مقالات

“حزب الله” النشط في الحروب الإقليمية يتعثر على مداخل “عين الرمانة”

 
سوسن مهنا
 
كثرت مآزق “حزب الله” مذ قرر أن يكون لاعباً سياسياً على الساحة اللبنانية. ذلك الحزب الذي شارك في معارك عديدة خارج الأراضي اللبنانية منذ التسعينيات، يظهر كأنه مبتدئ في التعامل مع دهاليز السياسة اللبنانية، مبدياً عجزاً واضحاً عن فرض شروطه ومشروعه. وظن الحزب أن “فائض القوة” الذي اكتسبه عبر “جيشه” القادر على خوض حروب عصابات وحروب كلاسيكية، من سوريا إلى اليمن، يعطيه الحق بالتحكم بمفاصل السياسة اللبنانية. وسها عن باله أن “معاركه الخارجية” قد لا تعني اللبنانيين عموماً والسياسيين منهم خصوصاً، إذ إن لمعارك اللبنانيين خصوصية لم يتعلمها الحزب قبل بدء ممارسته العمل السياسي. يبدو ذلك واضحاً في عملية تلمسه “الزواريب السياسية” اللبنانية، ما أفقده كثيراً من هالته كحزب لا يعنيه إلا مشروع “المقاومة والتحرير”، إذا لم نقل كلها.
 
معارك إقليمية تولد شروخاً محلية
 
شارك “الحزب” في حروب كثيرة، بدءاً بحرب البوسنة، حين أرسل مقاتليه لمساعدة القوات الإيرانية في تدريب المسلمين هناك، وكان من بينهم علي فياض، الملقب بـ”علاء البوسنة” وهو من نخبة القادة في “الحزب”، الذي قتل فيما بعد في الحرب السورية في شهر فبراير (شباط) 2016. ومن ثم شارك “حزب الله” في الحرب العراقية إبان الغزو الأميركي عام 2003، فدرب الميليشيات الشيعية التي لعبت دوراً في الحرب السورية أيضاً بعد ذلك، إذ قاتلت إلى جانب “الحزب” و”الحرس الثوري” الإيراني. ومن ثم كان التدخل الأكبر في الحرب السورية، الذي جاء بعدما التقى الأمين العام للحزب حسن نصر الله، المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي في طهران في أواخر عام 2011 لاتخاذ قرار التدخل. ويشير نائب قائد “الحرس الثوري”، العميد حسين همداني، الذي قتل قرب حلب في أكتوبر (تشرين الأول) 2015، في مذكراته، إلى أنه في ربيع عام 2012، طلب منه خامنئي التشاور مع نصر الله الذي كان مسؤولاً عن سياسة “المحور المقاوم” في سوريا. وفي مايو (أيار) 2013، أعلن أن الحزب أرسل نحو 1700 مقاتل لدعم قوات النظام السوري في منطقة القصير. وفي خطابه في 25 مايو 2013، خلال إحياء الذكرى السنوية للانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، قال نصر الله “إن سوريا هي معركتنا ونحن أهل لها”. وأضاف متوجهاً إلى خصومه في لبنان، “طالما لدينا مواقف متباينة حيال سوريا، فلنتقاتل هناك، وليس هنا”. لكن “الحزب” لم يمنع الاقتتال من أن يدخل إلى لبنان، من خلال الانقسام العمودي الذي نشب بين الأطراف اللبنانية، لأن السنة في لبنان دعموا المعارضة السورية، فيما كان دعم “الحزب” واضحاً لنظام الأسد. هذا الشرخ بين السنة والشيعة نتج عنه خروج حركات سنية معارضة لتدخل الحزب في سوريا، منها حركة رجلي الدين، أحمد الأسير وسالم الرفاعي. كما اندلع القتال بين منطقتي باب التبانة (ذات طابع سكاني سني) وجبل محسن (ذات طابع سكاني علوي) في شمال لبنان، إضافة إلى اعتبار تدخل “حزب الله” في سوريا خرقاً لـ”إعلان بعبدا”، الذي ينادي بحياد لبنان ونأيه بنفسه عن الصراعات الإقليمية والدولية.
 
