الهوية الوطنية ومستقبل الأجيال
د. محمد بن عوض المشيخي
كان الشعب العماني بمختلف شرائحه على موعد مع الخطاب الأول لجلالة السلطان هيثم أمام مجلس عمان في دورته الثامنة يوم الثلاثاء الماضي؛ إذ كان خطابًا شاملًا وجامعًا لمختلف قضايا الوطن والمواطن في المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية.
ولعل البُعد الثقافي في هذا الخطاب التاريخي قد تمحور حول الدعوة لوضع إستراتيجية وطنية واضحة المعالم؛ لحماية المجتمع من الداخل من التدفق المعلوماتي العابر للحدود، وخاصة ذلك التدفق الذي يحمل قيم دخيلة على الوطن والأسرة العمانية. فقال جلالته: “نرصد التحديات التي يتعرض لها المجتمع ومدى تأثيراتها غير المقبولة في منظومته الأخلاقية والثقافية ونؤكد على ضرورة التصدي لها ودراستها ومتابعتها لتعزيز قدرة المجتمع على مواجهتها وترسيخ الهُوية الوطنية والقيم والمبادئ الأصيلة، إلى جانب الاهتمام بالأسرة؛ لكونها الحصن الواقي لأبنائنا وبناتنا من الاتجاهات الفكرية السلبية، التي تخالف مبادئ ديننا الحنيف وقيمنا الأصيلة وتتعارض مع السمت العماني الذي ينهل من تاريخنا وثقافتنا الوطنية”.
لقد سجّل سلطان الفكر سابقةً بين زعماء الجنوب الذين يحذرون بصراحة ووضوح من التأثيرات المدمرة للشباب في ما يعرف بدول جنوب الكرة الأرضية التي تستقبل المضامين غير المرحب بها من دول الشمال المُسيطرة على شبكة الإنترنت وفروعها وشبكاتها الفرعية، وكذلك من القنوات التلفزيونية وشبكات الإنتاج وتوزيع الأفلام مثل نتفليكس وغيرها. ومن المؤسف حقًا أن نجد من المسؤولين في دولنا الخليجية من يقلل من هذا الطوفان المدمِّر للأخلاق والمُغيِّر لسلوك الناس في مختلف الأعمار في المنطقة ويتعبرون، ذلك “تواصلًا ثقافيًا” بين الشعوب والأمم فقط!
لا شك أن التحديات التي تواجه المنظومة الأخلاقية والثقافية في المجتمع العماني وتأثيراتها السلبية على الأسرة العمانية، لهي واحدة من القضايا الكبرى التي يجب التصدى لها بشجاعة وحكمة وشفافية لكونها مرتبطة بمستقبل الأجيال الصاعدة، وقبل ذلك كله يجب رصد ودراسة هذه الظواهر الجديدة بشكل علمي، وذلك للوقوف على الأفكار المنحرفة والمضامين الهدامة التي تسهدف ثقافتنا وتراثنا الوطني؛ من خلال إنشاء مراكز متخصصة وتزويدها بالباحثين والعلماء القادرين على كشف المتغيرات الجديدة التي أصبحت معروفة وظاهرة للأعين في السنوات الأخيرة، ثم العمل على تقديم الحلول العاجلة والخلاصات المفيدة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من قيمنا وحضارتنا الإسلامية الخالدة.
إن الهوية المُجتمعية أثمن وأغلى ما تملكه الأمم والشعوب؛ بل وحتى الأشخاص أنفسهم، فالإنسان عند ما يفقد هويته الوطنية أو شخصيته التي تميزه عن الآخرين؛ يصبح في أعداد المحكوم عليهم بالفناء، وذلك لانسلاخه عن ذاته ومحيطه ومجتمعه، ويغدو كائناً مستنسخاً مجهول الهوية، غير معروف يهيم في هذا العالم الذي تسيطر عليه تيارات جديدة وثقافات دخيلة على قيمنا الأصيلة، وديننا الحنيف وشريعتنا السمحاء، ذلك لكونه يذوب في ثقافات غريبة، ويعيش مغترباً في وطنه وتتقاذفه الأفكار الهدامة والسلوك المنحرف الذي يعبر الحدود والسماوات المفتوحة بدون رقيب أو عتيد. فيمكن تعريف الهوية الوطنية بأنها “الكيفية التي يعرف بها الناس ذواتهم أو أممهم للآخرين، وتتخذ اللغة والدين والثقافة والتراث والتاريخ والجغرافيا أشكالًا لها”.
لقد تمكنت الدول (الأنجلو – ساكسونية) من اختراق الثقافات المحلية والقيم الوطنية في معظم الدول النامية حاملة معها ما يطلقون عليه بثقافة الانفتاح والانحلال الأخلاقي والبعد عن الدين الحنيف والعقيدة السمحاء، فصبح الهاتف الذكي بما يحمله من مشاهد للعنف وصور وأفلام إباحية الملاذ والجليس بل والصديق الذي لا يمل عند البعض، مهما زادت ساعات المشاهدة والأوقات الضائعة من أعمار المستخدمين لهذه التكنولوجيا التي تحمل أوجها عديدة جلها تصنف في الخانة السلبية.
سبق أن كتبت عبر هذه النافذة العديد من المواضيع أهمها المقالات التي تحمل العناوين الآتية: “ماذا فعل طوفان العولمة بالأسرة العمانية”، و”العولمة والهوية الوطنية”، و”السهر القاتل والأسرة الخليجية”، وجميعها تحذر المجتمع العماني من خطورة الغزو الثقافي الوافد عبر السماوات المفتوحة والذي أصبحت ملامحه مكشوفة وواضحة في عدة صور ومشاهد مثل انتشار تعاطي المخدرات في المؤسسات وتفكك أفراد الأسرة وزيادة حالات الطلاق وظهور السلوك العدوني بين أفراد المجتمع والتقليد الأعمى للباس الغربي بين أفراد المجتمع، خاصة في المدن الكبرى وانتشار الوجبات السريعة على حساب الوجبات الشعبية العمانية.
وفي الختام.. من الإضاءات التي تضمنها الخطاب السامي لجلالة السلطان، التأكيد على تمكين المؤسسات التعلمية والمراكز البحثية من عملها وتشجيعها على الإنتاج المعرفي. من هنا الآمال معقودة أن تشهد المرحلة القادمة إحداث نقلة نوعية في تطوير بيئة البحوث والابتكارات العلمية؛ وذلك من خلال رفع الاعتمادات المالية المخصصة للبحث العلمي لتصل نسبتها إلى 2% من إجمالي الدخل القومي بأسرع وقت مُمكن، خاصة إذ عرفنا- على سبيل المثال- أن مراكز الدراسات الاجتماعية التي يُفترض أن تدرس الظواهر الاجتماعية، نادرة الوجود في بلادنا، وكذلك مراكز بحوث الرأي العام، التي يُفترض فيها أن تعمل كبوصلة لمساعدة الحكومة في التعرف على آراء المواطنين وطموحاتهم في المشاركة في صنع القرارات، ووضع السياسات المستقبلية للوطن؛ إذ لا وجود لها في السلطنة رغم أهميتها. وذلك لأسباب عديدة؛ منها ضعف الوعي وقلة الثقة بأهمية إنشاء مثل هذه المراكز؛ بل حتى بنتائج الدراسات العلمية التي يُجريها الخبراء.
نقلا عن الرؤية