدور الخلاصي للعالم، 4- قدرية التوسع اللانهائي، 5- حق التضحية بالآخر».
لذلك لم تتوقف هذه الفكرة في حدود الولايات المتحدة، إذ إنها طورت نفسها وذرائعها من حقبة إلى حقبة، و«جددت لغتها من جيل إلى جيل»، ومع كل نظرية فكرية، إلا أن «جوهرها ومعناها وأهدافها لازمت المستعمرين الإنجليز وقناعاتهم وتاريخهم وسياساتهم واستحوذت على ألبابهم وعقولهم». وبذلك بقيت هذه الفكرة وحروبها «الخيرية» ورسالتها الحضارية «واحدة لا تحول ولا تزول»… إنها الفكرة التي تعيش على أسطورة البدو الرعاع الحاقدين على حضارات عصرهم، لتكون ذريعتهم في نهب الحضارات بشعوبها وأرضها وثقافاتها، بعنجهية «الجلاد المقدس»، و«آداب مسخ الآخر وعبادة الذات وتقديس الجريمة».
وهنا يذكرنا الكاتب بالملاحظة التي سجلها داروين في مذكراته بعد رحلته الشهيرة حول العالم قائلا «إنه حيثما خطا الأوروبيون مشى الموت في ركابهم إلى أهل البلاد التي اجتاحوها»، إشارة إلى الحرب الجرثومية التي بدأها المستوطنون البيض ضد الشعب الأمريكي الأصلي عبر نشر الأوبئة القاتلة التي أبادت أمما هندية بأكملها في بداية ذلك الغزو اللعين لأرضهم. وبحسب مصادر واقعية فإن أنواع الحروب الجرثومية المؤكدة التي شنها المستوطنون الإنجليز ضد الهنود الأمريكيين كان «93 وباءً شاملا: 41 جدري، 4 طاعون، 17 حصبة، 10 إنفلونزا، و25 سل ودفتيريا وتيفوس وكوليرا»… كما تؤكد المصادر التاريخية أن عدد الهنود الذين كانوا منتشرين على كامل مساحة القارة الأمريكية، التي تزيد على مساحة أوروبا بربع مليون كليومتر مربع، أكثر من 112 مليون نسمة موزعين على 400 أمة وحضارة وثقافة، 18.5 مليون نسمة كانوا في أراضي ما يُسمى بالولايات المتحدة الأمريكية اليوم.
«رحلة الدموع Trail of Tears»، كانت أولى ثمار عملية الترحيل القسرية للهنود الأمريكان، والتي سن لها الكونغرس قانونًا عام 1830 يسمح باستعمال القوة لترحيلهم، بعد سرقة ونهب وحرق مدنهم وقراهم وبيوتهم من شرق المسيسبي إلى غربه، عبر مئات الأميال ومناطق موبوءة بمختلف الأمراض التي أسست لأول حرب جرثومية في العالم، والتي «اعترف بها حاكم ولاية بليموث، وليم برادفودر، في يومياته» بقوله إن الأغطية الملوثة بالجراثيم التي كانوا يهدونها إلى الهنود هي السبب في انتشار الوباء بينهم»… وكان يتم انتزاع هذه البطانيات ممن يقع ميتًا وإعطائها هنديا آخر، حتى أنهاهم المرض والجوع والإجهاد. كان «طريق الدموع» واحدة من عمليات القتل والتهجير الجماعي، التي يسميها الكاتب بالترحيل القسري المنظم، وفي جميع الاتجاهات، على مدار قرن.
وبحسب إحصاءات عام 1900 لم يتبق من ذلك الشعب أكثر من ربع مليون فرد، بعد استخدام كل وسائل الإبادة ضدهم، وكانت الأوبئة أحد وجوهها الوحشية القاسية، رغم محاولات القتلة التبرؤ من هذه التهمة البشعة مرارًا وتكرارًا، بمئات الأبحاث والدراسات، بذريعة أن «عامل المرض disease factor»، الذي انتقل إليهم بشكل طبيعي من المستوطنين، ولم يتحمله الهنود لأن أجسادهم لم تمتلك المناعة، هو سبب تلك الإبادة.
ومازالت كتبهم المدرسية تضع صفات عديدة لتلك المأساة «غير المتعمدة»، و«غير المقصودة»، والتي «لم يكن تجنبها ممكنًا»، ووصفها بالأضرار «الهامشية التي تواكب انتشار الحضارة وطريقة حياتها»… أما من يحاول أن يخرج عن هذه التبريرات فهم «المتحاملون»، «الأشقياء»، السلبيون المتهورون الذين ينبع منهم روح الكراهية»… مما يذكرنا بإطلاق عقدة «نظرية المؤامرة» ضد كل من يحاول شرح مؤامرات الإبادة المستمرة في منطقتنا العربية منذ احتلال العراق عام 2003.
فيا ترى هل سيكتب التاريخ عن مآسي الإبادة الجماعية والتهجير القسري التي يعيشها الشعب العراقي منذ 2003 حتى هذا اليوم، أم سيبقى ذلك طي الكتمان حفاظا على سمعة المحتلين؟؟.
وفي «حرب التطهير الثقافية» استعان المستوطنون البيض، في القارة الجديدة، بسلاح التعليم والتمدين من أجل الإبادة، فلجأوا إلى خطف واقتلاع أطفال الهنود من أحضان أمهاتهم قبل بلوغ الرابعة من أعمارهم، «وشحنهم إلى معسكرات أشغال شاقة سُميَت بالمدارس» بدعوى التعليم والتمدين، حيث تم استخدامهم بالسخرة في المصانع والمزارع، وحيث تم تجريدهم من «هنديتهم» وتسليمهم لعملية الإبادة الجسدية… في هذه المدارس «مات أكثر من 50% من هؤلاء الأطفال على خمسة أجيال متعاقبة».
كان المشرفون والعاملون في هذه المدارس مجموعات من الإرساليات التبشيرية التي وصفهم «المؤرخ الأمريكي جورج تينكر George E. Tinker» بـ«حثالات» المجتمع الأمريكي من «متخرجي السجون وأصحاب السوابق والساديين ومغتصبي الأطفال والمتقاعدين العسكريين والأمنيين…»، لذلك لم تخلُ مدرسة واحدة من الاغتصاب الجنسي.
يصف (تينكر) قصة أخ له بالتبني «اسمه دوني» انتحر وهو في الثانية والخمسين بعد قصة معاناة طويلة قضاها منذ كان في الخامسة من عمره، عندما اختطفوه من ذراعي أمه، ولم ينفع بكاء الأم وضراعة الأب «ووضعوا في يديه القيد أمام أعينهما، وساقوه إلى سيارة تغص بالأطفال. وهناك ربطوه بالسلسلة المعدنية الطويلة التي تصفّد الأطفال جميعًا، ثم شحنوه إلى مدرسة القديس فرانسيس St. Francis» ليكون تحت رعاية التبشيريين.
يقول تينكر إنه «منذ تلك اللحظة كُتبَت قصة انتحار (دوني)» حيث بدأ برنامج تمدينه بافتراسه جنسيًا من ناظر صفة العملاق الأبيض، حيث كان يدخل غرفته ليلا ويغتصبه هو ورفيق غرفته (كونراد) الذي كان بعمره… واستمرت غزوات الافتراس المفاجئة التي كان يشنها عليهما بعض العاملين، وغيرهم ممن لا يعرفونهم، في تلك المدرسة التبشيرية، إلا أن (كونراد) كان أسعد حظًا، لأنه انتحر قبل أن يبلغ الخامسة عشرة من عمره.
هذه المدارس هي ما «وصفها Douglas Hogarth، أحد قضاة المحكمة الكبرى في كندا، بأنها ليست أكثر من مؤسسات للإرهاب الجنسي وأوكار لاغتصاب الغلمان (paedophilia)»، حيث يتم إجبار الضحايا «على مواجهة الحقيقة المرة، وهي أنهم هم وأهلهم وكل من تبقى من شعوبهم على قيد الحياة عاجزون عن منع الإذلال أو الإهانة أو أي شكل من أشكال العدوان عليهم لأنهم ضعفاء»… ومن هنا يمكن تفسير بنية ثقافة الاغتصاب والعنف الجنسي التي تمارسها جيوش المحتلين والغزاة الأنجلوأمريكان «تجاه سكان مستعمراتهم من سيدني إلى واشنطن ومن نيوزيلانده إلى بغداد»، بحسب الشهادات التي وثقها الكاتب بكل الأدلة المادية.
ويذكر الكاتب، إنه بحسب دراسة إحصائية لظاهرة الاغتصاب في مدارس «التبشيريين» أجريت في عام 1993. فإن نسبة الاغتصاب في بعض هذه المدارس ما بين الأعوام 1950 و1980 كانت «عامة طامة (100%) لم يَستثن أحدًا منهم أو منهن».
من المؤكد أن عدد الكلمات المحدودة في هذا المقال لن يوفي الموضوع حقه، إلا أنني حاولت بقدر الإمكان تنوير القارئ وصانع القرار حول حقيقة الأسلحة البشرية والآيديولوجية والعرقية والطائفية والثقافية والتكنولوجية التي يتم استخدامها اليوم في بلادنا للتدمير الشامل، بالحرب الخارجية تارة والداخلية تارة أخرى، ولمعرفة أسباب انتشار الإرهاب ومحاولات إقناعنا بأننا شعوب وحشية إرهابية بحاجة إلى التمدين بحضارة وديمقراطية الرجل الأبيض، والعمليات والتعذيب وثقافة الاغتصاب في السجون والمدن المحتلة عمومًا لقتل كل بذرة مقاومة في روح وعقل الإنسان العربي الذي يواجه الموت والإذلال بدعوى التحرير والحرية.
رغم قسوة ما جاء في هذا المقال، إلا أن الحالة العربية اليوم، وأيامهم القادمة، تعد أشد قسوة ولا تقل عن حروب الإبادة تلك التي قضت على 112 مليون نسمة من الشعب الأصلي في القارة الجديدة، ومن يعتقد من الشعوب والأنظمة العربية بأنه في مأمن من سطوة آيديولوجيات الإبادة تلك فهو يعيش في وهم.
ونختم بقول البروفيسور العكش الذي يؤكد أنه «منذ موجة الغزو الأولى حتى هذه اللحظة لم يعرف الغزاة ولا المؤسسة الحاكمة الأمريكية، التي ورثت ثقافتهم وأهدافهم وجنونهم الاستعماري لحظة سلام واحدة، لا مع سكانها ولا مع العالم الخارجي. فهي منذ 1607. تاريخ إنشاء أول مستعمرة إنجليزية دائمة في شمال أمريكا، لم تطفئ حربا قبل أن تشعل بنارها حربا غيرها. ولعل أفضل ما يعبر عن هذا السعار الحربي عنوان كتاب كريس هدجز، الحرب هي القوة التي تعطينا معنى غواية الحرب ومغرياتها (……) وهي التي تمنح أمريكا ما تطمح إليه وتتمناه مهما كانت الضحايا، وهي التي ترسم للأمريكيين غايتهم ومعناهم ومبرر حياتهم. ومن نافلة القول إن أمريكا في كل حرب من حروبها الداخلية والخارجية كانت بحاجة إلى شيطان، به تجرد الضحية من إنسانيتها وتجعل منها مشروعا مقدسا للإقصاء الوجودي. لقد شيطنت ضحاياها بالطريقة التي شيطنت بها النازية ضحاياها وبالطريقة التي صنعت الصهيونية من الفلسطينيين فريسة طقسية.. إنه منطق واحد هو منطق سلب إنسانية الضحية المشتهاة ونبذها من العالم الطبيعي حتى يصبح افتراسها عملا إنسانيا».