مقالات

الردع العسكري لإيران والموانع السياسية

وليد فارس
 
غالباً ما نُسأل شرقاً وغرباً: لماذا لا تحسم الولايات المتحدة أمرها عسكرياً مع إيران بدلاً من الغرق في أدغال المفاوضات اللامتناهية، والتنازلات غير المتوازنة، واستيعاب الضربات الإرهابية طيلة عقود وعقود؟ ونُسأل أيضاً: لماذا لا تدعم واشنطن حلفاءها الإقليميين عندما يواجهون إيران وحلفاءها، كالسعودية والتحالف العربي ضد الحوثيين في اليمن، أو الأكراد والسنة ضد الحشد الميليشياوي في العراق، أو ثورة الأرز ضد “حزب الله” في لبنان، أو المعارضة السورية ضد نظام بشار الأسد. ويتفق جميع السائلين والمتسائلين على مسألة واحدة: لو أرادت أميركا لكانت أنهت القوة العسكرية لإيران، فلماذا تهرب مما هي قادرة عليه ميدانياً، ما دامت طهران ترفع شعار “الموت لأميركا”؟
 
هل أميركا قادرة على الحسم؟
 
في المطلق، قوة عظمى كالولايات المتحدة لا تُقارن عسكرياً بدولة متوسطة القوة عالمياً، وإن كانت قوة مهددة لدول وشعوب في الشرق الأوسط، كإيران. فأميركا تغلبت على قوتين عالميتين خلال الحرب العالمية الثانية، وحاصرت الاتحاد السوفياتي حتى انهياره خلال الحرب الباردة. وهي الآن تقاس بروسيا والصين، لا بدول أخرى.
 
وقد يحاجج البعض أن فيتنام الشمالية قد انتصرت عسكرياً على الولايات المتحدة، لكن الحقيقة كانت أن الجيش الأميركي كان يتواجه بشكل غير مباشر مع الصين والاتحاد السوفياتي، وليس فقط القوة الفيتنامية الشيوعية، وأن قرار الانسحاب كان بسبب الداخل، وليس ساحة المعركة. ويضاف إلى ذلك أن السوفيات خرجوا من أفغانستان لأسباب مثيلة. أما بعد انتهاء الحرب الباردة لم تتمكن أية قوة إقليمية أن تقهر الأميركيين أكانت صربياً أو العراق أم ليبيا. والمقياس نفسه يطبق على إيران إن قررت واشنطن أن تضرب الآلة العسكرية الإيرانية. فأميركا ستنتصر من دون أي شك. فما هي السيناريوهات النظرية المحتملة؟
 
سيناريوهات
 
في الوضعية الجيوسياسية الحالية أية معركة أميركية كاسحة مع إيران ستمتد ليس فقط داخل إيران، ولكن عبر المستعمرات الأربع في العراق وسوريا ولبنان واليمن. ومن دون دخول تفاصيل قد لا نعرف معظمها، فالمحاور الأساسية لحملة أميركية شاملة على إيران قد تشمل ما يلي:
 
1. حملة قصف بالطيران والصواريخ لكل قواعد الصواريخ والطائرات المسيّرة والرادارات في إيران والعراق. أما البطاريات في سوريا ولبنان، بما فيها التابعة لـ”حزب الله”، فقد تتشارك قوات الطيران الأميركية والإسرائيلية، وأخرى بإزالتها، فتنتهي المظلة الجوية والقوة الصاروخية “للمحور” من حدود أفغانستان إلى الضاحية الجنوبية لبيروت.
 
2. تقوم البحرية الأميركية وأسلحة الطيران المشتركة للتحالف بضرب الطيران الإيراني والقواعد الجوية وكامل سلاح البحرية للحرس الثوري، وإزالتهم من الخليج والمحيط الهندي وبحر قزوين والبحر المتوسط.
 
3. ومع تدمير أسلحة الصواريخ والطيران والبحرية الإيرانية تركز القوات الأميركية والحليفة على إنهاء برنامج طهران النووي وأسلحة الدمار الشامل، من دون أية إعاقة.
 
4. في المرحلة الرابعة، تتشعب السيناريوهات إلى عدة احتمالات ميدانية، ولكن ما قد تقوم به الحملة الأميركية إذا حصلت هو إقامة جدار عسكري بين سوريا والعراق يقطع طريق إيران عن قواتها المتمركزة في سوريا، وعن “حزب الله”. ويتبع ذلك حصار بحري على إيران و”حزب الله” و”حماس”.
 
5. أما بعد ذلك فتقررالقيادة الأميركية وحلفاؤها مصير “الإمبراطورية” على الأرض، أي الخطوات الاستراتيجية في إيران، والعراق وسوريا ولبنان واليمن، أي مع من تتحالف في كل دولة، ما هو مصير الأنظمة، وكيف تُعالج القوات العسكرية والميليشيات الإيرانية. وهذا يدخل في إطار الجزء الثاني من حملة كهذه، أي إنهاء النظومة القائمة واستبدالها بمؤسسات عسكرية بديلة.
 
الموانع
 
الخلاصة العامة للسيناريوهات هي أنها ليست فقط ممكنة، بل محسومة إن اتخذ قرار كهذا قرار بنقل المسألة إلى المستوى العسكري. فعلى هذا المستوى، لدى الولايات المتحدة القدرة الاستراتيجية للحسم مع النظام وفرض الحل الذي تريده، ولكن هنا يطرح التساؤل عما يمنع واشنطن من فرض خيار كهذا، أو على الأقل التلويح به لإجبار إيران على تغيير سياستها؟ هنالك بحسب ما يرى ولا يرى موانع متعددة، منها ما هو خارجي، وأغلبها ما هو – أو بات – داخلياً في أميركا.
 
المانع الأول هو التعقيدات الدولية إذا قررت واشنطن أن تعتمد الحل العسكري، أي تقدير التدخل الروسي والصيني ضد احتمال عملية أميركية. فلا واشنطن ولا موسكو ولا بكين تريد مواجهة عسكرية مباشرة بينها، بسبب إيران. لذا فعلى الإدارة، إذا قررت القيام بعمل ميداني، أن تحسب تدخل قوتين عسكريتين عالميتين. إذا كان سبب المواجهة وجيهاً ويمس الأمن القومي الأميركي، أو يحمي مصلحة أميركية كبيرة، فستتخذ واشنطن قرارها. أما إذا كان السبب لإرضاء حلفاء، أو لا يحظى بدعم شعبي داخلي، فالمسألة تتعقد.
 
المانع الثاني هو هدف أية حملة قد تقوم بها الولايات المتحدة، وهو تحديد الهدف النهائي لمرحلة ما بعد المواجهة، شكل الحكومة الآتية وطبيعة العلاقة بعد عملية كهذه عملية. فبعكس ما يتخيله كثيرون في الشرق الأوسط، أميركا لا تقوم بحملات يميناً ويساراً لوجه الله، ولا دولة أخرى تقوم بذلك إلا إذا كان هنالك هدف محدد. فما حصل في العراق وأفغانستان وليبيا يؤثر على أي قرار أميركي محتمل حيال إيران. فهل الهدف النهائي إجبار النظام على القبول بشروط معينة، أو سقوطه؟ وإن كان الهدف هو الشروط، فما هي؟ وإن كان الهدف سقوط النظام، فمن يتسلم بعده؟ واشنطن لا تتحرك من دون خطط دقيقة، سواء أكانت ناجحة أم غير ناجحة، لذا ما لم تكن هنالك خطط وبرامج للتحرك فلن يكون هنالك أي تحرك، ليس لعدم القدرة، بل لعدم وجود سبب وخطة، وهدف معين. وهنا يأتي المانع الأهم.
 
المانع الثالث هو اللوبي المضاد للضربة على إيران. و قد شرحنا عبر عدة مقالات سابقة تاريخ اللوبي الإيراني وتطوره إلى لوبي للاتفاق النووي، وكيف تمكن من الضغط على أربع إدارات لتمتنع عن توجيه أي ضربة إلى إيران، على الأقل منذ غزو العراق في 2003. هذا المانع يتلخص بأن تتمكن كتلة الضغط المؤيدة لإيران أو المصالح المرتبطة بالاتفاق النووي، أن تعمل المستحيل “لمنع” – نعم لمنع – أية إدارة أميركية من توجيه ضربة عسكرية إلى النظام في طهران، بشتى الوسائل المتاحة داخل الولايات المتحدة. من “تظاهرات ضد الحرب” ودعم حملات إسقاط الأكثرية الجمهورية في الكونغرس (وقد نجحت في 2006) إبان فترة بوش، إلى الشراكة المتلاصقة مع إدارة أوباما لثماني سنوات وإنتاج الاتفاق النووي (2009 – 2016)، إلى دعم أشرس معارضة ضد إدارة دونالد ترمب، التي نجحت بإسقاطه في 2020، إلى إدارة بايدن التي تتراكض للعودة إلى الاتفاق. فكيف يمكن لأي من تلك الإدارات أن تأمر بحرب على إيران بينما هي ترزح تحت ضغوط لوبيات كبيرة وفعالة؟ و كما شرحنا سابقاً فهذه الكتل الضاغطة تسيطر على أغلبية الإعلام، ومدعومة من شركات ضخمة، وتتأثر بالأكاديمية الأميركية التي تم اختراقها من العقائديين من نهاية الحرب الباردة، وهذا يعني أن “الإسلامويين” (إخوان وخمينيين) قد حسموا المعركة الفكرية لصالحهم منذ عقود، وربطوا البيروقراطية بالمصالح الاقتصادية وباليسار المتطرف، منذ سنوات داخل أميركا، ليشكلوا مظلة لحماية مشاريعهم في المنطقة، ولا سيما مصالح النظام الإيراني. من هنا، وعلى الرغم من القوة الساحقة للولايات المتحدة عسكرياً، واستعداد أركان الدفاع والاستخبارات فيها لإتمام المهمة إن أعطيت الأوامر، فإن من يعطل هذه الأوامر هي قوة اللوبي الإيراني وماله.
 
المنطقة لا تصدق
 
أما المفارقة الكبرى، وقد اختبرناها لثلاثة عقود في أميركا، فهي أن الرأي العام ومعظم الصحافة وبعض أصحاب القرار، في الشرق الأوسط الكبير لا يصدقون أن قوة عظمى كالولايات المتحدة “تسمح لدولة مارقة كإيران أن تتحداها علناً”. ولا يصدقون أن أميركا “غير قادرة على إنهاء الغطرسة الإيرانية”، بالتالي يستنتجون أن المؤسسة السياسية الأميركية مبنية على “مؤامرات”. من هنا، فواشنطن هي التي تستعمل إيران للسيطرة على المنطقة. فقط قلائل العارفين بدقائق السياسة الأميركية يدركون أن السياسات الأميركية تعكس توازنات داخلية وخارجية دقيقة غير موجودة في كل بلدان العالم. لذلك، نرى إسرائيل وأخيراً بعض دول التحالف العربي يتحركون بتأنٍ وحزمٍ، عند تعاطيهم مع أدغال السياسة في واشنطن.
 
نقلا عن الاندبندنت عربية
 

موضوعات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى