حرب غزة 2023… اختبار جديد لأخلاقيات السياسة الإيرانية
هدى رؤوف
منذ الثورة الإيرانية، سعت النخبة الحاكمة في إيران إلى إضفاء الصبغة الأخلاقية على سياستها الخارجية التي تتجاوز حدودها الجغرافية، حتى يتسم السلوك الخارجي بقوة أخلاقية وشرعية أمام الشعوب الأخرى.
وتمثل تداعيات عملية “طوفان الأقصى” التي نفذتها حركة “حماس” في إسرائيل في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي تحدياً كبيراً واختباراً للأفكار والقيم التي أسس عليها النظام الإيراني منذ 1979، وربما تنتهي العملية العسكرية في غزة بتقويض صدقية هذه الأفكار إذا استمرت إيران في انتهاج رد الفعل نفسه من القصف الإسرائيلي على القطاع.
يمكن من خلال التعرف إلى القيم والأفكار التي جاءت بها النخبة الإيرانية ومقارنتها بالتطبيق العملي إدراك مدى أزمة الصدقية التي تمس الدور الإقليمي لإيران الذي كثيراً ما روجت له.
أقيم النظام الإيراني منذ تأسيسه على محاور عدة، أهمها العداء لإسرائيل والولايات المتحدة من جهة وتصوير إيران أنها ذات رسالة دينية سامية مصدرها الله، وأنها تسعى إلى تطبيق رسالة الله في الأرض وأنها ذات مسؤولية، ولتوظيف تلك الأفكار عملياً نفذت سياسة نشطة خارج حدودها عبر آليات ارتبطت بمبادئ نصرة المستضعفين ومقاومة الاستكبار العالمي والاستعمار، فضلاً عن تقديم ذاتها باعتبارها تمثل مركز المقاومة في الشرق الأوسط.
صور النظام ذاته كنموذج للمقاومة والديمقراطية، فيرى المرشد أن الهوية الإيرانية تتبع مركزاً متميزاً بين الدول الأخرى مثل فلسطين والعراق ولبنان، فكلهم يتشابهون مع النموذج الإيراني في المقاومة.
ودارت أفكار الخميني وخامنئي بوضوح حول هذا المفهوم باعتبار أن القوى الغربية المتغطرسة بحسبهما لم تحتمل وجوداً قوياً آخر يعمل ضد مصالحها غير المشروعة في المنطقة، وهي القوة التي أنشئت في إيران بعد الثورة، وأن الخطر على الغرب ليس إيران، بل انتشار الصحوة الإسلامية في العالم الإسلامي.
عملت طهران على توظيف أي تطورات في المنطقة وربطها بالدور الإيراني، فصورت صعود الإسلاميين في المنطقة منذ نجاح “حماس” في غزة و”حزب الله” في لبنان والإخوان في انتخابات 2005 بمصر، على أنه انعكاس لتلك الصحوة وأن الفضل يرجع إليها لكونها العامل المساعد لها، وأن القوة الناعمة لطهران المتمثلة في الأيديولوجيا ورؤيتها للشرق الأوسط، تتقاسمها الغالبية العظمى من الشارع العربي والإسلامي الذي اجتاحته موجة من النهضة الإسلامية.
وعملت إيران على تكرار هذا المعنى مع اندلاع التظاهرات في دول المنطقة منذ عام 2011، فتحدث خامنئي عن المشتركات ما بين الثورة الإسلامية في إيران وحركة الشارع في مصر، وأن نهضة الشعوب هذه هي حرب بين إرادتين، إرادة الشعب وإرادة أعدائه. واعتبر أن تلك الانتفاضات هي استكمال للثورة الإيرانية.
وعملت إيران كذلك على تشكيل جماعات مسلحة في كثير من الدول العربية على أسس دينية طائفية مثل “حزب الله” والميليشيات العراقية وغيرها في سوريا، فضلاً عن دعم جماعات المقاومة في فلسطين، نظراً إلى إدراك إيران محورية ومركزية القضية الفلسطينية بين الشعوب العربية.
تعتمد طهران على هذه الأفكار لدعم تصور النخبة الحاكمة لذاتها ومكانتها في العالم، وتعتبر أن لديها موقفاً استثنائياً وفريداً يحملها رسالة دينية وإسلامية وإنسانية تجاه المستضعفين في العالم، ويظهر ذلك بصورة جلية في دستور الجمهورية الإيرانية، فالمادة الثالثة الجزئية (16) منها نصت على أن “تقوم الحكومة بتنظيم السياسة الخارجية على أساس المعايير الإسلامية والالتزامات الأخوية تجاه جميع المسلمين والحماية الكاملة لمستضعفي العالم”، ونصت المادة (154) على أن “الجمهورية الإسلامية تقوم بدعم النضال المشروع للمستضعفين ضد المستكبرين في أية نقطة من العالم، وفي الوقت نفسه لا تتدخل في الشؤون الداخلية للشعوب الأخرى”.
لذا فعلى مدى نحو شهر من القصف الإسرائيلي على غزة الذي راح ضحيته آلاف المدنيين في القطاع، لم تتدخل إيران بصورة حاسمة لنصرة المستضعفين ولدعم أحد عناصر محور المقاومة الذي شكلته في المنطقة أي “حماس”، حتى بات التساؤل الآن، هل يمكن أن تضحي إيران بالحركة وتسمح لإسرائيل بتنفيذ هدفها المعلن بالقضاء على الحركات المسلحة الفلسطينية.
وتمثل الحرب في غزة اختباراً مهماً لمحور المقاومة، فدستور إيران يلزمها التدخل لمنع انهيار “حماس” وإثبات فاعلية المحور، في المقابل لا تريد طهران أن تكون هدفاً لتل أبيب وواشنطن الآن، أو حتى “حزب الله” لذا فهي تدعم السياسة التي ينتهجها الحزب اللبناني لكن من دون الدخول في الحملة الشاملة وفي الوقت نفسه تحاول أن تنأى بنفسها عن التورط في الحرب.
فبعد شهر من الحرب ما زالت إيران تردد التصريحات التي تروج لأفكارها الثورية والمقاومة، وجاء في كلمة لخامنئي أن الأحداث الجارية في غزة ليست ساحة غزة وإسرائيل، بل هي ساحة الحق والباطل وساحة قوة الاستكبار وقوة الإيمان.
لكن إلى جانب هذه التصريحات تعمل إيران على تحركات دبلوماسية لوزير خارجيتها للتنسيق مع الدول لوقف الحرب، على رغم أنها دائماً ما روجت أن تل أبيب لا تعي سوى لغة القوة وليس الدبلوماسية.
ويستمر وزير الخارجية الإيراني في التهديد في حال الاجتياح البري لغزة، ويهدد بأن إسرائيل ستتفاجأ مرة أخرى لأن “المقاومة مستعدة لإجراء مفاجئ جديد” والذي اعتبر أنه سيغير ميزان الصراع.
السؤال، هل إيران مستعدة للمواجهة مع إسرائيل وواشنطن من أجل “حماس” أو وقف القصف على غزة؟ حينما اغتالت الولايات المتحدة قاسم سليماني، لم تعلن إيران الحرب أو المواجهات العسكرية بل فقط ضربات صاروخية محدودة على قاعدة عين الأسد في العراق، وقيل حينها إنها أخبرت واشنطن عن طريق بغداد بالقيام بالهجوم مسبقاً.
تعي إيران أن تصعيد الصراع سيعني أنه سيتعين جر “حزب الله” في لبنان والحوثيين في اليمن والميليشيات في العراق وسوريا، أي أن الدخول في حرب محتملة مع إسرائيل سيكون أيضاً مواجهة مع القوات الأميركية.
ذكر البيت الأبيض أن الرئيس الأميركي جو بايدن بعث برسالة مباشرة إلى القيادة الإيرانية حذرها فيها من استمرار الهجمات ضد أهداف أميركية في الشرق الأوسط ومن استغلال الظروف وأوعز إلى ـ”حزب الله” بتجنب توسيع الحرب ضد إسرائيل وعدم استمرار الهجمات على أهداف أميركية لأن الولايات المتحدة سترد، وكذلك صرح بلينكن في خطابه أمام جلسة خاصة لمجلس الأمن بأن الولايات المتحدة لا تسعى إلى مواجهة مع إيران، لكنه أكد أنه إذا استمرت طهران ووكلاؤها في مهاجمة أهداف أميركية، فإن الإدارة ستتحرك.
لذا من المرجح حينما تنتهي حرب غزة بكل ما فيها من تداعيات، سيكون من الواضح أن إيران تجيد توظيف الأفكار والقيم والشعارات المرتبطة بالعدالة والمقاومة والإنسانية والمستضعفين من أجل تحقيق المنافع الخاصة بها وليس من أجل قضايا المنطقة، وستكون هناك نظرة تقييمية لمدى قوة وتماسك محور المقاومة ومدى استعداد طهران لنصرة القضايا العربية.
الأمر نفسه تكرر من قبل حينما اندلعت التظاهرات الشعبية في 2011 والحروب الأهلية في بلدان عربية عدة، هنا برز الوجه الطائفي للسياسة الإيرانية فدعمت على أساسه التظاهرات في البحرين واليمن في حين قمعتها في سوريا، وسقط حينها ما يسمى محور المقاومة الذي اصطف على أساس طائفي فقط، لذا ربما تسقط حرب غزة هذه الشعارات مرة أخرى وتؤكد نفعيتها وليس مثاليتها.
نقلا عن إندبندنت عربية