انتفاضة تموز الأحوازية… الأسباب والمآلات(1)
جواد الحيدري
يشهد إقليم الأحوازإندلاع انتفاضة واحتجاجات عارمة منذ منتصف شهر تموز(يوليو) الفائت، وهي مستمرة حتى هذه اللحظة، على الرغم من استشهاد عدد من الشباب واعتقال السلطات الايرانية مئات الأحوازيين وتنفيذ المداهمات واستقدام قوات التدخل السريع من الأقاليم الفارسية والعناصر الميليشيوية الولائية من العراق.
فما هي الأسباب والأهداف الحقيقية لهذه الإنتفاضة الأحوازية؟ هل هي احتجاجات مطلبية جاءت اعتراضاً على الجفاف وشح مياه الشرب وتراجع هطول الأمطار وانقطاع الكهرباء كما يروج لها الإعلام الفارسي التابع للنظام الإيراني والمعارضة الفارسية بكل أطيافها أم أنها انتفاضة لها أسباب وأهداف سياسية وقومية وإجتماعية وثقافية وبيئية وجذور تاريخية؟
الأحواز هي موطن الشعوب السامية كما هي الحال بالنسبة الى بلاد مابين النهرين، و العيلاميون الذين شيّدوا أحد أهم وأعرق الحضارات البشرية القديمة، وكانت عاصمتهم “سوسة”، مدينة السوس الأحوازية. وقد قطنتها القبائل العربية قبل مجيء الإسلام، وكان أبرزها بكر بن وائل وبنو حنظلة وبنو العم. وتحررت على يد الصحابي الجليل أبي موسى الأشعري في العام 637م، وأصبحت جزءاً من الوحدة العربية الإسلامية حتى العام 1258م.
ولقد تأسست الدولة العربية المشعشعية في الأحواز العام 1436م، واستطاعت أن تبسط سيطرتها على الأحواز والبصرة وواسط. وظلّت تحافظ هذه الإمارة على استقلالها ولم تخضع للعثمانيين والصفويين أبداً، وأجبرت الدولتين المذكورتين على الإعتراف بسيادتها واستقلالها في معاهدة “مراد الرابع” في العام 1639م. وكذلك، تأسست في هذا الإقليم الدولة الكعبية في العام 1724م، بعد سقوط حكم المشعشعيين. هذه الدولة العتيدة حافظت على استقلالها وسيادتها رغم الحروب والصراعات والنزاعات التي كانت تدور بين العثمانيين والفرس. وكان الشيخ خزعل الذي أصبح أميراً على الأحواز في العام 1897م، أبرز أمراء الدولة الكعبية، وفي الوقت ذاته، أخر حاكم للأحواز.
يُعتَبر الشيخ خزعل حاكم الأحواز القومي ورمز سيادتها الوطنيّة. فحينما عملت الدولة الفارسية بقيادة رضا خان، -مؤسس الأسرة الملكية البهلوية-، على إقصاء الشيخ خزعل واحتلال الأحواز بالتواطؤ مع بريطانيا، أعلنَ الشيخ خزعل مقاومتَه سياساتِ بلادِ فارسِ التوسعيّة، وقام بعرضِ قضيّتِه على عُصبةِ الأمم، لكنّهُ لم يفلح في مسعاه، ليحتل رضا خان شاهِ ما تُسمّى إيران في 20 نيسان(ابريل) العام 1925 الاحواز بالقوة.
وبذلك، تُعدُّ الأحوازُ أوّلَ دولةٍ عربيّةٍ مستقلَّةٍ ذاتِ سيادة، تحتلُّها دولةُ فارسِ الصفويّة، وتذهبُ ضحيّةَ السيّاساتِ الإيرانيّةِ التوسّعيّةِ الاستعماريّة، التي ما فَتِئت تسعى إلى تحقيقِ حُلمِها المأبون، باستعادةِ سيطرتِها على الأمّةِ العربيّة، عبرَ نشرِ الأفكارِ الطائفيّةِ، وتضعيف الهويّةِ القوميّة، والعملِ على إبرازِ الانتماءاتِ الثانويّة، وتفكيكِ السيّادةِ الوطنيّة في الدول العربيّة، وخلقِ أزمةِ تغلغلٍ خطيرة، وتأسيسِ ودعمِ أحزابٍ وحركاتٍ وميليشياتٍ طائفيّة، باعتبارها أدواتٍ شعوبيّةً طيّعة، تنفّذُ الأجندةَ الإيرانيّة، من خلالِ لعبِ أدوارٍ سياسيّةٍ واقتصاديّةٍ واجتماعيّةٍ وثقافيّةٍ وعسكريّةٍ مختلفة، بُغيةَ تحقيقِ الغايةِ الإيرانيّة المنشودة.
هذه السياسات الاستعمارية الإيرانية التي بدأت باحتلال الأحواز، واستمرت باحتلال الجزر الإماراتية أبي موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى، أخذت منحىً إقليميّاً تصاعدياً خطيراً عبرَ سيطرتها على العراق ولبنان وسوريا واليمن، وتنفيذ العمليات الاستخباريّة القذرة في دول الخليج العربي، أبرزها افتعال الاضطرابات السياسية في البحرين التي كادت تقضي على سيادتها.
إنَ الأحوازيين لم يحنوا رقابهم للسلطات الإيرانية، ولم يرضخوا للسياسات الشعوبية والصفوية والملاليّة. فقد بدأت المقاومة الأحوازية في التصدي للمشاريع التوسعية الفارسية في عهد الدولة المشعشعيّة، واستُكملت في عهد الدولة الكعبية، واستمرت بعد احتلال الأحواز واغتصاب سيادتها الوطنيّة، من خلال القيام بالثورات والانتفاضات الشعبية المسلحة المتكررة، وتقديم آلاف الشهداء والضحايا والمعتقلين.
فقد بدأ النظام البهلوي الملكي تطبيق سياسة تفريس الأحواز وطمس عروبتها منذ اللحظات الأولى للاحتلال من خلال استبدال تسمية الأحواز وتغيير أسماء المدن والبلدات الأحوازية، ومنع تسمية المواليد بأسماء عربية غير مذهبيّة، وفرض التعليم والتحدث باللغة الفارسية في المدارس والجامعات والمؤسسات و الدوائر الحكومية، ومنع تعلم اللغة العربية وارتداء الزّي العربي والاحتفال في الأعياد والاهتمام بالفولكلور الشعبي العربي، وتهجير الآلاف من شيوخ القبائل العربية والوجهاء والنّخب والشخصيّات البارزة إلى شمال إيران، واستقدام عشرات الآلاف من المستوطنين الفرس، وبناء المستوطنات والمدن الفارسية في الإقليم، ومصادرة الأملاك والأراضي الزراعيّة وتوزيعها على رموز النظام والمستوطنين، وبناء السدود.
يُلاحظُ أنّ هذه السياسات العنصريّة الممنهجة تمّ اتّباعها وتطبيقها واستكمالها بشكل أوسع وبوتيرةٍ أشدّ بعد سقوط النظام البهلوي، ووصول نظام وليّ الفقيه إلى سدّة الحكم في إيران. فالمشاريع الاستيطانيّة توسّعت، وسياسة تشييد السدود ونقل مياه الأنهار وحرف مجراها وتجفيف الأهوار والمستنقعات تضاعفت، والاستيلاء على الأملاك والأراضي الزراعية الخصبة ونهب الخيرات والموارد الطبيعيّة الأحوازيّة بحجة إقامة معسكرات للحرس الثوري وتوسيع عمل الشركات النفطية وتنفيذ مشاريع قصب السكّر، باتت سياسةً حكومية قوميّة مقدّسة يتسابق أزلام النظام الإيراني على تطبيقها، رغم التحذيرات المتكررة التي أطلقها الخبراء الإيرانيون بضرورة وقف هذا المشاريع التي تضرّ بالبيئة والاقتصاد.
فالأحواز بعدد سكانها الذي يُقدر بنحو ثمانية مليون نسمة وقد يكون أكثر نظراً لمنع السلطات أي إحصاء مستقل، ومساحتها البالغة 210،000 كلم2، والتي تحتوي على 65% من الأراضي الزراعية في إيران، و95% من النفط والغاز، والغنية بالمعادن والموارد الطبيعيّة النادرة، والمتميّزة بوفرة أنهارها ومياهها الجوفيّة كنهر الكارون ونهر الكرخة ونهر الدز ونهر الجراحي، وحدودها الساحليّة الشاسعة المطلّة على الخليج العربي التي تناهز الألف كيلومتر، بات أهلها يعانون من الجفاف وارتفاع درجات الحرارة والتصّحر وتزايد منسوب ملوحة الأرض وبروز الأمراض المعدية، وهطول الأمطار الحمضيّة وحدوث العواصف الرمليّة التي تسبب حالات الاختناق، وتفشي المخدرات والبطالة والفقر المدقع حيث تشير الإحصائيات إلى أنّ أكثر من 70% من الأحوازيين باتوا يعيشون تحت خط الفقر بسبب السياسات الإيرانية العنصرية-البيئيّة الممنهجة التي تهدف إلى تغيير ديمغرافية الإقليم و تهجير سكانه العرب الأصليين.
وسنسعى في الجزء الثاني أن نسلط الضوء على آلية العمل السياسي الأحوازي المتجدد للتكيف مع السياسات الإيرانية والنظرة الأمنية تجاه عرب الأحواز.
النهار اللبنانية