“الحزب” وحرجه ضمن بيئته
 
وأنتج التدخل في الحرب السورية أزمات للحزب داخل بيئته، لا سيما الأعداد المرتفعة لضحاياه، وبالتالي توافد النعوش بشكل “دراماتيكي”، إلى القرى اللبنانية الشيعية. وفي الشق المعيشي، لا تنفصل بيئة الحزب عن البيئة اللبنانية، التي تعاني في ظل أزمات اقتصادية متلاحقة منذ ما قبل اندلاع انتفاضة 17 أكتوبر 2019، إذ إنه في احتجاجات أغسطس (آب) 2015 خرج اللبنانيون بشعار “طلعت ريحتكم”، بعد فشل الحكومة في حل أزمة النفايات، وطالت التنديدات “حزب الله” ونوابه، ما انعكس بالدرجة الأولى في الانتخابات البلدية في عام 2016، حين فاز الحزب بفارق بسيط في مدينة بعلبك (شرق) إحدى أبرز معاقله، بينما نال خصومه 46 في المئة من الأصوات.
هذه النتيجة ستؤثر لاحقاً في الانتخابات النيابية في عام 2018، إذ تصاعدت الأصوات الغاضبة المستنكرة، مطالبة الحزب بالالتفات إلى جمهوره في ظل صعوبة الأوضاع المعيشية، إضافة إلى تحالفات الحزب مع المنظومة السياسية الحاكمة في لبنان المتهمة بالفساد.
استدعى ذلك تعهد نصر الله لجمهوره في الخطاب الذي سبق الانتخابات البرلمانية، بأن يضع الحزب مكافحة الفساد ضمن أولوياته، وأنه سيتابع هذه القضية شخصياً، واعداً أن يعمل نواب الحزب “على تحقيق الإصلاح السياسي والإداري في الدولة”. ومع ذلك، فإن الحزب مع كل “إنجازاته” في حروبه الإقليمية، لم يفز إلا بمقعد إضافي واحد في كتلته البرلمانية، علماً أنه استحضر في تلك الانتخابات كل مظاهر التجييش والاصطفافات، ولكن الأوضاع تفاقمت سوءاً لاحقاً، فانفجرت حكومة كان الحزب شريكاً فيها، واندلعت انتفاضة 17 أكتوبر 2019، في وجه الطبقة السياسية الفاسدة برمتها.
 
تحالف السلاح والفساد
 
وبدل أن ينصرف الحزب إلى “مكافحة الفساد” غرق في المستنقع السياسي اللبناني، متكلاً على سلاح لا يستطيع أن يرفعه في الداخل بوجه الشركاء في الوطن، إذ كان هاجس رفعه السلاح لأول مرة في الداخل، في السابع من مايو 2008، يضبط استعماله القوة المسلحة.
 
لكن لم يخلُ الأمر من الاعتداء على مدنيين، بخاصة خلال انتفاضة 17 أكتوبر، حين مارس “الحزب” عنفاً معنوياً وبدنياً، وأعمال شغب من تكسير واعتداء على ممتلكات خاصة وعامة، إلى رفع شعارات التخوين ضد كل من يبدي رأياً مخالفاً، ووصولاً إلى المسيرات الراجلة وبالدراجات النارية ورفع شعار “شيعة، شيعة”.
 
بداية المقاومة
 
لم يعتد “حزب الله” خلال مسيرته اللبنانية أن يواجه مباشرة من قبل مواطنين لبنانيين عاديين، إلى أن جاءت أحداث منطقة خلدة (جنوبي العاصمة بيروت)، في 1 أغسطس الماضي، بعد حادثة قتل علي شبلي المسؤول في “الحزب”، في جريمة ثأرية على يد شاب من آل غصن من عشائر العرب، فاستهدف موكب تشييع جثمان شبلي، ما أسفر عن مقتل أربعة من عناصر الحزب، وتمت محاصرة آخرين. تلا تلك الحادثة، ما جرى في قرية “شويا” الدرزية الجنوبية، في 6 أغسطس، عندما حاول أحد عناصر “حزب الله” عبور القرية براجمة صواريخ، أثناء عودته من عملية إطلاق صواريخ باتجاه إسرائيل، فواجهه بعض السكان المحليين بعنف، وأغلقوا الطريق بوجهه. وأشارت هاتان الحادثتان إلى أن الأمور متجهة إلى التصعيد، مع استفزازات الحزب المتكررة لمواطنين آمنين. وكان على الحزب الذي يتعامل مع بيئات متنوعة في لبنان بمنطق الغرور والاستقواء أن يتوقع انفجاراً بعد احتقان، عند خطوط التقائه مع تلك البيئات جغرافياً.
 
حادثة “عين الرمانة”
 
وهذا ما حصل في عين الرمانة (ذات الغالبية المسيحية شرقي بيروت). ولتلك المنطقة خصوصية حزبية شديدة الحساسية، كونها عرفت كمنطقة “خطوط التماس” إبان الحرب الأهلية (1975-1989). ما حدث حكي عنه كثيراً في وسائل الإعلام، وحاولت “اندبندنت عربية” التواصل مع المسؤول الإعلامي في “حزب الله” محمد عفيف، للاطلاع على رأي الحزب في الاتهامات التي سيقت إليه، ولكن حتى الانتهاء من إعداد هذا التقرير لم نحصل على إجابة. في حادثة عين الرمانة، التي وصفها مراقبون بأنها “حرب أهلية مصغرة”، وجِه الحزب بعنف مضاد، علماً أنه كان يتحاشى الصدام مع البيئة المسيحية، بخاصة في ظل ارتباطه بـ”التيار الوطني الحر” (حزب رئيس الجمهورية ميشال عون) منذ عام 2006 من خلال “ورقة تفاهم مار مخايل”.
ورقة التفاهم تلك أعطته “شرعية” الدخول إلى المناطق المسيحية، بعد أحداث عام 2005، وأبرزها خروج الجيش السوري من لبنان، وسلسلة الاغتيالات التي طالت قياديين في حركة 14 مارس (آذار) في مقدمهم رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري.
ويعلم الحزب جيداً أن محاولته اقتحام “عين الرمانة” في 14 أكتوبر الحالي، ستكون لها انعكاسات على كل تحالفاته مع الفريق المسيحي في البلد. وبدا أن “حزب الله” الذي يملك جمهوراً عريضاً، وترسانة واسعة من الأسلحة، وقدرة على ممارسة أعمال الشغب، ضعيف في الحلقة السياسية الداخلية، لأن بلداً مثل لبنان محكوم بالتوازنات الطائفية والمذهبية. لذا هزم الحزب في “زواريب” تلك المنطقة، وخسر ستة من عناصره، منهم محمد السيد الملقب بـ”سيكو” الذي قاتل في سوريا، إثر تعرضه لإصابة مباشرة من سلاح حربي، وذلك أثناء تسلله إلى مدخل أحد الأبنية حاملاً قذيفة “آر.بي.جي”.
وكان على الحزب أن يقدر أن هذا الكم الهائل من الشحن الطائفي اليومي ستكون له ارتدادات مضادة، لا سيما في ظل تداعيات قضية تفجير مرفأ بيروت.
وكان “حزب الله” أعلن أن تظاهرته الخميس الماضي، في 14 أكتوبر، “سلمية”، وهدفها الاعتراض على نتائج التحقيق في جريمة تفجير المرفأ وضد المحقق العدلي القاضي طارق بيطار، لكن تبين عكس ذلك، إذ إن عناصره كانوا مدججين بالسلاح.
حادثة “عين الرمانة” قد لا تكون الأخيرة، والحديث عن السلم الأهلي “الهش”، سيتردد طويلاً في المرحلة المقبلة. وقد لا يستعيد الحزب مشروعيته والتعاطف معه قبل مرور فترة طويلة جداً، لأن ذهنية التعجرف ومحاولة فرض القوة عبر حملات التخوين والتهديد لن تفيده هذه المرة.
 
* نقلا عن “إندبندنت عربية”
 

موضوعات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى