“حزب الله” يهضم لبنان أم يحاصر فيه؟
وليد فارس
في هذه المقالة، سأتوقف عند سيطرة “حزب الله” وامتداداته على الأراضي اللبنانية جغرافياً وعلى عمق الدولة ومؤسساتها منذ انسحاب جيش لبنان الجنوبي والجيش الإسرائيلي عام 2000.
إن النظام الإيراني ومعه النظام السوري و”حزب الله” شكلوا ما سموه “محور المقاومة” الذي وصل إلى “الجبهة مع إسرائيل” ولم يبقَ منذ مايو (أيار) 2000 أي قوة على الأراضي اللبنانية تواجه هذا المحور، وتمكن الخمينيون من السيطرة حتى على مؤسسات لبنانية. من هنا، فإن قراءة تمدد “حزب الله” ما بعد وصوله إلى الحدود مع ما حققه قبل ذلك كالتالي:
الحزب الذي تمدد من شمال البقاع إلى جنوبه والضاحية وعلى طول الساحل، وصولاً إلى الشريط الحدودي مع جيش لبنان الجنوبي وإسرائيل، في تلك المرحلة كانت هناك قوى قادرة على إيقاف “حزب الله” على مسافة عشرات الكيلومترات وكان “جيش لحد” يقيم توازناً ما ولكن سقوطه أدى إلى سيطرة الحزب بصورة كاملة، والسؤال ماذا فعلت هذه الميليشيات منذ مايو 2000 حتى اصطدامها بإسرائيل في الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) 2023؟.
منذ عام 2000، سيطر الحزب ومعه المحور على الحدود اللبنانية- الإسرائيلية وحدود الأخيرة مع سوريا. هذا الـ”ستاتيكو” مكّن الحزب من السيطرة على لبنان لعقود تالية، ففي ما يتعلق بالحدود الجنوبية بنى “حزب الله” خطوطاً دفاعية عميقة شبيهة بخطوط “ماجينو” و”بارليف” عبر نشر صواريخ ومدفعية وبناء مراكز على طول الحدود وعمق الجنوب، وصولاً إلى جبل لبنان وصيدا.
وتضمن هذا الانتشار جميع أنواع الأسلحة ومقار تدريب وأنفاقاً وجعل من جنوب لبنان بغض النظر عن وجود “يونيفيل”، القلب النابض للحزب عسكرياً، ومن هذه المناطق كانت القوات تنطلق إلى بيروت والبقاع عند الحاجة، مما شكّل العمق الاستراتيجي لإيران في لبنان وامتد إلى جبل الشيخ.
هذا ما واجهه الإسرائيليون بعد الثامن من أكتوبر 2023، وبعد هذا التمدد واصل الحزب انتشاره من جبل الشيخ شمالاً إلى نهر العاصي، مما يعني أن الحزب حاصر لبنان على طول الحدود وضرب المعارضة وسيطر على المؤسسات وفتح طريقاً سريعاً من لبنان إلى سوريا إلى العراق إلى المؤسسة الأم في إيران .
مع وقوع هجمات الـ11 من سبتمبر (أيلول) في 2001 التي أتت بعد سيطرة الحزب على لبنان، باتت طهران في سباق مع ما كان يسمى “الحرب على الإرهاب” لتؤكد سيطرتها على المحور بين إيران وسوريا ولبنان والاختراقات لـ”حماس” في الأراضي الفلسطينية، لذلك هذا السباق أكثر حدة عندما دخلت أميركا إلى العراق عام 2003.
وقبل ذلك مع نهاية عام 2001 وعام 2002، كانت القوات الأميركية وقوات الـ”ناتو” قد سيطرت على أفغانستان، فما حققته إيران من نصر في لبنان عبر السيطرة عليه باتت توازنه سيطرة الغرب وأميركا على الدولتين الجارتين في شرق إيران وغربها، مما جعل تحكيم السيطرة على لبنان أكثر أهمية وأقنع إيران بعدم شن حروب إقليمية ما دامت محاصرة من قبل الأميركيين عبر طرفي حدودها، فتوقف تمدد الحزب ودخل في “ستاتيكو” لمحاولة السيطرة العميقة داخل المؤسسات وضرب المعارضة.
في هذه المرحلة، تغيرت سياسة طهران لتبدأ مرحلة تقويض السيطرة الأميركية وركزت طهران على أمرين، مخاطبة بعض الأطراف السياسية داخل أميركا عبر اللوبي لبناء علاقات معها تسمح بالوصول إلى اتفاق سمي “الاتفاق النووي”، وثانياً عملت طهران على إدخال ميليشياتها إلى العراق لشن حرب شبه أهلية حتى الانسحاب الأميركي عام 2011.
في المختصر، طهران ركزت على أفغانستان والعراق أولاً، وفي المقابل واجه الحزب معارضة في الداخل من بينها لوبي لبناني في الخارج عمل على إقناع أميركا وفرنسا بإصدار القرار 1559 الذي يقضي بالطلب من النظام السوري الانسحاب وتسليم سلاح الميليشيات، فجرت محاولة لضرب هذه المعارضة عبر اغتيالات أدت إلى نشوب “ثورة الأرز”.
لكن الحزب مضى في عمليات الاغتيال، مما يعني أنه كان يحمي سيطرته عبر الاغتيالات وعبر انتفاضة على الحكومة الشرعية وانتهت المرحلة الربيعية للبنان بغزو بيروت الغربية ومهاجمة الجبل، لكن الحزب وحلفاءه تمكنوا من استخدام النفوذ الإيراني مع قطر لإجهاض “ثورة الأرز”، وبالتوازي أتت إدارة باراك أوباما التي ارتبطت ارتباطاً مباشراً مع اللوبي الإيراني وبدأ العمل لتوقيع اتفاق ما .
ومع تطور الحوار الإيراني- الأميركي وتوقيع الاتفاق النووي عام 2015 وتحويل مليارات الدولارات إلى النظام الإيراني، بات لـ”حزب الله” مع إيران لوبي في واشنطن أثر بالقرار السياسي في عهد إدارة أوباما وبدأ هذا التأثير يشكل غطاء لتمدد “حزب الله”. إذاً، الاتفاق الإيراني- الأميركي حمى “حزب الله” داخلياً في لبنان واستمر الحزب في تعزيز قدراته وتوسعه الديموغرافي وتعزيز جيشه واختراق الطوائف الأخرى حتى أصبح قادراً على خنق الإرادة اللبنانية الحرة .
وفشلت المعارضة اللبنانية في ظل إدارة جو بايدن مرات عدة في المطالبة بتطبيق القرار 1559 وتنفيذه على أساس البدء بمنطقة حرة، مما أعطى الحزب قدرة على التحكم بالقرارات، وشعر مع حلفائه بأن الوقت للبدء بضغط أخير على إسرائيل ومصادرة الورقة الفلسطينية قد بدأ، وكانت الجبهات التي فتحت في اليمن وسوريا والعراق بدأت تتوسع أكثر مع الانسحابات وبدأ الضغط منذ عهد بايدن بالتصاعد أكثر على السعودية.
وجاء التحدي الأكبر لـ”حزب الله” عندما قررت إيران فتح حرب مباشرة على إسرائيل، طالبة من “حماس” تنفيذ غزوة النقب، والخطة أساساً هدفت إلى دخول “حماس” في عمق إسرائيل والعودة برهائن، مما يفتح باب المفاوضات.
وارتكزت طهران على إدارة بايدن لبدء مفاوضات تسمح للحركة بالسيطرة على الورقة الفلسطينية، في المقابل تضغط طهران لتحويل جماعاتها إلى حكام فعليين كالحوثيين في اليمن وتشريع الميليشيات في سوريا والعراق باعتبار “حزب الله” الحاكم بأمره في لبنان.
كل هذا أدى إلى عملية “حماس” التي خرجت عن السيطرة، فأحدثت صدمة في إسرائيل التي قررت أن هناك ثمناً يجب أن يُدفع عبر تدمير الأذرع الإيرانية، ووجد “حزب الله” نفسه في موقف صعب، فتلقى الأمر بشن معارك ضد إسرائيل، لكنه لم يعلم بقرار الأخيرة.
كان الجميع ينتظر وقف إطلاق نار، فتلقى “حزب الله” ضربات جعلته يتحول من جسم هجومي يهدد الجليل إلى جسد بلا رأس قيادي يتعرض لضربات محكمة من الإسرائيليين.
ومع فشل جميع محاولات وقف إطلاق النار، يقاتل “حزب الله” للدفاع عن مكتسباته في لبنان بدلاً من القتال للحصول على مكسب إضافي، لذا خلال الأشهر الماضية رأينا تصفية إسرائيل لقيادات “حزب الله” واستهداف مقاره كافة من دون أن تتمكن أي دولة في العالم من إيقاف إسرائيل، وتراجع الحزب عن الحدود وهربت قاعدته الشعبية إلى مناطق أخرى وبدأت الضغوطات لتسليم سلاحه.
ومع أننا نرى أن الميليشيات لن تقوم بذلك، نعتقد بأنها قرررت خوض حرب حدود وكر وفر حتى تكتسب الوقت، وفي المقابل تسيطر على مناطق ليست مناطقها لتغير الجغرافيا وتدخل قوى عسكرية إلى مناطق أخرى.
في الملخص، “حزب الله” يقاتل على جبهتين، أولى مع إسرائيل هدفها الصمود إلى ما بعد الانتخابات الأميركية والاستفادة من الحرب لبسط سيطرة ديموغرافية ولكن قد تكون هناك مفاجآت للحزب لأن من سيدخل البيت الأبيض سيقرر ما إذا كان سيواصل دعم إسرائيل، والجبهة الثانية بحيث سيكون القرار للبنانيين الذين سيقررون ما إذا كانوا سيواجهون تمدد الحزب الديموغرافي وهذا سيشكل شروط معادلة لبنان ما بعد “حزب الله.”
نقلاً عن اندبندنت عربية