العراق بين حشدين: حسابات ومحاسبات إيرانية
حسن فحص
لم يكن الكلام الصادر عن زعيم حركة “عصائب أهل الحق” العراقية قيس الخزعلي تعليقاً على الضربات الأميركية ضد قوات “الحشد الشعبي” كلاماً عابراً، عندما تساءل عن “الدقة الأميركية في اختيار الهدف الإيراني كي لا يقع أي قتيل إيراني على رغم وجود خسائر أميركية، ولا يعيرون أهمية للدم العراقي على رغم عدم وجود خسائر لهم”، فهو كلام يحمل كثيراً من الرسائل والمؤشرات إلى تصاعد الخلافات بين أجنحة من الفصائل العراقية مع الراعي الإيراني من جهة، وعلى تنامي حدة الخلافات داخل هذه الفصائل وفي ما بينها على المستوى الداخلي العراقي من جهة أخرى، مما يؤسس لظهور مفهوم جديد في الخطاب السياسي بين هذه الجماعات يميز بين حشد السلطة وحشد المقاومة.
وإذا ما كانت أبعاد كلام الخزعلي في جانب منها داخلية وتدفع إلى الاعتقاد ببداية انقسام أو افتراق، بخاصة بعد المواقف الصادرة عن فصائل أساس بين الجناح المقاوم لـ “الحشد” والمدرجة جميع فصائله على لوائح العقوبات الأميركية مع قادتها، وهي “كتائب الإمام علي” بقيادة أحمد محسن فرج الحميداوي (أبو حسين) وحركة “حزب الله النجباء” بقيادة أكرم الكعبي و”كتائب سيد الشهداء” بقيادة أبو آلاء الولائي وجناح “حشد السلطة” الذي يمثله بصورة واضحة الخزعلي و”العصائب” ومعه تنظيم “بدر” بقيادة هادي العامري، وهو موقف تبلور في البيان الذي أصدرته فصائل “حشد المقاومة”، وأخرجت فيه جماعة “عصائب أهل الحق” من لائحة الفصائل المساهمة في العمليات ضد القواعد الأميركية، مشيرة إلى أنها اعتمدت الواقعية والحقائق العملياتية في تحديد الجهات التي تستهدف القواعد الأميركية بناء على رصد قامت به، وطابقت من خلاله بين العمليات التي قامت بها والبيان الصادر عن القيادة المركزية الأميركية الذي تحدث عن عدد الاعتداءات التي تعرضت لها قواته والجهات المنفذة، والتي كانت هدفاً لرد هذه القوات وأدت إلى سقوط 14 قتيلاً في صفوفها.
إلا أن الجزئية التي تحدث فيها الخزعلي عن الضربات الأميركية التي تستهدف قواعد إيرانية فارغة وعدم سقوط خسائر إيرانية فيها، في مقابل تلك الضربات التي تستهدف قواعد ومقار “الحشد الشعبي” التي لا توفر فيها واشنطن فرصة لإلحاق الخسائر في الفصائل العراقية، تستدعي كثيراً من التريث أمامها والتدقيق في أبعادها ودلالاتها التي لا يمكن حصرها بما يجري على الساحة الداخلية العراقية والصراعات السياسية بين القوى السياسية، بخاصة داخل “الإطار التنسيقي”، أو حصول تحول في العلاقة بين هذه الفصائل والراعي الإيراني قد يؤسس في حال وجوده إلى مسار جديد من التعامل بين الطرفين خلال المرحلة المقبلة.
والخزعلي الذي يعتبر الطرف الأكثر تشدداً في دعم حكومة محمد شياع السوداني، والجهة التي تمسكت بترشيحه لمنصب رئاسة الحكومة والسلطة التنفيذية، يتهم بأنه الجهة الأكثر استفادة في هذه الحكومة، وأنه عمل في مقابل هذا الدعم على توسيع حصته في مؤسسات الدولة إلى الحد الذي دفع مؤيدين له إلى وضع الخطوة التي قامت بها فصائل الحشد المقاوم في إطار “الانتقام” من “العصائب” وزعيمها على خلفية الصراع على تولي المناصب الأمنية، وبخاصة جهازي الأمن الوطني والاستخبارات.
واذا ما عدنا بالذاكرة للأسبوع الأول لعملية اغتيال قاسم سليماني والاجتماع الذي عقدته هذه الفصائل بمشاركة زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر في مدينة قم، وما خرج منه من إعلان تأسيس “المقاومة الإسلامية في العراق” لمحاربة الوجود الأميركي، فإن دور التيار الصدري في هذه المقاومة اقتصر على التذكير بتاريخه في هذه المقاومة عندما كانت تشكيلاته تعمل تحت اسم “جيش المهدي”، إلى جانب اتهام الفصائل المشاركة في تشكيل الحكومة الحالية بقيادة محمد شياع السوداني بالتعاون مع “المحتل الأميركي” وأن “الإطار التنسيقي” الذي يضم الأحزاب والفصائل الشيعية تابع وخاضع لإملاءات السفيرة الأميركية في العراق ألينا رومانوسكي، في حين انغمس القادة الآخرون في الصراع من أجل الاحتفاظ بالسلطة ومعالجة آثار الضغط الكبير الذي أحدثه “حراك تشرين”، فضلاً عن تداعيات اغتيال سليماني.
وإذا ما كان “الإطار التنسيقي” قد استغل الضوء الأخضر الذي حصل عليه لتشكيل الحكومة والسيطرة على السلطة نتيجة توافق غير معلن بين واشنطن وطهران لتحييد العراق عن الصراعات الإقليمية، ومساحة اختبار نيات من قبل الطرفين بعضهما بعضاً حول جدية كل منهما في الانتقال إلى تسويات أشمل وأكبر، فإن هذا لا يعني أن يوافق الجانب الإيراني على الخروج عن المحددات والدور الذي رسمه للفصائل العراقية في تسويته مع الأميركي، وأن تتحول بعض مواقف هذه الفصائل إلى مدخل للتشكيك فيه والإيحاء بأنه يقود معركته أو صراعه مع واشنطن بدماء غير إيرانية، وهي الإشارة التي برزت بصورة واضحة في كلام الخزعلي من دون أن ينطق بها مباشرة، وبالتالي فإن على هذه الفصائل أن تبقى ضمن إطار العمل الذي رسمه الإيراني لها في التعامل مع الملفات الكبرى ذات الطابع الإقليمي أو الدولي، وأن الهامش الذي حصلت عليه في لعبة تقاسم السلطة في العراق لا يعني الخروج على الطاعة أو تغليب هذه المصالح على مصالح المشروع الاستراتيجي لطهران، بخاصة أنها تعتقد بأنها هي صاحبة الفضل في تكريس ووصول هذه الجماعات إلى السلطة والمشاركة في العملية السياسية.
وقد يكون من الصعب الرهان على حصول تغيير جوهري وجذري في مواقف الفصائل العراقية من النفوذ والتأثير الإيراني في العراق، وتحديداً تلك التي ذهبت إلى خيار العمل السياسي ومغانم السلطة والدولة، لكن المرجح أن تشهد المرحلة المقبلة تركيزاً إيرانياً على الفصائل الأكثر وفاء وتعزيز دورها وتأثيرها، وبخاصة تلك التي ذهبت لاعتماد الخيار الإيراني في التصعيد المحسوب ضد القواعد الأميركية في إطار الدور الذي حددته طهران لدعم حركة “حماس” في حربها مع إسرائيل.
ولعل الردود التي لجأت إليها قيادات فصائل الحشد “المقاوم” في الرد على الخزعلي وقيادات “عصائب أهل الحق”، تكشف عن أن الانفصال بات أمراً حاصلاً بين الطرفين، وبخاصة لغة السخرية التي اعتمدت في الرد على تصريحات الخزعلي وجماعته والتي وضعت موقع وهيبة الخزعلي في دائرة الحرج بين الذهاب إلى خيار التمايز الحاسم مع الإيرانيين وجماعتهم، وما فيه من صعوبة إقناع الخصوم بجدية هذا الخيار، وبالتالي الدخول الجدي في حسابات الربح والخسارة أو السكوت والسعي إلى ترميم هذه العلاقة، مما يعني كثيراً من التنازلات، ليس للجانب الإيراني، وهي تحصيل حاصل، بل لمنافسيه من هذه الفصائل وما فيها من خسارات في المصالح والمكاسب على المستوى الداخلي.
نقلاً عن إندبندنت عربية