أهم الأخبارمقالات

العراق: أزمة الدور الإيراني على الطاولة

 

علي حمادة

دخل العراق يوم أول من أمس مرحلة في غاية الخطورة سياسياً، يمكن أن تشهد مضاعفات تؤدي الى نشوء حالة من التوتر الأمني الداخلي، لا سيما أن بعض الأوساط القريبة من “الإطار التنسيقي” الذي يضم كتلاً برلمانية متحالفة قريبة من “الحرس الثوري” الإيراني بدأت تتحدث عن مخاطر نشوب حرب أهلية. وقد أجمعت الوسائل الإعلامية التابعة لـ”الاطار التنسيقي”، وأخرى تابعة لفصائل أخرى غير عراقية كـ”حزب الله” اللبناني (جريدة “الأخبار”) على أن ثمة خطراً من نشوب حرب أهلية.

جاء هذا رد فعل على قيام مؤيدي “التيار الصدري” يوم الأربعاء الفائت باقتحام البرلمان العراقي للمرة الأولى، قبل أن ينسحبوا بطلب من زعيم التيار مقتدى الصدر، ليعودوا يوم السبت الى اقتحامه مرة ثانية وبدء اعتصام مفتوح. إنها أزمة كبيرة، لا سيما أنها تحصل بين المكونات الشيعية المتناحرة في ما بينها منذ حصول الانتخابات التشريعية الأخيرة في شهر تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، التي أفضت إلى فوز كبير حققه “التيار الصدري” الذي تمكن من أن يصبح الكتلة الأكبر في البرلمان الجديد.

لكن الانتخابات لم تؤد الى حل الأزمة السياسية في البلاد، فبقي العراق من دون حكومة ورئيس حكومة ورئيس للجمهورية حتى اليوم. وبدأت نذر الأزمة التي تعصف اليوم بالعراق تلوح على خلفية فشل تحالف “التيار الصدري” و”تحالف السيادة” و”الحزب الديموقراطي الكردستاني” في شهر حزيران (يونيو) الفائت عندما أمر مقتدى الصدر نوابه في البرلمان بتقديم استقالاتهم رداً على تفخيخ “الإطار التنسيقي” كل محاولاته لاختيار رئيس للحكومة وتشكيل حكومة أكثرية برلمانية وقبل ذلك انتخاب رئيس للجمهورية ينتمي الى “الحزب الديموقراطي الكردستاني” . وقد كان واضحاً أن “التيار الصدري ” قرر الانتقال من اللعبة السياسية داخل مؤسسة البرلمان الى الشارع، حيث يمتلك الصدر قوة شعبية كبيرة في العاصمة قادرة على الضغط، أقله على المستوى الجماهيري، على المؤسسات، فضلاً عن أنه يمتلك ميليشيا مسلحة تنتشر في كل مناطق الثقل السكاني الشيعي.

يمثل الاعتصام المفتوح “حتى تلبية المطالب” الذي بدأه الصدريون في البرلمان، عنصر ضغط كان دفع بالقيادة الإيرانية الى ايفاد قائد “فيلق القدس” إسماعيل قآني على عجل الى بغداد لجمع حلفاء الحرس الثوري، الذين يتأثرون بالنفوذ الإيراني الى حد بعيد، من اجل ضبط الموقف المشترك في “الإطار التنسيقي” لمواجهة الاستحقاق الداهم الذي فرضه الصدر على خصومه، بما أدى الى قلب قوانين اللعبة، وربما مضمونها الى حد بعيد.

صحيح ان الشرارة الظاهرة التي تذرع بها الصدر لدفع مناصريه يوم الأربعاء الى اقتحام البرلمان للمرة الأولى كانت الإعلان عن ترشيح محمد شياع السوداني المقرب من رئيس الوزراء الأسبق ورئيس “ائتلاف دولة القانون” نوري المالكي لتولي منصب رئاسة الحكومة، لكن الأزمة التي نزلت بسببها الجماهير هذه المرة الى الشارع كانت واضحة في مسارها التصعيدي يوم اتخذ القرار باستقالة نواب “التيار الصدري”. من هنا تخوف جميع الفرقاء على الساحة العراقية من أن تتفاقم الأمور اكثر لكي تصبح المواجهة السياسية، ومن ثم الجماهيرية، مواجهة عسكرية قد تشعل نزاعاً دموياً لا يعرف مآله.

لم يستطع إسماعيل قآني ان ينسق مواقف حلفائه بالقدر الذي كان يريده . لكنه انتزع منهم قراراً بمحاولة خفض التوتر من خلال تجنب مواجهة في الشارع. فكان القرار بإلغاء التظاهرات التي دعا اليها “الإطار التنسيقي” يوم الأحد رداً على الاعتصام الصدري. إضافة الى ذلك، لم تتوقف الدعوات من جميع أطراف “الإطار التنسيقي”، بمن فيهم الخصم الأول للصدر نوري المالكي الى الحوار والتهدئة. لكن ردّ الصدر مساء أمس في بيانه أظهر تمسّكه بمواقفه، معلناً أنه يرى في ما يجري، أي اعتصام أنصاره في البرلمان، “فرصة عظيمة لتغيير جذري للنظام السياسي والدستور والانتخابات”، قائلاً “إما عراق شامخ بين الأمم أو عراق تبعيّ يتحكم فيه الفاسدون والتبعيون وذوو الأطماع بل وتحرّكه أيادي الخارج شرقاً وغرباً”.
ولعل اللافت من المواقف التي صدرت عن قوى سياسية عراقية أول أمس كلام رئيس “تحالف السيادة” خميس الخنجر، وهو في الأساس حليف الصدر في إطار التحالف الثلاثي الذي ضم أيضاً “الحزب الديموقراطي الكردستاني”، إذ دعا الى “صوغ عقد وطني جديد في العراق”! هذا الموقف له دلالاته، لأنه يضع على المحك أسس اللعبة السياسية العراقية القائمة منذ أعوام. كما أنه يلتقي في مكان ما مع ما ينقل عن الصدر من أنه يريد إعادة صوغ العملية السياسية العراقية برمتها.

وبالطبع يهدف الصدر الى محاصرة “الإطار التنسيقي” الذي يعتبر الذراع السياسية لميليشيات “الحشد الشعبي” التي يهيمن عليها “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري الإيراني، ما يستبطن محاولة لتقليص النفوذ الإيراني المباشر على القرار الوطني العراقي، على الرغم من أن مقتدى الصدر ليس خصماً لطهران كما يعتقد البعض، أو كما يريد هذا البعض الإيحاء به.

لكن الدور الإيراني في العراق هو اليوم على المحك. فقد بدأت تسود فكرة بين النخب، وفي الأوساط الشعبية مفادها أن ايران نهبت خلال العقدين الماضيين ثروات لا تحصى من العراق من خلال تمويل اقتصادها عبر العراق بالالتفاف على نظام العقوبات الدولية التي تعرضت لها. كما أن النفوذ الإيراني واضح على ميليشيات تختبئ خلف يافطة “الحشد الشعبي” الذي شكّل إثر فتوى من مرجعية النجف، لمواجهة تنظيم “داعش”. واليوم يمكن القول إن التنظيم لم يعد موجوداً بالمعنى الذي سبق. بقيت له خلايا نائمة هنا و هناك بين العراق وسوريا، لكنه دمر بشكل سيمنعه من أن يعود كما كان في ما سبق. هنا تطرح إشكالية “الحشد الشعبي” الذي ألحق عبر القانون بالقوات المسلحة الشرعية، لكنه لم يندمج بها، وبقي إطاراً مستقلاً تأتمر الأكثرية الساحقة من فصائله بـ”فيلق القدس” فيما لا يملك رئيس الحكومة، وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة أي تأثير فيه.

ومعلوم أن ميلشيات “الحشد الشعبي” تقوم بعمليات أمنية ومسلحة بقرار منفصل عن اطار القوات المسلحة، من دون ان ننسى الارتكابات التي حصلت في سياق الحرب على “داعش” واستهدفت الطائفة السنية بشكل مباشر. وهنا يحكى عن مئات لا بل آلاف الشبان السنة الذين اعتقلوا واختطفوا واختفوا إلى غير رجعة.

ثمة وجهان للأزمة العراقية اليوم. الوجه الأول يتعلق بالعملية السياسية التي يحاول مقتدى الصدر تغييرها، كالعمل على فرض القبول بتشكيل حكومة أكثرية تقطع مع السياق الذي ساد لأعوام بفرض حكومة مسماة “حكومات وحدة وطنية”! هذه إشكالية تذكر المراقبين بما يحصل في لبنان، حيث فرض “حزب الله” بشتى الوسائل السياسية، الجماهيرية و الأمنية، ألاّ تؤلف حكومات إلا حكومات “وحدة وطنية” يسيطر عليها بقوة امتلاكه وسائل العنف. أما الوجه الآخر، وربما الأعمق للأزمة، فيتمثل بأزمة الدور الإيراني في العراق. إنه أكثر من دور. إنه هيمنة واسعة على مؤسسات الدولة السياسية والأمنية، وبالتالي على العملية السياسية برمتها. فهل يعقل أن يزور المسؤول عن ملف العراق في النظام الإيراني قائد “فيلق القدس” إسماعيل قآني، كما سلفه قاسم سليماني بغداد عشرات المرات في العام الواحد في مهمات أمنية، وسياسية داخلية؟

لا يمكن التسرع في الخوض بنوايا مقتدى الصدر، ولكن أزمة الدور الإيراني تطرح نفسها أياً تكن حسابات الصدر ومآلات حركته. يكفي أن ينصت المراقبون إلى بعض الشعارات التي تطلق في تظاهرات التيار المشار اليه، وهي معادية، لكي يتبين ان المشكلة الإيرانية في العراق هي مع قسم وازن من الطائفة الشيعية من دون أن ننسى بقية المكونات.

هل تنفجر مواجهة أهلية؟ كل الاحتمالات مفتوحة. الانزلاق ممكن. والدّم يسيل بسهولة في العراق.

نقلاً عن “النهار”

 

موضوعات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى