التعقل لإيران والجنون لغزة ولبنان
طوني فرنسيس
يزداد الحديث عن مهلة شهرين، أي حتى الـ 20 من يناير (كانون الثاني) 2025 موعد تسلم الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب، يتمتع خلالها بنيامين نتنياهو بحرية حركة غير مسبوقة ودعم أميركي حاسم لإكمال مشروعه في الانتهاء من حركة “حماس” في غزة و”حزب الله” في لبنان، وربما الانقضاض على التنظيمات المعادية في اليمن والعراق، وصولاً إلى احتمال توجيه ضربة قوية إلى إيران نفسها.
وضمن هذه المهلة نفسها سيكون على إيران ترتيب أوراقها ومحاولة تثبيت مواقعها الباقية استعداداً لما يمكن اعتباره الصفقة النهائية مع الإدارة الأميركية العتيدة، وإلى هذين الطرفين، إسرائيل وإيران، يتحرك موقف عربي مسؤول تقوده السعودية عبر محطتين بارزتين، اجتماع التحالف الدولي من أجل حل الدولتين والقمة العربية الإسلامية، وهو تحرك يرسم معالم تسوية حقيقية يلاقي التحولات الدولية والانتقال البارز في رأس هرم السلطة الأميركية، هدفه رسم فعلي لمعالم “يوم تال” طال انتظاره.
وفي هذين الشهرين سينصرف ترمب إلى إعداد إدارته المقبلة استعداداً للانطلاق في تنفيذ وعوده الطموحة، ومنها “إنهاء حروب الشرق الأوسط وأوكرانيا، فيما ستحاول إدارة الرئيس جو بايدن الراحلة إنهاء عهدها بتسجيل نقاط إيجابية قدر الإمكان في الشرق الأوسط، فهنا، وعلى خلاف أوكرانيا التي تعني في بعدها الجيوسياسي أوروبا أكثر من الولايات المتحدة، سيحاول بايدن الداخل منذ البداية في دعم مطلق لإسرائيل، أن يسجل نقطة ينهي فيها وبها تجربة الإدارة الديمقراطية، قوامها التوصل إلى وقف للنار في غزة يتيح إطلاق الأسرى، وإلى تسوية في لبنان على قاعدة تنفيذ القرار الدولي رقم (1701)، وإنهاء دور “حزب الله” المسلح واستعادة مؤسسات الدولة اللبنانية دورها بدءاً من انتخاب رئيس للجمهورية .
لكن طموح الإدارة الديمقراطية في واشنطن ليس محكوماً بالنجاح، فالتسويات التي تعتقد أن بإمكانها الوصول إليها في مرحلة “البطة العرجاء” ليست مرتبطة بإرادتها فقط، فعلى خشبة المسرح الحربي يلعب آخرون، والإرث الذي يريد بايدن تركه قبل مغادرته مع إدارته الديمقراطية سيعمل لاعبان آخران، في الأقل، على إحباطه كل ضمن حساباته.
سيسعى بنيامين نتنياهو خلال هذين الشهرين، مدعوماً بفوز صديقه ترمب الكاسح إلى تنفيذ مشروعه الطموح في إنهاء ما يعتبره “أذرع ايران” في لبنان وفلسطين، “حزب الله” و”حماس” وغيرهما، وإلى تشديد الضربات العسكرية ضد الأذرع الأخرى في العراق واليمن وسوريا، فيما يهدد ويستعد لتوجيه ضربة قاصمة لإيران نفسها بعد الهجوم الأخير على هذا البلد الذي اعتبره محللون إسرائيليون “نجاحاً عملياتياً يسمح بتغيير إستراتيجي في المعركة بين الدولتين”.
فبعد هذا الهجوم “بقيت إيران مكشوفة، وإسرائيل يمكنها عملياً أن تهاجمها مرة أخرى متى تقرر”، يقول الكاتب الإسرائيلي يوآف ليمور.
من جهتها كانت إيران هددت برد ماحق على تدمير إسرائيل بطاريات دفاعها الجوي ومصانع صواريخها أرض- أرض، ووعد المرشد علي خامنئي قبل فوز ترمب بـ “كسر أسنانها”، وتوالت تصريحات المسؤولين الإيرانيين عن “إزالة الكيان المزيف من الوجود”، لكن هذه اللهجة تبدلت تماماً بعد إعلان نتائج انتخابات الرئاسة الأميركية، فأوقفت القيادة الإيرانية الحديث عن الرد وتدمير الكيان وصارت تتحدث عن الحكمة والتعقل، وعن هزيمة سيلقاها العدو على يد “حزب الله” و”حماس”.
انسحبت دولة الملالي وولي الفقيه من المعركة، واعتمدت حزبها في لبنان لمواصلة القتال، وخامنئي، يوم إعلان فوز ترمب، جمع أعضاء “مجلس خبراء القيادة” وأبلغهم أن النضال في لبنان وغزة وفلسطين سيؤدي إلى انتصار جبهة المقاومة، وبلغت إشادة خامنئي بـ “حزب الله” حد نسبة فضل الانسحاب الإسرائيلي من بيروت في سبتمبر (أيلول) 1982 إليه وهو لم يكن موجوداً، لكن هذه الإشادة بدت ضرورية، فعلى هذا الحزب يعتمد خامنئي الآن بما يعفي إيران من دفع أثمان المواجهة.
وأعقبت توجيهات المرشد التي خلت من أية إشارة إلى رد إيراني ماحق على “العدو الصهيوني” إزالة شعار “الوعد الصادق-3” الذي اعتمده التلفزيون الرسمي على شاشته منذ قيام إسرائيل بهجومها الأخير على إيران، ثم توالت تصريحات المساعدين لشرح تلك التوجيهات، فشدد مستشار المرشد، علي لاريجاني، على أنه “لا يجب الوقوع في فخ إسرائيل بعد فشلها في غزة ولبنان، ويجب على إيران أن ترد بعقلانية”، والرئيس مسعود بزشكيان مد اليد إلى الإدارة الأميركية الجديدة قائلاً “لن تكون لدينا نظرة منغلقة ومحدودة في توسيع علاقاتنا مع الدول”، أما مستشاره الأول جواد ظريف فاعتبر أن تصويت “معظم المسلمين” في أميركا لترمب هو رفض “لعام مشين من تواطؤ الولايات المتحدة مع إسرائيل”، آملاً أن “تقف إدارة ترمب ضد الحرب وتستجيب للدرس الواضح الذي قدمه الناخبون الأميركيون لإنهاء الحروب ومنع حروب جديدة”.
العقلانية التي يريدها الإيرانيون لأنفسهم يمنعونها من أتباعهم، فلقد دمرت غزة وشُرد أهلها، ولبنان يسير على طريق القطاع، وعلى “حزب الله” و”حماس” مواصلة المهمة الإيرانية القذرة وتدمير المجتمعات التي ينتميان إليها في انتظار ما ستسفر عنه عقلانية طهران في التودد إلى ترمب، والامتناع من استفزاز إسرائيل.
وفي هذه المرحلة من الزمن تقتضي توجيهات المرشد من التنظيمين مواصلة القتال ورفض الحلول، بما فيها التي ستقترحها إدارة بايدن، وقد شرح قائد الحرس الثوري حسين سلامي بالتفصيل أفكار قائده الخامنئي فقال إن “العالم شاهد كيف أن ‘حزب الله’ تجاوز الخسائر واستعاد زمام الأمور، ومقاومة غزة قادرة على التأثير في الحكومة الأميركية، إذ إن الشعب الأميركي لم يصوّت لمن قاموا بتعزيز آلة القتل الصهيونية”.
وسلامي كان يعني أن قتال المقاومة الخامنئية في غزة ولبنان أطاح ببايدن وجاء بترمب الذي عليه أن يدرك أن “توسيع نطاق الحرب سيؤدي فقط إلى تآكل صدقية أميركا”، على قول قائد الحرس الثوري الإيراني الحريص على تلك الصدقية، ولو كان ثمن إثباتها القتال حتى آخر لبناني وفلسطيني.
بين عقلانية الملالي المتوهجة إثر فوز ترمب، وحماسة نتنياهو لإكمال المهمة للسبب نفسه، سنكون على الأرجح أمام مزيد من دمار اللاجدوى حتى مطلع العام المقبل، ومزيد من الموت والدمار في لبنان وفلسطين بانتظار أن يمسك ترمب بالقيادة، وعندها ربما تقدم إيران صفقتها الكبرى فتبيع لبنان وغزة سوية إلى الرئيس الجمهوري الأميركي القوي في مقابل ثمن يتعلق ببقاء نظامها، تماماً مثلما باع الخميني قبل 43 عاماً رهائن السفارة الأميركية في طهران إلى رونالد ريغان الجمهوري نكاية بجيمي كارتر الديمقراطي، وأملاً بصفحة جديدة مع الأميركيين تُرجمت لاحقاً إلى حرب مشتركة ضد الاتحاد السوفياتي في أفغانستان.
نقلاً عن اندبندنت عربية