ايران و أقليات هلال الخصيب
وليد فارس
منذ سنوات ونحن نسمع في واشنطن عن نظريات تزعم أن نظام بشار الأسد يحمي المسيحيين والأقليات في سوريا، وأن “حزب الله” دافع عن مسيحيي البقاع من تنظيم “داعش”، وأن ميليشيات “الحشد” في العراق حمت الإيزيديين والمسيحيين وأعادت لهم مناطقهم من “الدواعش”، وسُمع أيضاً في العاصمة الأميركية أن إيران تحمي أكراد العراق وسوريا من تركيا، وأن نظام الملالي رحوم ورحيم بحق مسيحيي ويهود إيران، وأنه لولا الجمهورية الإسلامية الخمينية لتمّ محو أقليات “الهلال الخصيب” من بلاد ما بين النهرين إلى البحر الأبيض المتوسط. طبعاً هذا الانتاج السينمائي خرج عن أجهزة البروباغندا الإيرانية والمنظمات الرديفة لها لهدفين، الأول إخافة الأقليات من ناحية، وحثها على التعامل مع “المحور”، ومن ناحية ثانية “استعمال” ملف الأقليات المشرقية، وبخاصة المسيحية، لاستعطاف الرأي العام الغربي، ولا سيما الإنجيلي والكاثوليكي، بسبب التهديد الذي يستهدف هذه المكونات غرب إيران وشمال الجزيرة العربية. عملياً هو إقحام المسيحيين المشرقيين كورقة تستعملها طهران رمزياً لردع الغرب عن اتخاذ خطوات ضد الملالي وأبواقهم في المنطقة، تحت معادلة “إيران تحمي المسيحيين والأقليات، لذلك لا يمكن ضرب إيران ومحورها”.
والجدير بالذكر أن قيادات كنسية كهنوتية ومقامات عليا زارت واشنطن، بخاصة منذ انفجار حروب “الربيع العربي” في 2011، ولا سيما في سوريا والعراق، وأسمعت أعضاء الكونغرس والإدارة كلاماً عن حماية الأسد للأقليات، بمن فيها الدروز والمسيحيون والعلويون من التكفيريين (الجهاديون في الخطاب الغربي)، وحماية الحكومة العراقية المتحالفة مع إيران للأقليات المسيحية والإيزيدية، والمعلوم أن المحور الإيراني ضغط على الكنائس من طهران إلى بغداد فدمشق، وقليل منها في لبنان، لتتراكض إلى الغرب و تدافع عن دور “المحور” في حماية الأقليات، ولعل غزوة “داعش” في سوريا والعراق منذ 2014، أعطت دفعاً مفهوماً لهذه الأصوات داخل الغرب، إلا أن دفعاً آخر داخل الولايات المتحدة سمح لهذا الجو أن يتكثف، وهو لوبي الاتفاق النووي الإيراني الذي سعى منذ العام 2015 ليعلل “أهمية دور إيراني ما في مساعدة المسيحيين في المنطقة”.
وأقام اللوبي الإيراني مع شبكات من مؤيدي هذا الدور للمحور الإيراني في “حماية أقليات المشرق”، في واشنطن والعواصم الأخرى، وتوصل إلى بثّ هذه المقولة عبر الصحافة والإعلام في الغرب، وتم تنظيم مؤتمرات حول حماية المسيحيين كغطاء لتمرير الدور الإيراني، وقد أغضب ذلك عدداً واسعاً من أعضاء الكونغرس، وعلى رأسهم السناتور تيد كروز، وحاول اللوبي الإيراني وملاحقه العراقية والسورية واللبنانية أن يصوروا لقواعدهم في المنطقة أن لديهم “نفوذاً في الكونغرس”.
الاستراتيجية الإيرانية
إن الـ 40 سنة الماضية، وبخاصة العقود الثلاثة الأخيرة، أعطتنا صورة واضحة حول الاستراتيجية الإيرانية لاختراق أقليات بلاد “الهلال الخصيب” في العراق وسوريا ولبنان، وهي الدول الجسر بين إيران والمتوسط، والتي تسمح للإمبراطورية الخمينية أن تصل إلى السواحل التي تطل على أفريقيا وأوروبا، وتوفر “جبهة” على حدود إسرائيل، وأخيراً، قاعدة سيطرة على موارد الغاز البحري الهائل، ففي هذه الدول الثلاث، الأعضاء في الجامعة العربية، طوائف مسيحية وإيزيدية ودرزية، إضافة إلى الأكراد، والخطة الإيرانية تقضي بإخافة الطوائف المسيحية في المشرق من ناحية، والضغط على قياداتها لترويضها باتجاه خدمة مصالح المحور، وجاءت مجازر واغتيالات “داعش” بحق الأقليات منذ صيف 2014 في كل من العراق وسوريا لتقنع عدداً من أبناء هذه الطوائف بأن خيار “الحماية الإيرانية” هو الوحيد المتوافر، أما الكسب الاستراتيجي للسيطرة على الأقليات في “الهلال الخصيب” وامتلاك قرارها القومي فيأتي بملفين، الأول ضمّ الجيوب الجغرافية والأجسام الديموغرافية والقدرات الاقتصادية والطاقات البشرية والتقنية، وأخيراً التجنيد الاستخباراتي، لهذه المجموعات البشرية من بغداد إلى دمشق، فبيروت، إلى عمّان فالأراضي الفلسطينية، ونظراً لكون الطائفة الشيعية، حيث يتمدد الخمينيون، أصغر حجماً بالمقارنة مع الطائفة السنيّة في المنطقة العربية، فإن ضمّ الأقليات بمن فيها المسيحيون سيزيد الحجم الديموغرافي للمحور، طبعاً بنظر طهران.
أما المكسب الاستراتيجي الثاني لإيران من “ضمّ” الأقليات إلى المحور، فسيكون في الغرب كما أسلفنا، حيث يتم استعمال ممثلين متعاونين من هذه الطوائف لتأمين الدعاية الإيجابية لمصلحة المحور، وتصويره كقوة حامية لهذه الأقليات، وبالتالي حليفة للغرب.
واقع الأقليات الصعب
من الواضح تاريخياً أن هذه الشعوب الصغيرة حجماً بسبب الظروف الجيوسياسية قد مرت بمراحل معاناة قاسية وهائلة الأخطار منذ قرون، فمن ممالك ودول واسعة تحولت إلى جيوب إثنية ودينية موزعة ضمن دول حديثة تسيطر عليها قوى استبدادية متنافسة، وإن كانت كل الأقليات عانت الأمرّين، فبعضها اقترب من الاقتلاع والإبادة والانقراض، ولا بد من إصلاحات المنطقة أن تعيد النظر بقضايا هذه المجموعات في أول فرصة مناسبة، فالموجة الأخيرة “الداعشية” وامتداداتها التكفيرية وممارسات الحركات والميليشيات الإخوانية في المنطقة، شكلت خطراً حقيقياً بحق هذه الطوائف، وهذا أمر واضح ومعروف، إلا أن الخطر الارهابي الثاني، أي الوجه الآخر للقمع “الإسلاموي”، يشكل الآن خطراً من نوع آخر، ونوعاً من العبودية السياسية والاقتصادية التي تنتهي بالتطهير العرقي لهذه الشعوب الصغيرة. فحيث الخطر التكفيري واضح وغبي ومرفوض عالمياً، فإن الخطر الخميني “الباسدراني” على الأقليات والمسيحيين بخاصة، بات الخطر النهائي، لأنه بعكس التكفيريين (الجهاديين في الخطاب الغربي)، يلبس لباس النعجة بينما هو ذئب كاسر، لا فرق بينه وبين غريمه “الداعشي” في الهدف النهائي، والفارق الوحيد أن التنين الخميني يضرب الأقليات على مراحل، ويصور نفسه بأنه حاميها، فهو يمارس بحقها أعمق نوع من أنواع التقية السياسية. أضف إلى ذلك حنكة النظام الإيراني في تجنيد المتعاونين من بين هذه الطوائف، وتقسيم صفوفهم كما أنجزوا في دول المشرق الثلاث منذ 49 عاماً، إلا أن هذه المجتمعات شكلت مقاومات شرسة ضد محور طهران على مراحل عدة وفي أشكال مختلفة، فمن لبنان الثمانينيات إلى شرق سوريا وشمال العراق بعد العام 2011، وقفت قوى الأقليات الحرة، عندما تمكنت من ذلك، بوجه محور الأسد – “حزب الله” – “الحشد” – “الباسدران”، و أنجزت قواها، على الرغم من محدودية قدراتها، نتائج مهمة على الأراضي المشرقية وفي ديار “الدياسبورا” (الاغتراب)، فما هي ساحات المواجهة الأساسية بين إيران والمشرقيين في “الهلال الخصيب”؟
بلاد النهرين
لإيران استراتيجيتان تجاه أقليات العراق، واحدة تجاه الأكراد وأخرى تجاه الطوائف الأصغر حجماً، أي المسيحيين والإيزيديين، وبالنسبة إلى الأكراد فطهران تعتبر أن مجرد وجود كردستان عراقي يشكل تهديداً للنظام، لكونه نموذجاً لأكراد إيران، وبالتالي فسياسة إيران منذ 2003 تجاه كردستان كانت أن تحاول تحجيمها، إذ إن توسع “البيشمركة” كان يُنظر إليه كحاجز أمام “الباسدران” في بناء الجسر البري الكبير بين طهران وضاحية بيروت الجنوبية، فقبلت إيران بالنظام الاتحادي في بغداد على مضض لأنه يوفر قاعدة جغرافية لإقليم كردستان، وما إن انسحبت إدارة باراك أوباما من العراق في 2011 حتى بدأت الميليشيات الشيعية المرتبطة بإيران الضغط على حكومة أربيل، إلا أن اجتياح “داعش” في 2014 فرض على “القوى الإيرانية” في العراق أن تتعاون مع “البيشمركة”. ومع انحسار “داعش” بدأ “الحشد الشعبي” بالتقدم باتجاه كردستان من جديد، وطرد القوات الكردية من كركوك بعد الاستفتاء الشعبي، أضف إلى ذلك مدّ النفوذ الإيراني داخل كردستان الشرقية في محاولة لفصل السليمانية عن أربيل.
أما في ما يتعلق بالأقليات المسيحية، فتوزعت على محورين، الساكنون في بغداد والبصرة، والقاطنون في سهل نينوى في الشمال من مجموعات أشورية وكلدانية وسريانية، فسيطرت الميليشيات الإيرانية أولاً على مسيحيي الوسط والجنوب عبر المؤسسات الحكومية، وزادت الضغط على السياسيين، وكما قال البطريرك الكلداني لويس روفائيل ساكو، كانت عائلات هذه الميليشيات في منازل المسيحيين الذين تركوها في محاولة لإجراء تغيير ديموغرافي، ونظم “الحشد” ميليشيا “مسيحية” تابعة للمعسكر الإيراني، كما نظم النازيون ميليشيات من بين الشعوب التي غزوها خلال الحرب العالمية الثانية، ووعدت إيران المسيحيين في الشمال بأنها ستقيم منطقة خاصة بهم، كما وعدت الإيزيديين بمنطقة ذاتية في سنجار أيضاً عبر “فيدرالية عراقية”، ولكن شرط أن يطّلقوا الأكراد في الشمال، ولكن ما إن انسحب “داعش” من نينوى وسنجار حتى تقدمت ميليشيات “الحشد” إلى المنطقتين، ووطنت أنصارها في قرى الأقليات المسيحية والإيزيدية، ورفضت الانسحاب، فانكشفت خدعة تأليف “قوة عسكرية” للأقليات، ووعد الفيدرالية الجغرافية، إذ إنه في الوضع الحالي تمنع الميليشيات الأقليات من العودة الفعلية إلى بغداد والبصرة، وفي الشمال تمنعهم من العودة إلى معقلهم التاريخي، وتتصدى لإعطائهم “كانتونين” كانت وعدت بهما عندما كانت تواجه “داعش”، والمفارقة أن أربيل هي المنطقة الوحيدة التي تأوي مئات الآلاف من الكلدان والأشوريين والسريان والإيزيديين، على الرغم من محاولات إيران خلق فتنة بين الأكراد و سائر الأقليات، فـ “داعش” هجّر مسيحيي الشمال، وطهران تحافظ على بقائهم مهجّرين.
سوريا
في سوريا، السياسة الإيرانية تجاه الأقليات تتبع العقيدة الاستراتيجية نفسها، دعم العلويين (مؤيدو الأسد) في السلطة وفي الساحل السوري، وإبقاء المسيحيين في الوسط ودمشق في إطار ممسوك من جهاز البعث، والعمل على إضعاف وتبديد المقاومة العسكرية السريانية الأشورية الحليفة لأكراد “سوريا الديموقراطية” في الشمال الشرقي. فمنذ استيلاء حافظ الأسد على السلطة في الشام عام 1970، حاول النظام أن يقنع مسيحيي المدن بأنه ضمانة لهم “بوجه السنّة”، إلا أن مسيحيي الشمال الناطقين بالسريانية لم يتعايشوا مع البعث عقائدياً، وكذلك لم يؤيد أكراد الشمال نظام الأسد الذي رفض الاعتراف بهويتهم وبهوية السريان، ومع إطلاق المحور السوري -الإيراني عام 1979 تصاعد الضغط على أقليات الشمال، وعندما انفجرت الثورة السورية التي تحولت إلى حرب في 2011، توزعت الأقليات إلى منطقتين، فمن كان في مناطق النظام ذُعر من التكفيريين و”داعش”، واتكل على “حماية الأسد”، ومنهم من اتحد في الشمال الشرقي بين الأكراد والسريان وقبائل عربية لمواجهة “داعش”، والانفصال عن النظام البعثي والوجود الإيراني، وسياسة طهران هدفت إلى توطين مناصرين شيعة مكان السنّة من ناحية، وإضعاف منطقة الأقليات في الشمال من ناحية أخرى.
أكثرية الأقليات، من كردية ومسيحية، مع بعض القبائل العربية السنيّة، انفصلت عملياً عن النظام وأنشأت شبه دولة لها ما بين الحسكة والبادية، وواجهت هذه المنطقة الحرة من سوريا “داعش” وكسرته، ولا تزال تقاوم عودة البعث السوري والميليشيات الإيرانية إليها. النظام وإيران يهمسان عن وعد “فيدرالي” إذا عاد الأكراد والسريان إلى سوريا الأسد، ولكن أقليات الشمال لا تثق “بالمحور” لأنها رأت ما حلّ بأقليات العراق، وما حصل في لبنان للذين وثقوا بوعود طهران.
لبنان
في هذا البلد الصغير حجماً والكثيف في أزماته وتعقيداته، لا توجد طائفة واحدة أكثرية، كتلتان أساسيتان، مسيحية وإسلامية تعايشتا منذ استقلال 1943، الكتلة المسلمة تتوزع على شيعة وسنّة ودروز، والكتلة المسيحية تضم العديد من الطوائف، أكبرها الموارنة والأرثوذكس والملكيون. الحرب اللبنانية في جولاتها المتعددة فتحت ثغرة لنظام الأسد ليقتحم لبنان ويشتبك مع القوى السنيّة من فلسطينيين ولبنانيين مسلمين منذ العام 1975، وبعدها أطلق الأسد مناوراته ليقسم أخصامه ويقضم ويهضم، فاحتال على المسيحيين بإخافتهم، ووعدهم بأنه “سيحميهم” قبل أن ينقلب عليهم ويقصف مناطقهم، ومع دخول “الباسدران” إلى البقاع عام 1980 باتت سياسة المحور تجاه المسيحيين تتمثل في الوعد باتفاقات تعترف بخصوصياتهم، ومن ثم تقسيمهم والانقضاض عليهم، وهذا ما حصل لسنوات عدة حتى اجتياح أكتوبر (تشرين الأول) 1990، حين سيطر المحور على بيروت والدولة اللبنانية، وذهبت كل وعود الاعتراف بالخصوصيات أدراج الرياح، إلا أن المحور نجح بجمع كتلة من المسيحيين “المتعاملين مع إيران و الأسد” ما بعد الحرب، أمنّت غطاء سياسياً للسيطرة على البلاد.
ولكن معارضة مسيحية شديدة للاحتلال السوري التقت مع القيادات السنيّة والدرزية وبعض الشيعة الليبراليين، وفجروا “ثورة الأرز” ضد نظام الأسد الذي انسحب من لبنان عام 2005، وأبقى “حزب الله” وراءه، فاستفردت إيران بالوضع وعملت على تفريق المسيحيين واستقطابهم تدريجياً للتحالف معها، ونجاحها الأكبر كان في ضرب وحدة “ثورة الأرز” عبر استيعاب “التيار الوطني” المؤيد للعماد ميشال عون، وإيصال هذا الأخير إلى رئاسة الجمهورية، مما قسّم المسيحيين مرة جديدة، وذهبت طهران إلى أبعد من ذلك، إذ إنها، وكما في العراق، بدأت تعِدُ التيار الأكثر مقاومة لإيران في المجتمع المسيحي بأنها تقبل بإقامة فيدرالية في لبنان، شرط أن ينهي المسيحيون مقاومتهم لـ “حزب الله”، وتسعى جالياتهم في أميركا إلى رفع العقوبات عنه، وكما في العراق، فإيران تعمل فقط للسيطرة على البلاد مستعملة الأقليات، وهي تعد وتنقض على وعدها.
في الخلاصة، تمكّن النظام الإيراني من إضعاف الأقليات في “الهلال الخصيب” لسنوات، وتمكن من تجنيد جماعات محدودة ضمن هذه الأقليات لتنفيذ أجندته، ولكن في نهاية المطاف فإن الاتجاه الطبيعي لهذه الشعوب الصغيرة المستضعفة هو نحو الحرية أينما وجدتها، وقد تغرر طهران بالتخويف والترغيب، ولكن هذه الأمم الفخورة التي اختبرت التاريخ لن تسلِم مستقبلها للخمينيين، بل ستحاول الوثوب إلى أية صخرة حرية، عندما تجدها.
المصدر: اندبندت عربية