النفط بين ترمب وإيران
أنس بن فيصل الحجي
حصلت مستجدات تستدعي العودة لموضوع تشديد العقوبات على إيران بعد تسلم دونالد ترمب السلطة في يناير (كانون الثاني) المقبل، وهو موضوع كما يعلم القراء الكرام، تم الحديث عنه في الماضي أكثر من مرة.
أهم هذه المستجدات أن فريق ترمب يدرس بجدية موضوع تشديد العقوبات، وأن هناك من يعتقد أن ترمب قادر على خفض صادرات إيران بمقدار مليون برميل يومياً، كما “حدث في الماضي”، فما الذي سيحدث في أسواق النفط لو شدد ترمب العقوبات على إيران؟
إعلان
في الأشهر الـ10 الأولى من العام الحالي أنتجت إيران بمتوسط قدره 3.2 مليون برميل يومياً من النفط الخام، وصدرت بمتوسط 1.3 مليون برميل يومياً. أرقام الصادرات مشكوك فيها لأن كثيراً من حاملات النفط لا يمكن تتبعها، والتهريب بحراً وبراً مستمر على كل الحالات، بعبارة أخرى الصادرات الحقيقية أكبر مما تظهره شركات المراقبة.
وكانت إيران زادت إنتاجها وصادراتها في عهد جو بايدن بصورة كبيرة كما ذكرت في مقالات سابقة، إذ زاد إنتاج النفط الخام بنحو مليون برميل يومياً.
ترامب سيبحث عن بديل
من المعروف أن ترمب يريد أن تبقى أسعار النفط منخفضة، وعبر عن ذلك عشرات المرات خلال فترة رئاسته الأولى. فإذا شدد العقوبات على إيران وانخفضت الصادرات فعلاً، فإن هذا يرفع أسعار النفط، وهو أمر لا يريده ترمب. لذلك فإن ترمب سيطلب من دول الخليج زيادة الإنتاج والتعويض عن انخفاض صادرات إيران. ولكن هل تقوم دول الخليج بزيادة الإنتاج للتعويض عن انخفاض الصادرات الإيرانية؟ سياسياً ليس من صالح دول الخليج أن تقوم بذلك لأن إيران ستنظر لذلك على أنه تصرف عدائي من دول مجاورة. اقتصادياً هذا ليس من صالح دول الخليج بعد التجربة التي مرت بها هذه الدول، عندما خدعها ترمب في 2018 وأعطى استثناءات لعملاء إيران فانخفضت أسعار النفط بصورة كبيرة. ومن الواضح بناء على معطيات السوق الحالية، أن دول الخليج لا تريد حصول فائض في أسواق النفط يؤدي إلى ارتفاع المخزونات، التي سيتم السحب منها عندما يتعافى السوق مستقبلاً وتمنع أسعار النفط من الارتفاع. وقد تلجأ “أوبك +” إلى التوازن بين القرار السياسي والاقتصادي فتستمر بخطتها في إعادة التخفيضات الطوعية للأسواق، ولكن أثر هذه الكميات محدود لأنها تدريجية من جهة، وتشمل تعويضات العراق وكازاخستان من جهة أخرى.
وقد يسأل سائل: لماذا يطالب ترمب دول الخليج بزيادة الإنتاج ولا يطلب من منتجي الصخري في بلاده زيادة الإنتاج؟ الجواب أن النفط الصخري خفيف حلو بينما جزء كبير من صادرات إيران من النوع المتوسط الحامض المماثل لنفط دول الخليج، كما أن السوق التي ستتأثر هي السوق الصينية ويمكن للصين أن تشتري من دول الخليج، بخاصة أن لديها طاقة إنتاجية فائضة.
ولكن مرة أخرى هل تستجيب دول الخليج؟ إذا طلب ترمب من دول الخليج زيادة الإنتاج، فإن ذلك لن يكون من دون ثمن لأنه في النهاية، كل يبحث عن مصلحته، وهذا الثمن تحكمه المفاوضات.
ولو نظرنا إلى أثر العقوبات التي فرضها ترمب بعد إلغاء الاستثناءات لوجدنا أنه “ظاهرياً” كبير، إذ انخفض إنتاج إيران بأكثر من مليون برميل يومياً وانخفضت الصادرات بكميات أكبر بكثير. أقول “ظاهرياً” لأن البيانات المنشورة لا تشمل عمليات الشحن السرية من جهة، والتهريب البري إلى الدول المجاورة من جهة أخرى، إلا أن الإنتاج والصادرات انخفضا على كل الحالات، ولكن لأسباب عدة، والعقوبات جزء منها! مشكلة العقوبات على إيران هي “الدفع لإيران” وليس “الشراء من إيران”.
أثر تشديد العقوبات
ويقول بعض المتابعين إن تشديد العقوبات على إيران سيخفض صادرات إيران بمليون برميل يومياً أو أكثر، وهذا سيرفع أسعار النفط بصورة ملاحظة. ويستدلون على ذلك بما حصل بعد تطبيق العقوبات في الفترة الرئاسية الأولى لترمب، إذ انخفض الإنتاج والصادرات بصورة كبيرة. ويرد على ذلك بأن “تطبيق” العقوبات شيء، وتشديدها شيء آخر، وما حصل منذ خمسة أعوام كان في ظل ظروف معينة غير متوافرة الآن. الفرق الأول هو أن إيران كانت تصدر لأكثر من 20 دولة قبل العقوبات، والآن غالب نفطها يذهب لدولة واحدة هي الصين. لهذا كان من المنطقي أن تنخفض صادرات إيران وإنتاجها بعد العقوبات لسببين: الأول هو عدم رغبة بعض الدول باستيراد النفط من إيران لتفادي أية مشكلات مع ترمب، والثاني لعدم رغبة إيران في تصدير نفطها من دون مقابل، لأن أية دولة ستستورد النفط لا تستطيع الدفع لإيران بسبب القيود المفروضة على البنوك من العقوبات الأميركية. ثم قامت الحكومة الإيرانية بالتخطيط لوضع جديد تحصل فيه على عوائد من بيع نفطها، الذي انتهى غالبه ببيعه للصين بطرق مختلفة وبمساعدة صينية، وتحصل إيران على عوائد النفط نقداً وعيناً من الصين، كما تقوم بعمليات مقايضة مع دول أخرى، ولكن بكميات قليلة. المقايضة لا تخضع للعقوبات.
وكي تتم عمليات شحن النفط بسهولة من دون انقطاع، أتقنت إيران، بمساعدة الصين، تصدير النفط إلى الصين، تقنياً وإدارياً، إذ شكلت شركات وهمية في دول عدة للتعامل مع شحنات النفط، وتستخدم تقنية متقدمة حتى يصعب تتبع هذه السفن، كما ينقل النفط من سفن إلى أخرى، وأحياناً يمزج بنفط آخر، كما تقوم بتغيير موانئ التصدير باستمرار لجعل المتابعة عبر الأقمار الاصطناعية أكثر صعوبة، وتزور أوراق المنشأ بحيث تظهر الحمولة على أنها من دول مجاورة. كما أن الحروب التجارية ضد الصين تجعل الصين تصر على موقفها على استيراد النفط الرخيص من إيران.
ولا ننسى أن إغلاقات كورونا خفضت الطلب العالمي على النفط بصورة لم يشهدها العالم من قبل، وهذا خفض الطلب على النفط الإيراني، فانخفضت الصادرات، وامتلأ المخزون العائم، مما أجبر إيران على خفض الإنتاج. المشكلة الآن أن من يرى أن عقوبات ترمب ستخفض الصادرات الإيرانية بصورة كبيرة يتناسى دور كورونا في خفض هذه الصادرات، وبهذا لا يحتج بذلك الخفض وقتها.
الأمر الآخر الذي تجاهله المحللون أنه مع زيادة إنتاج إيران بعد اتفاق النووي في 2014 مع الرئيس باراك أوباما، خططت إيران لوقف الإنتاج في بعض الحقول القديمة والتحول إلى حقول جديدة، وصادف ذلك فترة العقوبات التي طبقها ترمب. لهذا نجد أن نوعيات النفط التي كانت تنتج وقتها تختلف تماماً عن النوعيات الحالية، أضف إلى ذلك أن المصافي الصينية طالبت إيران بالتركيز على إنتاج نوعيات معينة، وهذا تطلب وقتاً حتى تم إنتاج هذه النوعيات. باختصار كانت إيران تبيع نوعيات معينة من النفط لدول كثيرة، وعندما توقف البيع لهذه الدول، تبين أنه لا يمكن بيع كل هذه النوعيات للمصافي الصينية لأسباب فنية بحتة، مما تطلب إيقافها والتركيز على تطوير نوعيات أخرى. هذا التحول أسهم في خفض إنتاج النفط والصادرات وقتها، وهذا لم يعد مشكلة الآن.
خلاصة الأمر أن تشديد ترمب للعقوبات على إيران لن يرفع أسعار النفط بالشكل الذي يرغب فيه بعض الذين يعتمدون على البيانات السابقة في أعوام 2018 و2019 و2020، إذ أتقنت إيران تفادي أثر العقوبات بمساعدة الصين، واختلف العملاء المستوردون، واختلفت نوعية النفط، وليست هناك إغلاقات كما حصل في عام 2020. كما أنه يتوقع ألا يقوم ترمب بتشديد العقوبات إلا إذا ضمن وجود بديل من دول الخليج وغيرها من جهة، وربما السحب من المخزون الاستراتيجي من جهة أخرى.