مقالات

الكل فائزون في ديمقراطية العراق الغرائبية

 

حميد الكفائي

 

بعد مضي ستة أشهر على إجراء الانتخابات العراقية، ما زالت الجماعات المسلحة، الفائزة منها والخاسرة، تتصارع فيما بينها حول كيفية تقاسم السلطة، فلم تتفق حتى الآن على رئيس للجمهورية ورئيس للوزراء، في وقت يعاني العراق من مشكلات اقتصادية وأمنية وخدمية معقدة.

في العراق، الجميع يعتقدون بأن من حقهم المشاركة في الحكومة، والجميع أيضا يلومون الحكومة على فسادها وفشلها! ويدّعون بأنهم ليسوا مسؤولين عن الفساد والفشل، لأنهم يشكلون جزءا صغيرا من الحكومة، التي تشكلت عبر “المحاصصة المقيتة”! وأنهم لو كانوا يحكمون لوحدهم لما فشلوا! أحدهم، لديه مقعدان، لكنه يملأ الفضاء صخبا، مطالبا بالمشاركة في الحكومة، ومتسائلا عن نوع باب الحكومة المقبلة، وهل هو مكون من لوح واحد أم لوحين!

في البلدان الديمقراطية الحقيقية، يعرف كل طرف إن كان في السلطة أم المعارضة، فور إعلان النتائج. في ألمانيا، مثلا، هناك دائما ثلاثة أحزاب، متقاربة سياسيا، مؤتلفة في السلطة، وباقي الأحزاب تبقى في المعارضة، لأن الساحة السياسية الألمانية لا تفرز فائزا واحدا قادرا على تشكيل الحكومة بمفرده، بسبب طبيعة النظام الانتخابي الذي يجمع بين نظامين انتخابيين هما التمثيل النسبي والدوائر المتعددة، ونظامين مختلفين أيضا لحساب الأصوات، من أجل ضمان العدالة لكل الاتجاهات السياسية.

المستشارة السابقة، أنجيلا ميركل، مثلا، شكّلت أربع حكومات خلال 16 عاما في السلطة، كانت آخرها مؤلفة من الاتحاد الديمقراطي المسيحي، بزعامتها، والحزب الديمقراطي الاجتماعي، بزعامة أولاف شولتز، والاتحاد الاجتماعي المسيحي (البفاري)، الذي يقوده هورست سيهوفر. أما الحكومة الحالية التي يترأسها المستشار أولاف شولتز، فهي الأخرى مكونة من ثلاثة أحزاب، ويشار إليها بـ”ائتلاف إشارات المرور الضوئية”، بسبب ألوان أعلامها المماثلة لأضواء المرور الثلاثة، وهي الحزب الديمقراطي الاجتماعي، بزعامة شولتز، وحزب الخضر، بزعامة أنالينا بيربوك، وحزب الأحرار الديمقراطي، بزعامة كرستيان ليندنر.

واصطلاح (المسيحي) هنا لا يعني مطلقا أن الحزب ديني، فكل الأحزاب التي تحمل في أسمائها وصف (المسيحي) هي أحزاب علمانية، والمسيحية هنا تشير إلى أنها أحزاب محافظة، مثلما يشير (الأحرار) و(الاجتماعي) إلى أنها أحزاب ليبرالية واشتراكية.

قادة الأحزاب المتشدقة بالدين في بلداننا دائما يستشهدون بوجود وصف (المسيحي) في أسماء الأحزاب الغربية، على أنها أحزاب دينية! وهناك من يذهب أبعد من هذا، فيعتبر عبارة (ثقتنا بالله) المدونة على ورقة الدولار الأميركي، أو وصف (حامي الدين) الذي يتصف به بعض الملوك، على أنه دليل على هيمنة الدين على السلطة! والحقيقة أنها تعابير تاريخية، لم تؤثر البتة على طبيعة الحكم المدني. ولي عهد بريطانيا؛ الأمير تشارلز، اقترح مرة تغيير وصف (حامي الدين) إلى (حامي الأديان) كي يعبر عن جميع السكان.

في بريطانيا، التي تتبنى نظام الدوائر المتعددة (فائز واحد لكل دائرة انتخابية)، وهو نظام لا يشجع التعددية بل يأتي دائما بالأقوى إلى السلطة، هناك في معظم الأحيان حزب واحد حاكم، وآخر معارض، إضافة إلى أحزاب صغيرة أخرى، معظمها مناطقية، تبقى تراقب وتطرح القضايا التي تهم ناخبيها. وعندما يعجز الحزب الفائز عن تشكيل الحكومة بمفرده، لعدم حصوله على نصف العدد الكلي للمقاعد، فإنه يضطر إلى أن يعتمد على دعم حزب آخر له.

في حكومة تريزا ماي الثانية، مثلا، لم يحقق حزبها العدد المطلوب من المقاعد البرلمانية لتشكيل الحكومة، فاضطرت إلى تشكيل “حكومة أقلية”، بالاعتماد على حزب محافظ صغير يمثل أيرلندا الشمالية. وقد اشترط الحزب أن يحصل على مكاسب اقتصادية لمنطقته كي يؤيد الحكومة.

أما حكومة ديفيد كاميرون الأولى، فقد اضطرت إلى الائتلاف مع حزب الديمقراطيين الأحرار لتشكيل “حكومة ائتلافية” يشغل فيها ممثلو الحزبين مناصب محددة، كل حسب حجمه البرلماني. وفي الحكومات الائتلافية، يتفق المؤتلفون على تنفيذ فقرات محددة من برنامجي الحزبين المؤتلفين، في المساحات المشتركة بينهما.

ولكن عندما يفوز الحزب بغالبية المقاعد البرلمانية، كما حصل في حكومتي توني بلير ومارغريت ثاتشر، فإن الحزب الفائز لا يشترك مطلقا مع حزب آخر في إدارة الدولة، لأنه يمتلك التفويض الشعبي للحكم منفردا.

في انتخابات عام 1997، حقق حزب العمال بزعامة توني بلير فوزا لم يسبق له مثيل في التاريخ الحديث، إذ حصل على 412 مقعدا من مجموع مقاعد البرلمان البالغة حينها 659 مقعدا. بينما حققت مارغريت ثاتشر فوزا ساحقا عام 1983، كان حينها غير مسبوق، إذ حصل حزب المحافظين على 397 مقعدا من مجموع مقاعد البرلمان البالغة حينها 650. ويتغير عدد مقاعد البرلمان حسب التغير الديموغرافي المحكوم بالتنمية الاقتصادية والنمو السكاني، إذ ينتقل السكّان حسب توفر العمل في مناطق البلد المختلفة، فيقل عدد السكان في منطقة ويزداد في أخرى.

أما في ديمقراطية العراق الغرائبية، فإن نتائج الانتخابات لا تحدِّد من هو الفائز ومن هو الخاسر، ولا من سيشكل الحكومة ومن يبقى في المعارضة، إن كان هناك من يقبل أن يبقى معارضا، بل هناك محركات ودوافع أخرى تتحكم في العملية السياسية، منها السلاح والدعم الخارجي والولاء الديني.

في عام 2010 مثلا، فازت “القائمة العراقية”، بزعامة أياد علاوي، بأعلى الأصوات، لكن رئيس الوزراء حينذاك، نوري المالكي، المدعوم إيرانيا، رفض التخلي عن السلطة، مبررا ذلك بحجج واهية منها أن “القائمة العراقية” ذات غالبية سنية! وقد تمكن من الحصول على قرار من المحكمة الاتحادية بجواز تشكيل الكتلة الكبرى بعد الانتخابات، فظل يناور ويمارس الضغوط على خصومه لتسعة أشهر حتى تمكن من كسب تأييد قائمة “الائتلاف الوطني”، التي غيرت موقفها تحت ضغوط إيرانية.

ثم سعى بعد ذلك إلى تفكيك “القائمة العراقية”، عبر إشراك بعض أعضائها في مناصب شكلية، وتقديم إغراءات مختلفة إلى آخرين، فشكل حكومة هي الأكبر في تاريخ الحكومات في العالم، إذ تكونت من 42 وزيرا، 12 منهم بلا وزارة، إضافة إلى ثلاثة نواب لرئيس الوزراء، علما أن عدد الوزارات في الصين يبلغ 21 وزارة!

في الانتخابات الأخيرة، فاز التيار الصدري بأعلى المقاعد النيابية، 73 مقعدا، لكنه لا يمتلك العدد الكافي لتشكيل الكتلة الكبرى وحده، لذلك تحالَفَ مع الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني، و”تحالُف السيادة” بزعامة رئيس البرلمان محمد الحلبوسي، فهذه القوى بمجموعها تشكل 146 مقعدا، ويمكنها أن تعلن عن نفسها بأنها الكتلة الكبرى في البرلمان في جلسة انتخاب رئيس الجمهورية.

لكن القوى المسلحة التي خسرت معظم مقاعدها النيابية، لم تترك وسيلة متاحة لها للاحتجاج على نتائج الانتخابات والتشكيك والطعن بها، دون أن تجربها، لكن طعونها لم تنجح، إذ ردتها مفوضية الانتخابات، ثم أقرت المحكمة الاتحادية النتائج النهائية.

وبعد أن نفدت كل وسائل الاحتجاج، حاولت أن تعرقل العملية السياسية وتختطف الفوز في أول جلسة للبرلمان في 9 يناير الماضي، عبر توظيف موقع الرئيس المؤقت للبرلمان لصالحها، لكن تلك المحاولة فشلت، وانعقدت الجلسة برئاسة عضو آخر، حسب الدستور.

عندها لجأت إلى العنف، فأطلقت طائرة مسيرة على منزل رئيس الوزراء، وهاجمت منزل رئيس البرلمان بالصواريخ، وهاجمت مقر الحزب الديمقراطي الكردستاني، وهاجمت مطار أربيل ثم مطار بغداد، محاولةً الضغط على حلفاء التيار الصدري كي يتخلوا عنه لتتمكن من المشاركة في الحكومة. لكن التيار ظل مصرا على عدم إشراك هذه القوى المسلحة في الحكومة، بل أضاف أنه يعتزم حل الفصائل المسلحة.

لقد نصبت هذه القوى أنفسها ممثلة للطائفة الشيعية، علما أن ناخبي الشيعة رفضوها وانتخبوا غيرها، ولو كانت نسبة الإقبال على التصويت أكبر، لما حصلت حتى على تمثيلها الحالي. كما حاولت أن تؤجج الفتنة الطائفية بين السنة والشيعة، كي تجبر التيار الصدري على الانضمام إليها، ولوّحت مرارا بتحريك ميليشياتها في المحافظات الغربية لإخافة السنة وزعمائهم، لكن الخطاب الطائفي لم يعد مستساغا عراقيا، ولم يكترث له أحد.

لكنها نجحت أخيرا في تعطيل جلسة انتخاب رئيس الجمهورية، التي تتطلب نصابا بنسبة ثلثي الأعضاء، حسب تفسير المحكمة الاتحادية للمادة 70 – أولا من الدستور، التي تنص على أن يُنتخَب الرئيس بغالبية ثلثي أعضاء مجلس النواب. غير أن المادة المذكورة تجيز في الفقرة (ثانيا) انتخاب الرئيس بالغالبية البسيطة إن لم يفُز أي من المرشحين في الجولة الأولى.

تفسير المحكمة الاتحادية للمادة الدستورية له ما يبرره دستوريا، ولكن يمكنها أيضا أن تعتبر فشل المجلس في انتخاب الرئيس مرتين، بأنه فشل لأي من المرشحين في الفوز، الأمر الذي يؤدي إلى تفعيل المادة 70-ثانيا، أي أن ينعقد البرلمان بالغالبية المطلقة لعدد أعضائه، وهي 165.

لقد نجحت القوى المسلحة في تشكيل ما سمته بـ”الثلث الضامن”، بينما يسميه خصومها بـ”الثلث المعطل”. وهو فعلا الثلث الضامن لمصالحها على حساب الشعب، والثلث المعطل للعملية السياسية.

ولكن يمكن تفسير هذا “النجاح” بأنه فشل للقوى الفائزة في إقناع عددٍ كافٍ من النواب لتحقيق النصاب، وإلا ما معنى أن يصطف نواب مستقلون إلى جانب القوى المسلحة المعرقِلة لتشكيل الحكومة؟

في الجلسة الأولى لانتخاب رئيس الجمهورية، حضر 202 نائبا، بينما كان المطلوب حضور 220 نائبا لتحقيق نصاب الثلثين. أما في الجلسة الثانية فقد انخفض العدد أكثر، ما يدل على أن “الإطار التنسيقي” الذي تنضوي تحته القوى المعرقلة الموالية لإيران، قد تمكن من استقطاب المزيد من النواب إلى موقفه، بطرق شتى، أو أن “التحالف الثلاثي” للقوى الفائزة فشل في إقناع هؤلاء النواب بالانضمام إلى صفوفه!

القوى المعرقلة غير مستعدة على ما يبدو لأن تتعاون مع القوى الفائزة لتسهيل تشكيل الحكومة، فهمُّها الأول هو البقاء في السلطة كي تحافظ على مكتسباتها، وكي تحمي قادتها من الملاحقة القانونية المحتملة على تجاوزاتهم الكثيرة. وما لم تتمكن من الحصول على هذه الضمانات فإنها ستبقى معرقلة، حتى لو بقي الانسداد السياسي الحالي لعدة أشهر أخرى. إن مصلحة العراق وتماسكه ومستقبله هي آخر ما تفكر به هذه القوى، التي تسعى لأن تكون طابورا خامسا في العراق، يعمل على إضعافه وإعاقة تقدمه وجعله دولة هزيلة تابعة.

نقلا عن  سكاى نيوز عربية

 

موضوعات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى