أهم الأخبارمقالات

حروب الستاتيكو

 

وليد فارس

إن تطور المواجهات العسكرية بين الميليشيات التي يحتضنها النظام الإيراني من ناحية والقوات الأميركية والحليفة من ناحية أخرى في معظم ساحات المجابهة في العراق وسوريا واليمن والبحر الأحمر وربما حتى إلى لبنان، هذه المواجهات يبدو أنها تدور حول تغيير الستاتيكو الذي كان قائماً بين واشنطن وطهران في منطقة الشرق الأوسط. وما يبدو واضحاً أيضاً أن القيادة الإيرانية بعد أن قيمت ما يجري في منطقة الشرق الأوسط من ناحية وداخل أميركا من ناحية ثانية، قررت شن هجماتها في جبهات المنطقة المتعددة بدءاً بغزة وبعدها سوريا والعراق واليمن.

ويبدو أن النظام الإيراني قرر تغيير الستاتيكو لأن الحسم النهائي مع واشنطن غير وارد حالياً، وبالمنهج نفسه فإن إدارة الرئيس جو بايدن التي لا تزال تفاوض مع إيران حول الملف النووي وتتمسك بعدم تفجير حرب شاملة، قررت الرد ضمن الستاتيكو المتفق عليه في اليمن والهلال الخصيب.

لكل من الطرفين أسباب تدفعهما للالتزام بتوازن القوى وعدم الخوض بمعارك وربما حرب شاملة تؤدي لكارثة على وجود الطرفين، النظام الإيراني يعرف تماماً أنه على رغم قدرته على الدفع بميليشياته وحرسه الثوري لمواجهة القوات الأميركية، وهي قليلة العدد في سوريا والعراق وغير موجودة في اليمن، هذا النظام يعتقد أن بإمكانه القيام بحملات تؤدي إلى تغيير الستاتيكو، وبالتالي تسجيل نقاط تحتاج إليها طهران عندما تبدأ بمفاوضات جديدة لوقف إطلاق النار واعتراف أميركي بأنها سجلت نقاطاً وبإمكانها الاحتفاظ بهذه النقاط. الشيء نفسه بالنسة إلى واشنطن، فهذه الإدارة كانت رسمت خطوطاً حمراء لحماية الستاتيكو وانزعجت من تحركات إيران التي خرقت الخطوط، وما تقوم به إدارة بايدن إعادة رسم الخطوط الجديدة بعد حشد النظام الإيراني لطاقاته، وعملت ميليشياته على إطلاق الصواريخ الباليستية، هذه الأعمال كانت ممنوعة في الستاتيكو السابق وبالتالي كان على أميركا ولا يزال حسم أمرها في ما يتعلق بأي موقع أو خط على واشنطن إعادة التموضع من خلفه.

إيران غير قادرة على حسم حرب مع واشنطن وهذا أمر معروف، أما الإدارة الأميركية الحالية فتعلم أن بإمكانها حسم الحرب مع طهران، ولكنها لا تريد أن تزج نفسها في حرب أوسع وأطول لأسباب داخلية أميركية، تتعلق بعدم قناعة المواطنين بهكذا حروب يعتبرها الإعلام حرباً عبثية ـ وكما قلنا مراراً إن الشراكة بين إدارتي بايدن وأوباما وحكام طهران تؤكد أن النظام في إيران مقتنع بوضع حد لبرنامجه النووي عند حصوله على المليارات، فالسلطة الإيرانية الحالية يهمها كسب أمرين، الأول المال الذي يأتي من المصارف حيث الأموال المجمدة التي تسمح أميركا بتحويلها، ومن ناحية أخرى تحظى طهران بحماية دولية كي لا تنهار المفاوضات لأن إيران لا تريد حرباً، لأنها قد تخسر عسكرياً باعتقادها وأيضاً تخسر الأموال التي ترسلها إدارة بايدن بواسطة هذه المفاوضات.

لذلك ومنذ عام 2015 قام نوع من الستاتيكو إذ تتعايش الميليشيات الإيرانية في سوريا والعراق واليمن مع قوات أميركية على الأرض في الهلال الخصيب أو في البحر أو الخليج، واشنطن في المقابل ترى الستاتيكو كمعادلة تسمح لها بأن تفرمل التوسع الإيراني من ناحية، ولكن من ناحية أخرى لا تقترب من حدود حرب شاملة مع الإيرانييين طالما أن هناك اتفاقاً قبل به من اللوبي الإيراني في واشنطن، مما يعني أن الطرفين وافقا على ستاتيكو لا يتحرك وإن كانت هناك أفعال إيرانية تؤذي أصحاب القرار في الدول الشريكة لواشنطن، لأن إداراتي أوباما وبايدن قبلتا بأن تدفع قوات حلفائها ثمناً معيناً إذا تحركت إيران نحو هذه الدول.

في العراق مثلاً قبلت إيران في الوجود الأميركي عندما كان تنظيم “داعش” قوياً وموجوداً ويهدد المناطق الشيعية، ولكن ما إن أنهت واشنطن حربها على “داعش” وتقلص وجود الأخيرة، بدأ تحرك الميليشيات الإيرانية في بغداد لإخراج أميركا من العراق. أما في سوريا وبعد أن ركزت “قوات سوريا الديمقراطية” على ما تريد تحقيقه، وبعد إزالة “داعش” من شرق سوريا، بدأ التنسيق بين نظام الأسد والإيرانيين لإخراج الأميركيين من شرق سوريا. أما في لبنان فلم تكن هناك حجة لتغيير الستاتيكو لأنه يصب في صالح “حزب الله”، وفي اليمن ساعدت واشنطن الحوثيين بشكل غير مباشر بعد رفع اسمهم من لائحة الإرهاب، وبالتالي إعطائه رصيداً جيداً في مقابل عدم التفكير باجتياح الجنوب من جديد.

الستاتيكو الذي تفاهمت عليه واشنطن وطهران يبدو أنه تغير لأسباب إيرانية، فقيادة الأخيرة حللت أن الأوضاع الإقليمية ستتغير، وبأنه بات من الضروري تغيير الستاتيكو في المنطقة بالنقاط وليس بالحسم، ومن أهم الأسباب أساساً احتمال تغير الإدارة في واشنطن بالانتخابات المقبلة، ومجرد انتصار الحزب الجمهوري ودونالد ترمب أو أي مرشح جمهوري، دفع بإيران للتقدم بالنقاط لعل ذلك يشكل ضمانة لها في أية مفاوضات مستقبلية بحال خسارة الديمقراطيين.

وهناك سبب آخر يتمثل بعودة الرياض لخط التفاوض مع إسرائيل للدخول في معاهدة إبراهيم أو صياغة اتفاق على النسق الإبراهيمي يؤدي إلى انفتاح على دول عربية وإسلامية. فطهران التي وقعت اتفاق تسوية مع السعودية تعرف أنها غير قادرة على شن عدوان على المملكة لأن الصين وروسيا ضمنا للرياض عدم تعرضها لأي اعتداء إيراني والعكس صحيح.

السبب الآخر هو غليان الشارع الإيراني مما دفع بالنظام وأجهزته لضمان تقدم أكبر في الإقليم من أجل حماية نظامهم في الداخل، إذ إنه من الممكن بالتزامن مع تغيير الإدارة في واشنطن قدوم إدارة أكثر دعماً للمعارضة الإيرانية، لذلك استعجلت إيران خوض حروب محدودة توفر لها قدرة دفاعية أكبر وقدرة تفاوض أعلى مع الإدارة الآتية في الخريف. أضف إلى ذلك أن القوات الأميركية في الشرق الأوسط قد تشكل رأس حربة إذا تبدلت البرامج في واشنطن، لذلك رأت القيادة الإيرانية أنه يتوجب عليها إضعاف هذه القوات وصولاً إلى إخراجها من المنطقة عبر التوصل إلى وقف إطلاق نار مع إدارة بايدن، وهذا أمر تعتقد إيران أن تحقيقه ممكن. لذلك ربما قررت القيادة الإيرانية شن كل هذه الحروب انطلاقاً من السابع من أكتوبر (تشرين الأول) عبر إرسال الأوامر لـ”حماس” لفتح جبهة على إسرائيل مما يسمح لـ”حزب الله” بفتح جبهة من جنوب لبنان، وتتبعها تحركات الميليشيات الإيرانية في العراق وسوريا، والأهم دولياً محاولة الحوثيين قطع الإمدادات الاقتصادية عبر استخدام الصواريخ الباليتسية لشل الاقتصاد العالمي. كل هذه الجبهات تهدف إلى إيجاد معادلات جديدة لحماية النظام في الخريف المقبل، ويذكرنا ذلك بما قامت به طهران في 2016 مع وضوح انتصار ترمب للانتخابات وتشكيل إدارة معادية للوجود الإيراني في المنطقة، وقتها سارع الإيرانيون لفرض ميشال عون رئيساً للجمهورية في لبنان كي يضمنوا ألا تقوم قوة لبنانية معارضة بالانقلاب على حكم “حزب الله” وإخراج النفوذ الإيراني من شرق البحر المتوسط. إذاً هذا السيناريو الذي طبقته في لبنان تحاول تنفيذه بطول وعرض الشرق الأوسط، وإذا تمعنا بما تحاول إيران القيام به في المنطقة من أجل توسيع خطوط الدفاع عنها، نرى أن السناريوهات التي تعتمدها طهران تختلف من بلد إلى آخر.

في غزة هدف حرب إيران عبر “حماس” هو عملياً الوصول إلى وقف إطلاق نار يحمي “حماس” على رغم أن الموضوع يعد مفارقة لأن إسرائيل تعمل على إخراج “حماس” من المعادلة، تعتقد طهران أنه بنهاية المطاف وإن خسرت “حماس” أجزاء مهمة، ستقلب المعادلة على إسرائيل عبر تدمية قواتها وإعادة صورتها على أنها قوة محتلة بشرط وقف النار، وربما تتحول “حماس” مع السلطة الفلسطينية إلى طرف مفاوض مما يحمي مصالح إيران شرق المتوسط.

في لبنان تفجير حرب محدودة بين “حزب الله” وإسرائيل لفرض الحزب كطرف مفاوض في الحرب الدائرة، حرب مدفعية، لن يؤثر في وجود الحزب في لبنان، لا سيما أن واشنطن لا تريد مواجهة تجبرها على التدخل، مما يسهم بحسب الاعتقاد الإيراني، بفرض “حزب الله” كطرف مفاوض يؤدي إلى إمساكه أكثر بالمؤسسات اللبنانية، وبالتالي يتمكن من التفاوض على النفط والحدود .

في العراق وسوريا الهدف الحقيقي إخراج القوات الأميركية من شرق سوريا والعراق، وذلك بناء على وقف إطلاق نار بعد التصعيد، والخطة تهدف إلى تصعيد سريع مما يفسر استهداف القوات الأميركية وقتل الجنود، في المقابل تصعد إدارة بايدن وترد من دون حسم. التصعيد من دون حسم يعطي إيران قدرة على دخول المعادلة قبل الانتخابات.

أما في ما يتعلق بالحوثيين، فالخطة الإيرانية واضحة وهي تدفع بالحوثييين لقطع الشريان الاقتصادي الكبير والاشتباك المحدود مع القوات الأميركية، وطهران تعرف أن إدارة بايدن لن تدخل في مواجهة كبرى، وبالتالي يضمن للحوثيين الاعتراف بدورهم في حكومة مركزية مقبلة، وإيجاد صفقة تمكنهم من الاستمرار بإدارة البلاد أو جزء منها.

الهدف الإيراني والواقع على الأرض

هذا كان ملخصاً محتملاً لخطة إيران الاستراتيجية لتغيير الستاتيكو من دون حرب شاملة، ولكن السؤال هو هل الوقائع على الأرض تسمح لإيران بالوصول إلى أهدافها؟ هذا أمر يصعب التكهن به لعدم معرفة رد فعل إدارة بايدن على خطط إيران، ومن الواضح أن اللوبي الإيراني سيسعى إلى إقناع البيت الأبيض بخطة إيران لحماية الستاتيكو الجديد، مما يقنع البيت الأبيض بإنهاء الحرب من دون خوض حرب أكبر، مما يعطي للمرشح الديمقراطي فرصة القول إنه أنهى حرباً سعت إليها إيران عبر اتفاق جديد. ولكن في المقابل بعض الأجهزة الاستخبارية والبنتاغون يعتقدون أن تحرك إيران برهن عن نية خطرة تجاه واشنطن، وهذا الجانب من الإدارة يطالب بايدن بعدم قبول أي اتفاق مع إيران، إلا إذا تراجعت إلى ما دون الستاتيكو القديم. هذا الانقسام سيسمح للكونغرس الأميركي بأكثريته الجمهورية الضغط على الإدارة لدفع إيران وأهدافها نحو الوراء.

الأوضاع الآن غير واضحة في ما يتعلق بأهداف إدارة بايدن النهائية، لا سيما أن الانقسام الداخلي سيؤدي إلى نقاش عام في الكونغرس، وأياً تكن الأوضاع فإن إيران ستواجه مشكلة تتلخص بأن الإدارة التي تريد شراكة مع إيران تواجه مشكلات داخلية تفيد المعارضة الجمهورية ومرشحها.

وبما لا لبس فيه، فإن الأسابيع المقبلة ستحمل لنا نتائج مهمة، فإما قد نرى اتجاهاً نحو التصعيد الأميركي لتحسين موقع واشنطن وحلفائها في الستاتيكو، أو فوضى في القرار الأميركي، لا سيما وأن الكونغرس يصر على عدم السماح لإيران بتسجيل نقاط قبل الانتخابات. هذا تقديرنا حول المعادلات المعقدة في واشنطن التي تقرر سياسية أميركا في الأشهر التسعة المقبلة. وجدير بالذكر أن الدول المواجهة لإيران في المنطقة قد تلعب دوراً كبيراً كالقرار الإسرائيلي في غزة، وقرار الدول العربية في ما يتعلق بقبول التعديل الاسراتيجي الحوثي في جنوب الجزيرة العربية.

نقلاً عن اندبندنت عربية

موضوعات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى